شعار قسم ميدان

"الشتاء قادم".. هل حضرت الموجة الثانية من كوفيد-19 بالفعل؟!

في حديث أخير مع الإذاعة البريطانية علّق روجر كيربي(1)، رئيس الجمعية الملكية للطب، على قدوم موجة ثانية من كورونا المستجد في بريطانيا قائلا إن "الشتاء قادم"، مُستعيرا الجملة من المسلسل الشهير "صراع العروش"، الأمر الذي تسبّب في حالة هلع لدى البعض. لقد تركت الأشهر الأولى من هذا العام لدى مواطني العالم كله صدمة نفسية حقيقية لا يود أيٌّ منا أن تتكرر، لكنها للأسف قد تفعل.

 

عنوان ميدان

في الواقع، فإن اصطلاح "الموجة الثانية" ضبابي بعض الشيء، نظريا من المفترض أنه يعني وقوفا تاما للفيروس ثم انطلاقة للأعلى في أعداد الحالات اليومية مرة أخرى، لكن الأمر في حالة "كوفيد-19" ليس كذلك، ولفهم مدى تعقيد الأمر دعنا نتأمل الحالة الإسبانية(2)، قبل شهرين فقط وصلت أعداد الإصابات المسجلة يوميا هناك إلى مئتي شخص تقريبا، لكن خلال يوليو/تموز وأغسطس/آب تصاعدت الحالات اليومية مرة أخرى لنصل إلى أكثر من 9000 إصابة في يوم 21 أغسطس/آب الماضي.

 

إسبانيا ليست حالة خاصة، وإن كانت الأكثر قسوة بحيث تسبّبت في حالة رعب في بقية أوروبا، لكن فرنسا مثلا سجّلت في الثالث من سبتمبر/أيلول نحو 9000 حالة أيضا، أما بالنسبة لبقية أوروبا فلنأخذ بريطانيا وألمانيا على سبيل المثال، حيث بدأت الحالات اليومية هناك بالتزايد وصولا إلى 1500-2000 حالة يوميا، وكان بوريس جونسون قد حذّر البريطانيين بالفعل من قدوم موجة ثانية مع اقتراب الشتاء، قائلا إنها ستكون أشد قسوة.

 

 

لكن على الجانب الآخر، إنْ تأملنا وضع العالم كله، فسنجد صورة مختلفة تتضمّن موجة واحدة كبيرة بدأت في ديسمبر/كانون الأول الماضي وما زالت تتصاعد (27 مليون إصابة حتى اللحظة)، تأمّل بلادا مثل الهند مثلا، والتي سجّلت رقما قياسيا جديدا في الثاني من سبتمبر/أيلول وهو 87 ألف حالة في يوم واحد فقط، وبالاتحاد مع البرازيل والولايات المتحدة الأميركية فإن هذه الدول الثلاثة ما زالت مستمرة في تصاعدها ولم تتوقف ثم تنطلق من جديد، الولايات المتحدة تحديدا بدأت مع جميع الدول الأوروبية، لكنها لم تتوقف كما فعلوا.

 

عنوان ميدان

بالنسبة لدول أوروبا، فإن الأمر يبدو كذلك، لكن في الدول العربية يمكن أن نجد مثالا واضحا على درجة من التخبُّط في تزامن الموجات الفيروسية، في السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة ومصر مثلا فإن أعداد الحالات المعلنة كانت في انخفاض خلال الشهرين الماضيين، بينما في المغرب والعراق فإن أعداد الحالات اليومية تشهد ذروتها حاليا، العراق تحديدا سجّل في أول سبتمبر/أيلول نحو 5 آلاف إصابة في يوم واحد فقط.

هناك أسباب عدة تُساهم في هذا التخبُّط، فرغم أن أحد أسباب الموجة الثانية هو قدوم الشتاء، حيث يُتوقَّع(3) أن ينشط الفيروس في الشتاء مقارنة بالصيف كعادة هذا النوع من الفيروسات التاجية، فإنه ليست هناك دراسات كافية في هذا الشأن، وما زلنا لا نعرف بشكل مؤكد ما تأثير الطقس على انتشار الفيروس، لكن المؤكد أن الطقس الحار الرطب قد يخفض انتشار كورونا المستجد، لكنه لن يمنعه نهائيا.

 

لكن يبدو أن هناك سببا آخر أكثر تأثيرا على هذا التخبُّط، وهو إجراءات الغلق، الدول الأوروبية التي مارست إجراءات أكثر حِدّة انخفضت أعداد الحالات بها بوضوح، أما الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال فقد كان التخبُّط السياسي بها حول هذا الأمر سببا في تصاعد أعداد الحالات، كذلك يمكن أن يكون الحال في الموجة الثانية، يتوقع بعض الباحثين أن مشكلة إسبانيا تحديدا تتعلّق بأن الفتح كان متعجِّلا واختلط الناس سريعا، بينما ما زالت دول أخرى تتّخذ حذرها.

 

من جهة أخرى فإن هذا التخبُّط قد يكون ذا علاقة بانفجار بؤر جديدة في الدولة نفسها، بمعنى أنه قد لا تكون هناك موجة ثانية في إحدى الدول لكن مدينة جديدة أصبحت مركز الفيروس خلال الفترة الأخيرة، في إسبانيا(3) مثلا كانت أقاليم مثل كتالونيا والباسك والعاصمة مدريد هي الأكثر تضرُّرا في مارس/آذار، أما الآن فإن الضرر يظهر بشكل أكبر في منطقة آرغون شمال شرق البلاد.

 

عنوان ميدان

في الواقع، فإن المخاوف من الموجة الثانية من كورونا المستجد ظهرت مع لحظة ظهوره، حيث أعاد الفيروس أذهان العلماء إلى الإنفلونزا الإسبانية(4) عام 1918، حيث بدأت بموجة قصيرة في أشهر الصيف، لكنها اجتاحت العالم بداية من سبتمبر/أيلول في موجة هي الأعنف خلال قرن كامل، ثم بعد ذلك جاءت موجة ثالثة خفيفة في الربيع التالي، قتلت الإنفلونزا الإسبانية نحو 50 مليون شخص حول العالم، والموجة الثانية تحديدا كانت أكثر قسوة على فئات عمرية صغيرة.

انفوجراف

بجانب الإنفلونزا الإسبانية، كانت هناك مجموعة من الجوائح التي ضربت العالم خلال القرن الماضي، وهي فيروس الإنفلونزا أ (H2N2) الذي انتشر من الصين إلى سنغافورة في فبراير/شباط ثم هونغ كونغ في إبريل/نيسان من عام 1957 ثم سافر لكل العالم، كذلك إنفلونزا هونغ كونغ أو فيروس الإنفلونزا (H3N2) الذي انتشر بين عامَيْ 1968-1969 وأدّى إلى وفاة ما يقارب مليون شخص، وأخيرا إنفلونزا الخنازير أو فيروس الإنفلونزا (H1N1) في عام 2009، في كل هذه الحالات جاءت موجة ثانية أكثر قسوة5 في فصل الخريف وبداية فصل الشتاء.

 

وكانت دراسة قد صدرت مؤخرا في دورية "ساينس" (Science) المرموقة تُشير(6) إلى أن موجات كورونا المستجد لن تتوقف عن القدوم، وسيتحدّد مستقبله وصولا إلى العام 2025 بحسب استجابة البشر المناعية للفيروس، وتأثير حرارة الصيف عليه، الأمران اللذان نجهلهما إلى الآن، قد يأتي كموجات موسمية صغيرة أو عاتية، وفي أثناء ذلك على كل دولة تخفيف أو تشديد إجراءات العزل الاجتماعي بحسب تفشي الوباء لديها ومناسبة منظومتها الصحية، لحين وصول لقاح على الأقل.

 

عنوان ميدان

حسنا، تغيّر الكثير منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، في الواقع لقد انخفضت نِسَب الوفيات لعدة أسباب، فقد توفّرت أجهزة اختبار الفيروس بشكل أكبر وأكثر، ما أتاح إجراء عدد أكبر من الفحوص، لدرجة جعلت 50% من النتائج الإيجابية في إسبانيا(7) على سبيل المثال هي لأشخاص بلا أعراض تماما، بل إن ذلك قد دفع بعض الباحثين للقول بالحاجة إلى مناقشة درجة حساسية أجهزة الفحص(8)، لأن بعض الأشخاص قد يحتوي على كميات قليلة جدا من الفيروس ويُحسب إيجابيا، لكنه سليم من وجهة نظر طبية ولا يمكن له أن ينقل العدوى للآخرين.

انفوجراف

هذا بالطبع هو أحد أسباب تفاقم الحالات الجديدة في إسبانيا وفرنسا، وهو كذلك السبب في انخفاض نِسَب الوفيات، مع سبب آخر أكثر أهمية وهو أن الأطباء أصبحوا أكثر خبرة في التعامل مع هذا المرض، على سبيل المثال يمكن أن تتأمل الطفرة التي أحدثها استخدام الديكساميثازون(9) مع الحالات المتقدمة، والذي خفّض نِسَب وفيات المرضى على أجهزة التنفس من 40% إلى 28%، وللمرضى على الأكسجين العادي من 28% إلى 20% مع استخدامه، واعتُمِد من قِبَل كثير من الدول في بروتوكولاتها.

 

من جانب آخر فإننا أصبحنا أكثر قدرة على فهم مضاعفات المرض، يتّضح ذلك -على سبيل المثال- فيما حصّلناه مؤخرا من معرفة أن "كوفيد-19" يمكن أن يتسبّب في جلطات دموية والتي يمكن أن تسافر لكل أنحاء الجسم مُتسبِّبة في أضرار بالغة للأعضاء، كان ذلك في الكُلى أو القلب، أو حتّى الدماغ، حيث يمكن لكورونا المستجد أن يقتل مرضاه بسكتة دماغية، هذه المعرفة مَكّنت الأطباء من إنقاذ الكثير من الحالات المتقدمة(10).

 

كذلك فإن اللقاح بات على مقربة منا، كانت نتائج التجارب في المراحل الأولى والثانية والثالثة على البشر واعدة في عدد من اللقاحات(11)، ويُعتقد أنه يمكن أن يبدأ الإنتاج بأعداد ضخمة خلال أشهر قليلة، لكن ذلك في المقابل يعني الحاجة إلى الانتظار حتى منتصف 2021 حتى يمكن توزيع اللقاح على نطاق واسع، ما يعني أننا قد نواجه الموجة الثانية، إن جاءت، وهذا هو التوقُّع الأكثر احتمالا، ونحن بلا درع يقينا سوى إجراءات التباعد.

 

عنوان ميدان

 

كورونا

في الواقع، فإن نقاط ضعفنا تجاه هذا الفيروس تتعلّق بقدر ما نعرفه عنه، فنحن غارقون في محيط شاسع من الضبابية، لا نعرف الكثير عن سلوك الفيروس في الصيف، حيث يُحدِّد ذلك إن كان سيأتي في صورة موجات موسمية أم لا، كذلك لا نعرف استجابة البشر المناعية له أو تأثيرات التغيرات الجينية على فاعليته، في دراسة صدرت قبل عدة أسابيع(12) أُشير إلى أن الفيروس أصبح أكثر قدرة على الانتشار، لكن لم نلاحظ بعد إن كان قد أصبح أكثر ضراوة، وكان روجر كيربي قد أشار بالفعل إلى أن تغيُّرات كهذه يمكن أن تُحوِّل كورونا المستجد ناحية فئة الشباب بدلا من كبار السن في الموجة الثانية.

 

من جانب آخر فإننا لا نعرف الكثير عن استجابة أجسامنا المناعية للفيروس، وهو السؤال الأكثر أهمية إلى الآن، وكانت دراسة جديدة قد صدرت فقط قبل عشرة أيام(13) تُشير إلى تسجيل أول حالة مؤكدة لمواطن من هونغ كونغ كان قد أُصيب بـ "كوفيد-19" في مارس/آذار الماضي لكن عاودته الإصابة بفصيلة مختلفة من كورونا المستجد بعدها بأربعة أشهر بينما كان في إسبانيا، يُشير ذلك إلى أن المناعة التي نُطوِّرها تجاه الفيروس قد تكون لفترة قصيرة.

 

ويعتقد العلماء في هذا النطاق أن قدر المناعة التي نطوِّرها يتأثر بشدة الأعراض، فهؤلاء الذين طوّروا أعراضا خفيفة سيُطوِّرون في المقابل مناعة ضعيفة تمكث لفترة قصيرة (أشهر قليلة)، بينما يمكن لهؤلاء الذين عانوا مع المرض بصورة أكبر أن تستمر مناعتهم لفترات أطول، لكنّ ذلك إلى الآن غير معروف، وهو بدوره يؤثّر على مفهوم أكثر أهمية وهو "مناعة القطيع"، كانت دراسة إسبانية قد أشارت عبر اختبار عشوائي(14) إلى أن 5% فقط من السكان يحمل أجساما مضادة لفيروس كورونا المستجد، يعني ذلك أن أحلام مناعة القطيع مُهدَّدة بالضياع.

كورونا

كما تلاحظ، فإن ما لا نعرفه هي معايير تؤثّر جذريا على ردود أفعالنا، وبالتالي قد تكون خططنا للمواجهة خاطئة بشكل أو بآخر، قد يكتشف العلماء في مرحلة ما أنه لم تكن هناك فائدة أصلا من أحد تكتيكات العزل الاجتماعي، وقد نكتشف أن أحدها أهم من الآخر، أو قد تظهر نوعيات جديدة من أساليب العزل لحين وصول اللقاح، يقترح بعض العلماء مثلا أن تتم إجراءات العزل بشكل متقطّع وبحسب عدد الحالات الجديدة في كل دولة بحيث لا يُرهق النظام الصحي، فتُجرى لمدة أسبوعين أو أربعة كل شهرين أو أكثر.

 

في كل الأحوال، الزمن كفيل بكشف تلك الأسرار، وبقيت أشهر قليلة حتّى نعرف، لكن إلى ذلك الحين ننصحك، قارءنا العزيز، بأن تعاود الالتزام بإجراءات السلامة مرة أخرى، ونقصد هنا المسافات في حدود متر إلى مترين بينك وبين الآخرين، والكمامة، وغسل اليدين بالماء والصابون كلما أمكن، (راجع تقريرا سابقا بعنوان: مع فتح البلاد.. ماذا يخبرنا البحث العلمي عن أخطر الأماكن في محيطنا؟)(15)، إذا كنت قد أهملت فيها، وهو سلوك أصبح شائعا حاليا لدرجة أنك قد تمشي في أحد الأسواق الكبرى ولا تجد كمامة واحدة.

___________________________________________________________________________________

المصادر

  1. Second wave could target young people this time, scientists warn
  2. جميع البيانات الخاصة بالإصابات والوفيات حصل عليها الكاتب من منصة "ورلد ميتر"
  3. First and Second Waves of Coronavirus
  4. 1918 Pandemic Influenza: Three Waves
  5. Coronavirus and the Flu: A Looming Double Threat
  6.  Projecting the transmission dynamics of SARS-CoV-2 through the postpandemic period
  7. ‘Here We Go Again’: A Second Virus Wave Grips Spain
  8. Your Coronavirus Test Is Positive. Maybe It Shouldn’t Be.
  9. Coronavirus: Dexamethasone proves first life-saving drug
  10. ماذا وجد العلماء عند تشريح جثث قتلى كوفيد-19؟
  11. العالم يقترب من الانتصار.. متى سنحصل على أول لقاح لكوفيد-19؟
  12. The D614G mutation in the SARS-CoV-2 spike protein reduces S1 shedding and increases infectivity
  13. Hong Kong man ‘first case’ documented of getting coronavirus twice, researchers say
  14. Prevalence of SARS-CoV-2 in Spain (ENE-COVID): a nationwide, population-based seroepidemiological study
  15. مع فتح البلاد: ماذا يخبرنا البحث العلمي عن أخطر الأماكن في محيطنا؟