تحدي "First_Impression".. كيف يمكن للانطباعات الأولى أن تفوت علينا أفضل العلاقات؟

في إحدى التجارب المثيرة للانتباه، كان على المتطوعين أن يضعوا انطباعا أوليا عن أشخاص يرون صورهم ويتعرفون على بعض المعلومات عنهم على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي لأول مرة، لكن مجموعة من هؤلاء المتطوعين كانت في غرفة مُنظّمة، والأخرى في غرفة غير مُنظّمة، كل شيء فيها ليس بمكانه، وأراد الباحثون من جامعة رايس الأميركية أن يدرسوا تأثير وضع الغرفة على تقييم المتطوعين لآخرين عبر أجهزة رقمية.
جاءت النتائج(1)، التي صدرت قبل عامين من الآن في دورية "بي إم سي سايكولوجي"، لتقول إن الخاضعين للتجارب قيّموا صفة "الضمير الحي" بدرجة أعلى في الغرفة المنظّمة، في إشارة إلى أن هؤلاء الذين يحاولون تكوين انطباع أولي عن الآخرين عبر الهواتف الذكية يميلون لإدخال معلومات لا علاقة لها بالأمر في القرار الخاص بهم، ما يعني أننا قد نتعامل مع شخص ما على أنه بارد أو سخيف أو لطيف ليس فقط بناء على أول نظرة إليه، ولكن أيضا لأن تلك النظرة الأولى جاءت في سياق سيئ مثلا أو مضطرب، ولا علاقة للشخص نفسه بالأمر.
راندي ثورنهيل، عالم البيولوجيا من جامعة نيوميكسيكو، وستيف غانغستيد، متخصص علم النفس من الجامعة نفسها، أخذا الأمر إلى نقطة أعمق. عمل هذان الباحثان على دراسة التفضيلات الخاصة بالنساء تجاه تماثُل جسد، ووجه، وأقدام، وأُذني، ويدي الجنس الآخر، في التجارب(2) عُرضت صور وتصميمات ثلاثية البُعد لمجموعة من الرجال على الخاضعات للتجارب، ثم سُئلن عن الرجال الأكثر جاذبية.
هنا، جاءت النتائج لتُشير إلى أن المتطوّعات لم يُفضِّلن تلك التماثلات الواضحة في الوجوه فقط، بل امتد الأمر للنماذج ثلاثية البُعد التي لم يظهر التماثل فيها واضحا للعينين المجردتين، بمعنى أن قدرة السيدات على إدراك التماثل كانت أكبر من وعيها بهذه القدرة. نحن البشر آلات فحص دقيقة جدا لوجوه المحيطين بنا، بحسب أليكس تودوروف، في كتابه "Face Value: The Irresistible Influence of First Impressions"، فإن كل ما نحتاج إليه هو فقط جزء طفيف من الثانية أمام وجه شخص ما ليعمل دماغنا بشكل فوري على تصنيفه بحسب نماذج للوجه جاهزة محفوظة في قاعدة بياناته.
هذه النماذج لا تمكن الواحد منا فقط من الحكم على مقدار جاذبية هذا الشخص، بل أيضا يمتد الأمر لإعطاء انطباعات أولى حول صفات أكثر عمقا وحساسية(3) مثل الجدارة بالثقة والهيمنة، فقط من النظرة الأولى. على سبيل المثال، نحن نعطي انطباعا أوليا عن أصحاب الوجه الطفولي على أنهم جديرون بالثقة، لكنهم ليسوا أكفاء، في المقابل يكون الانطباع تجاه أصحاب الذقن المربع على أنهم أكثر عدوانية، أما أصحاب الوجه العريض فنرى أنهم أكثر انبساطا، بينما أصحاب الوجه الطويل الرفيع انطوائيون، وهكذا. تمتد هذه التقييمات السريعة لتشمل كل شيء، من خلالها نُقيِّم السياسيين والمديرين وزملاء العمل والدراسة، وأصدقاءنا على فيسبوك كذلك.
من جانب آخر، فإن وضعك في صورة فيسبوك أو تويتر نفسه يؤثر على الانطباعات الأولى للآخرين عنك دون أن تدري. على سبيل المثال(4)، حينما تؤخذ الصورة من زاوية منخفضة فإن الآخرين يعطون انطباعا أوليا يُشير إلى الهيمنة تجاه هذا الشخص، الانطباع الذي يُعَدُّ صفة جيدة بالنسبة للرجال لكن ليس للنساء، الوجه المنحني للأسفل قد يدل على الخزي أو الإحراج أو الذنب أو الإذلال أو الاحترام، بينما الرأس المرتفع قليلا لأعلى قد يُشير إلى مشاعر التفوق مثل الاحتقار أو الفخر، وكذلك السعادة.
الانطباعات الأولى لا تُعبِّر بالضرورة عن طبيعة هذا الشخص. بالعكس، قد يكون شخص صاحب وجه طفولي -على سبيل المثال- لكنه لص، أحد أشهر الأمثلة هنا هو "نيلسون ذو الوجه الطفولي5″، إنه اللقب المثير للانتباه الذي حمله سارق بنوك أميركي شهير يُدعى ليستر جوزيف جيليس، وكان شابا صغير السن ذا ملامح بريئة وهادئة ساعدته في سرقاته، تضمّنت مسيرته الإجرامية بجانب البنوك هربا من السجن وقتلا لعدد من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، لاحقا لُقِّب "نيلسون" بالعدو رقم واحد للحكومة الأميركية وقُتِل فيما يُعرف بـ "معركة بارينغتون" مع الشرطة.

حالة نيلسون تحديدا ترتبط بأحد التحيزات الإدراكية الشهيرة الذي يُسمى بـ "تأثير الهالة(6)" (Halo Effect)، ويقول إن تأثُّرنا بإحدى صفات شخص ما يؤدي إلى مبالغة في تقديرنا لصفات أخرى خاصة به، أحد الأمثلة هنا هو عندما يلاحظ الواحد منّا أن الشخص الموجود في صورة ما جذّاب أو مهذب أو مهندم، فيفترض تلقائيا أنه شخص جيد أو جدير بالثقة أو طيّب القلب أو مرهف الشعور.
لكن المشكلة ليست فقط في صحة أو خطأ الانطباعات الأولى، بل يمتد الأمر إلى عمق تأثيرها، فبحسب فريق بحثي(7) من الجمعية الأميركية لعلم نفس الشخصية، فإن الواحد منّا يميل إلى تكوين انطباع أولي خاطئ كلما قل الوقت المسموح له لإعطاء انطباع أولي، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي فإن تلك هي الحال، وبمقارنة الانطباعات المُتكوِّنة لدى فريقين من المتطوعين دخل الأول في لقاءات مباشرة مع أشخاص ودخل الثاني إلى وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، جاءت النتائج لتقول إن هناك انطباعا غير صحيح، وسلبيا أكثر، في المجموعة الثانية.
الأسوأ من ذلك هو مدى اقتناع الشخص بصحة انطباعاته الأولى، حيث يبدو أنها تقاوم الحقائق نفسها، فإذا قمنا بإخبار شخص ما أن انطباعاته خاطئة عن آخر فغالبا ما سيرفض ذلك، وسيأخذ وقتا كبيرا لتغيير انطباعاته، يمكن أن نرى تلك الفكرة بوضوح أكبر في حالة التحيزات الإدراكية، خذ مثلا ما يسميه لي روس، الأستاذ جامعة ستانفورد، بـ "الواقعية الساذجة(8)"، وهو ميلنا للتعامل مع رأينا أو حدسنا على أنه وقائع.
لذلك فإننا لا نُعطي فقط انطباعا عن هذا الشخص أو ذاك على أنه طيّب أو لطيف أو سخيف، بل ستتعامل معه على هذا الأساس، بل يمتد الأمر لبعض أدق سلوكياتنا. على سبيل المثال، كانت دراسة قام بها فريق دولي تفحص تأثُّر المحللين الماليين بانطباعاتهم الأولى عن الشركات التي يقومون بإعطاء توقعات لمستقبلها، وجاءت النتائج(9) لتقول إن الانطباعات الأولى حدَّدت طبيعة التنبؤات المستقبلية عن تلك الشركات، فكان أصحاب الانطباعات الأولية الجيدة متفائلين، والفريق الآخر متشائما! يبدو إذن أن الحكمة التي تقول إن "الانطباعات الأولى تدوم" على درجة من الصحة، لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد.
يحاول العلماء في نطاق علم النفس الاجتماعي تقصّي تلك الظاهرة، حيث يبدو أن الأمر ليس بتلك الصرامة، لفهم تلك النقطة دعنا نتخيّل أنه كانت هناك مسابقة لفريقين من جامعتين مختلفتين، أنت أحد المشاركين بها، وبينما تستمر المسابقة فإن أحد أفراد الفريق الآخر يستمر في التهكُّم على فريقك مُوجِّها كلامه إليك تحديدا. هنا ستأخذ انطباعا سيئا عن هذا الشخص، رغم أن تلك هي عادة هذا النوع من المسابقات، لكن ماذا لو كنت في أحد الأيام بحاجة إلى "جُنيه" إضافي لدفع أجر شيء ما ولا تمتلك "فكّة" نقود فقام أحدهم بإعطائك جنيها، وكان هو الشخص نفسه، هل ستُغيّر رأيك فيه؟
في الغالب، لن يحدث ذلك، لأن هناك عدة أسباب لقوة هذا الانطباع الأولي، منها مثلا ما يُسمى بالانحياز للسلبية(10) (Negativity bias)، ويعني أن المشاعر السلبية التي نكتسبها لأي سبب تكون عادة أقوى من المشاعر الإيجابية ذات الحجم نفسه، وتستمر لفترة أطول، لذلك فإن مشاعرك تجاه هذا الشخص ستستمر في قوتها دون توقُّف، لكن هناك أمر آخر مهم أيضا ويتحكّم في قراراتنا، وهو النُّدرة، فأنت لا تتعرّض يوميا لموقف شبيه بذلك الخاص بالمسابقة، لكن لو طلبت جنيها في أي مكان لأعطاك أحدهم إياه، لذلك فإنك تُقدِّر حجم الموقف الأول بناء على نُدرته مقارنة بحجم الموقف الثاني.
لكن الأكثر إثارة للانتباه، حينما نتحدّث عن الانطباعات الأولى، هو حينما نسأل: لِمَ نمتلك هذه الآلية في سلوكنا، أليس من المفترض أن نتكيف -نحن البشر- مع بيئتنا عبر إزالة الأخطاء وتحسين المزايا مثل كل كائن حي آخر؟ لِمَ ما زلنا نحتفظ بها؟ في الواقع، ذلك صحيح، لكن لو تأملت قليلا لوجدت أن التقدُّم الذي أحرزناه خلال مئتي سنة فقط مضت كان سريعا وكثيفا بحيث لم يكن من الممكن أن تواكبه تكيفاتنا السلوكية البطيئة بطبعها(11)، لفهم مدى عمق تلك الفكرة دعنا نرجع بالزمن إلى عام 100 ألف قبل الميلاد، البشر ما زالوا يعيشون في وسط أفريقيا بين حشائش السفانا، إنهم جماعات صغيرة تعمل بالجمع والالتقاط. لنفترض أن أحدهم يجلس جانبا، خارج أحد الكهوف، يستمتع بأكل ثمرة تفاح نادرة وجدها قبل قليل، وقد استمع إلى صوت حفيف بجانبه.
في تلك الحالة، فإن أفضل استجابة سلوكية للحفاظ على حياته هي أن يهرب فورا قبل أن ينظر ليتقصّى إن كان ذلك الحفيف بسبب الرياح أو بسبب ثعبان كبير يقترب منه، وبالتالي فإن هؤلاء الذين حفظت أجهزتهم العصبية تلك الآلية السلوكية، فدفعت بدفقات الأدرينالين إلى عروقهم كلما استمعوا حفيفا، وأجبرتهم على الهرب قبل النظر للخلف، كانوا أكثر قدرة على البقاء من هؤلاء الذين نظروا للخلف مع احتمال 50% أن يكون ثعبانا، ثم هاجمهم فماتوا. يعني ذلك أن أصحاب الخوف سلموا، ثم مرروا تلك الصفات لأحفادهم، نحن.
دعنا مثلا نقارن تلك الحالة مع أوضاعنا الآن، فرغم أنه لا توجد ثعابين في محيطك، وليس من المحتمل أن يحدث ذلك، فإن صوت الحفيف ما زال يُرعبنا نحن البشر، بالضبط كما فعل مع صديقنا الجالس خارج الكهف، فكِّر في الأمر بالنسبة للانطباعات الأولى، قبل عشرات الآلاف من السنين كانت ضرورية لتساعدنا على اتخاذ مواقف سريعة جدا في حياة خطيرة، هذه المواقف كانت مناسبة لهذا النوع البسيط جدا من الحياة، انتهى هذا النمط الحياتي وأصبحت ثقافتنا مختلفة الآن، لكن آثار تلك السلوكيات ما زالت باقية فينا.
في كل الأحوال، حينما تُقرِّر أن تشارك المرة القادمة في first_impression_challenge، الذي يغزو منصات التواصل الاجتماعي حاليا، فكِّر قليلا في هذا الأمر، هذه الانطباعات الأولى التي نُكوِّنها تجاه بعضنا بعضا ليست بالضرورة صحيحة، بل إنها قد تُسبِّب الكثير من المشكلات وتُفقدنا علاقات كان من الممكن أن تكون جيدة، لكنها رغم ذلك جزء من إرث تركه لك جدك الذي عاش على مسافة عدة مئات إلى آلاف من الكيلومترات منك، قبل مئة ألف سنة!
_____________________________________________________________
المصادر
- Media multitasking is associated with altered processing of incidental, irrelevant cues during person perception
- Human facial beauty
- Face Value: The Irresistible Influence of First Impressions
- The Many Faces of a Neutral Face: Head Tilt and Perception of Dominance and Emotion
- Lester Gillis (“Baby Face” Nelson)
- Why the Halo Effect Influences How We Perceive Others
- Even fact will not change first impressions
- he Wisest One in the Room: How You Can Benefit from Social Psychology’s Most Powerful Insights – Thomas Gilovich Lee Ross
- First Impression Bias: Evidence from Analyst Forecasts
- Not all emotions are created equal: The negativity bias in social-emotional development.
- علم النفس التطوري : دليل مصور يحكي قصة تطور العقل البشري – ديلان ايفانز وأوسكار زاريت