أحدها غازات البطن.. هذه هي الطرق المرجحة لانتقال كورونا بين البشر
حتى الآن فالفكرة السائدة بشأن فيروس كورونا المستجد هو أنه شكل من أشكال الالتهاب الرئوي الحادّ، لكن مع تزايد الأبحاث، والانتشار السريع للعدوى، يقترح الباحثون والعلماء طريقة جديدة لانتشار الفيروس عدا الاحتكاك التنفّسي بحامله، ويُقدِّمون ثلاثة سيناريوهات ممكنة لانتقال الفيروس بطرق غير متوقعة.
هذه مادّة كتبها الباحث في معهد "MIT" البروفيسور ريتشارد سي كلاركسون، ومنه حصل "ميدان" على حق النقل والنشر.
ما الذي يعنيه "أن تحتكّ بشخص ما"؟
في ووهان، الصين، ديسمبر/كانون الأول 2019، لاحظ طبيب يبلغ من العمر 34 عاما، وهو لي وين ليانغ، فيروسا جديدا غريبا، ويقول: "عرفت أن المرض معدٍ بعد أن نقَلَت مريضة كنت احتككت بها العدوى إلى عائلتها، ومن ثمّ أُصبت به مباشرة. هكذا، اكتشفت أنَّه معدٍ بدرجة كبيرة جدا. لكن المريضة لم تُظهِر أي أعراض، ولذلك استهترت". [1]
كان الدكتور لي يعتقد بأن المرض يحمل ملامح "سارس"، الذي بدأ من إقليم غوانغدونغ جنوب الصين عام 2002 وتم التعرف إليه عام 2003، وعلى حد تعبيره: "خطر لنا بأن سارس قد يعود، وكنا بحاجة إلى التجهّز له ذهنيا واتّخاذ التدابير الوقائية". حاول الدكتور لي أن يُحذِّر زملاءه ويُعمِّم الأخبار حول الفيروس الجديد، ولذلك عُوقِب من السلطات وأُجبر على سحب أقواله، وقد أدّى ذلك إلى أسابيع من التأخير قبل تعامل السلطات الجدّي مع الفيروس الجديد. وبعد أن أصبح بطلا قوميا، توفي الطبيب لي يوم 7 فبراير/شباط بالفيروس الذي اكتسبه من مريضته.
تُشير الغالبية العظمى من الروايات حول فيروس (2019-nCoV) إلى أنه "التهاب في الجهاز التنفسي". وبما أن الطبيب لي قد استشهد بوباء سارس عام 2003، قد يتساءل الواحد منا: "ما الوسيلة الأكبر التي انتقل بها سارس من شخص لآخر؟". لعلّ الجواب يأخذنا إلى حدائق أموي في هونغ كونغ، في المجمع السكني ذي الـ 19 بناية وأحد أكبر أمكنة انتشار سارس على المستوى الجماعي، حيث وقعت هناك أكثر من 300 حالة سارس، وهي أكبر مجموعة تُنسب إلى موزّع واحد واسع الانتشار، وكان المريض -وهو مقيم بعمر 33 عاما في شنزن هونغ كونغ كان يتلقى علاجا لكليته- قد أُصيب بسارس إلى جانب الإسهال الحاد كعَرَض رئيسي للمرض. سرعان ما أُصيب أولئك الذين يعيشون في البناية نفسها في حدائق أموي باتجاه شاقوليّ، أي إما أعلى أو أسفل الشخص المصاب بالإعياء، وأُصيب جميعهم في الوقت ذاته تقريبا، على أنّ الشخص المصاب لم يكن قد التقى وجها لوجه مع معظم أولئك الذين نقل إليهم الفيروس.
تمكّن العمل الاستقصائي من تتبُّع انتقال الفيروس إلى أنبوب صرف مشقوق في المبنى، سمح بانتقال غازات الإسهال المحمَّلة بالفيروس من الرجل المصاب إلى شقق الساكنين الآخرين. ووجد استقصاء لاحق بأن تلك الأنابيب الناقلة للعدوى، المصممة للحمامات، تمتد إلى مبانٍ أخرى في حدائق أموي ما تسبّب بانتقال العدوى إلى القاطنين فيها. ثمَّ أظهر بحث محاكاة بأن الفيروس المحمّل في أنابيب الصّرف يمكن أن ينتقل حتى مسافة 200 متر، ناقلا عدواه للناس [2]. وهذه نتائج مذهلة، ففي حين أن عطسة أو سعلة من شخص مصاب بـ "مرض تنفسي" يمكن أن تُصيب الآخرين على بُعد بضعة أمتار فقط، يمكن لأنبوب الغازات المحمّلة بالفيروس من شخص مصاب يعاني عَرَضَ الإسهال أن ينقل العدوى للآخرين على بُعد 200 متر. ويُقدِّر بعض الخبراء بأنَّ 10% إلى 20% من مرضى سارس كانوا يعانون الإسهال، مع احتمالية انتقال الفيروس المنتشر في السبيل المعوي إلى آخرين بهذه الطريقة [3].
الآن، وبالعودة إلى فيروس (2019-nCoV)، الذي أُعيدت تسميته مؤخرا بـ (COVID-19). فمن الطبيب لي، وصاعدا، كان المختصّون الطبيون في الصين يلاحظون كيف أن المرضى الذين لم تبدُ عليهم "أي أعراض" يتسبّبون بنقل العدوى لآخرين. وكما أكّدت شكوك الطبيب لي، فإن الفيروس الجديد يتقاسم بعض الملامح مع سارس، حيث وُجد الفيروس لأول مرة في مادة برازية لشخص مصاب بولاية واشنطن (أُدخل المشفى يوم 19 يناير/كانون الثاني)، وكانت أول حالة من الإصابة بالفيروس في الولايات المتحدة [4]. بعد ذلك بمدة وجيزة، جرى الإبلاغ عن نتائج مماثلة من ووهان وشنزن [5]. كمحصلة لهذه النتائج، أخذ الأطباء والباحثون يُحذِّرون الناس من إمكانية حدوث تلوث فيروسي برازي، وكان التحذير يتعلّق عادة بعادات النظافة السليمة والتخلص من البراز. ويفيد بحث نُشر مؤخرا بأن قرابة 10% من المرضى الذين يُشخَّصون بـ (COVID-19) يُظهِرون في البداية عَرَض الإسهال فقط وربّما يتقيّؤون ليوم أو اثنين قبل إظهار أي أعراض تنفسية [6]. وعلى نحو مماثل لسارس [7]، فقد عُثِر على فيروس (COVID-19) في أمعاء المرضى المُشخَّصين [8].
وبقدر ما يُمكن لمؤلّف البحث أن يؤكد (حتى يوم 14 فبراير/شباط الموافق ليوم التسليم)، فإنه لم يُنظر إلى أنابيب السباكة الناقلة للفيروس في حدائق أموي بهونغ كونغ على أنَّها إشكالية (وإليكم خبرا عاجلا عن استثناء مهم): لا يتعيّن على المرء أن يكون في دورة المياه لنشر الغازات (فهناك غازات امتلاء البطن)، ويُمكن للفرد البالغ النموذجي إجراء هذه العملية من 12 إلى 25 مرة يوميا، منتجا 0.6 إلى 1.8 لتر من الغاز [9]. وسيلة الانتقال المحمولة بالهواء تلك يمكن أن تُفسِّر أيضا سبب انتشار الفيروس على نطاق العائلات، حيث إنهم يستخدمون جميعا دورة المياه ذاتها، ويتنفّسون الهواء ذاته [10]. ربما بدأت الإصابات مع أحد أفراد العائلة دون أيّ أعراض (تنفسية) واضحة. من الضروري القول إن هذه الأفكار البديلة ليست بأي شكل "استخلاصات علميّة"، لكنّها مسائل جديرة بالمزيد من البحث. وحده البحث سيُقرِّر درجة العدوى التي يمكن أن ينقلها كل نوع من الغازات على حِدة.
يوم 11 فبراير/شباط، أفادت مجلة "نيويورك تايمز" من هونغ كونغ -مدينة الانتشار الهائل لفيروس سارس عام 2003 في حدائق أموي- بأن سيدة تناهز من العمر 62 عاما تعيش أسفل شقة المصاب بفيروس (COVID-19) بعشرة طوابق قد أُصيبت بالعدوى من أنبوب صرف صحي مكشوف [11]. من بين الحالات المؤكدة الـ 49 في هونغ كونغ، ثلاث حالات ينتمون إلى العائلة الممتدة لتلك السيدة ذات الـ 62 عاما، اثنان منهم يعيشان معها في الشقّة ذاتها. وكتدبير وقائي، وُضع 50 مقيما في ذلك المبنى تحت الحجر الصحي.
لنأخذ سفن الرحلات البحرية الثلاث الضخمة التي حُجِرت في المياه الإقليميّة الآسيوية شهر فبراير/شباط 2020 وهي: "أميرة الألماس"، الراسية في مرفأ يوكوهاما، اليابان، بأكثر من 3500 مسافر والطاقم على متنها، و"حلم العالم"، التي أُرسيت في هونغ كونغ بأكثر من 3600 مسافر على متنها، و"ويستردام" التي رست للتوّ في كمبوديا فيما نحن نكتب هذه القطعة، والبعض يدعو هذه السفن بـ "السجون العائمة" [12]. لقد حملت "أميرة الألماس" أكثر حالات فيروس (COVID-19) على متنها، بتسجيل 218 إصابة على الأقل بحلول 13 فبراير/شباط، بزيادة يوميّة ضخمة أخذت تتضاعف بأكثر من 70 مصابا في يوم واحد (10 فبراير/شباط). هذه الإصابات وقعت في ظل محاولة المسافرين والطاقم إجراء عزل ذاتي. وبحسب قبطان السفينة ستيفانو ريفيرا، قد يكون مرد تضاعف الإصابات خلال يوم واحد إلى اكتساب العدوى على الأرض، أي قبل دخول السفينة الحجر الصحيّ [13]. لكن إن صحّ الأمر فإنّه ما إن تنتهي فترة حضانة الفيروس في البر، فسيكون علينا أن نتوقع انخفاضا حادا في الإصابات الجديدة، بافتراض أنَّ خطة العزل الذاتي قد نجحت.
لكن ما الذي قد يتسبّب في فشل خطة العزل الصحي الذاتي؟ إليكم مشتبها به ممكنا: الإصابة عن طريق المادة البرازيّة. هل نُظِر في طريقة العدوى هذه بشكل جدي في حالة المسافرين والطاقم؟ ذلك أنه بينما معظم المسافرين ستكون لديهم غرف حمامات منفصلة في حجراتهم وأجنحتهم، فإنهم جميعا متصلون معا من خلال نظام صرف صحي متقدم تكنولوجيا ومعقّد. ولعلّ بعض المسافرين حاول التخلص من بعض حوائجه عبر كرسي دورة المياه دون أن يكون ذلك مكانها الصحيح، وهو ما أدى على الأرجح إلى أعطال في النظام المحلي إلى حين تصليحه. كما أنّ المصارف على أرضية العديد من سفن الرحلات قد تفتقر إلى مصافي شبكات الصرف الصحي التي عادة ما تكون في البيوت، وهذا ما قد يتسبّب أحيانا بالتفاف الغازات من خزان تجميع مياه الصرف الصحي إلى مقصورة الركاب. هذه المزايا الماديّة لسباكة السفن تعني أن تهوية المواد البرازيّة قد تتسرب إلى منطقة المسافرين.
بحسب فهم هذا المؤلف، عادة لا يكون هناك فتحات تهوية إلى الخارج، لذا فما يحدث في دورة المياه، فيما يخص الغازات، يظل حبيس دورة المياه وحجرة المسافر. إن فتحات تهوية السفن، أو نقصها، يمكن أن يلعب دورا في نقل العدوى للآخرين، أكانت طريقة انتقال العدوى تلك تنفسية أم معويّة. وفقا لـ "شيغيرو أومي"، وهو خبير في منع الأمراض المعدية ومدير إقليمي سابق في منظمة الصحة العالمية: "على السفينة، تصبح الأمراض كثيفة جدا… إنها توفر اليوم بيئة ممكنة لانتشار الفيروس، وأعتقد أنه قد حان الوقت لنزول الناس… الأمر يبدو كما لو أننا نرى نسخة مصغّرة عمّا يمكن أن يحدث في مجتمع محلي" (13 فبراير/شباط) [14]. وقد كانت نصيحة المؤلف أن تؤخذ طريقتا العدوى هاتان بالقدر ذاته من الجدية في الأبحاث القادمة القريبة إلى جانب ضرورة تفحص السفن لبحث إمكانية من هذا النوع.
سفن الرحلات هي بمنزلة أحد الأمثلة على "منشآت الحجر الصحي"، ويجري حاليا تحضير منشآت حجر صحي أرضية جديدة وعلى نطاق واسع، من الصين إلى الولايات المتحدة إلى أيسلندا وكل مكان آخر. إن كانت ماديّات المرض تسمح بانتقال أشكال انتشار التلوث البرازي الذي نناقشه هنا، فلا بد من العناية بدورات المياه المشتركة، وجريان الهواء، وعادات النظافة الشخصية، لكي نحرص على ألا تتحول "منشآت الحجر الصحي" إلى "منشآت عدوى" (أو أسوأ من ذلك). وحتى مع تجاهل احتمالية الوسيلة البرازيّة في العدوى، فمن المعروف جيدا في أمراض العدوى التنفسية من قبيل الإنفلونزا بأنه يُفضّل لجريان الهواء أن يتم بفتحات تهوية تشفط الهواء إلى الخارج، وأنّها ضرورية لتقليل إمكانية تسبّب شخص بنقل العدوى إلى الآخرين [15].
باختصار، فإن الأحداث المسجلة من يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط قد برهنت على أن فيروس (COVID-19) الجديد ليس مجرد مرض تنفسي، وأن الفيروس قد يخرج من جسم الإنسان بوسيلتين: واحدة هوائية، وأخرى معوية. في الحالة المعوية، فإن المادة المحملة بالفيروس قد تكون أي شكل من المواد؛ صلبة، سائلة، غاز. أما الانتقال التنفسي للفيروس من شخص لآخر فقد يتم عبر سعلة أو عطسة، أي إنه قد يتطلب عادة تفاعل شخصين معا على مقربة بمسافة اثنين أو ثلاثة أمتار. لقد أظهر العمل البحثي والاستقصائي الذي أُجري على سارس عام 2003 أن غازات الإسهال المحمولة هوائيا داخل الأنابيب يمكن أن تنتشر على نطاق واسع وتعلق بحاملها.
فيما يخص سؤالنا الافتتاحي "ماذا يعني الاحتكاك بشخص ما؟"، ففي حالة المرض التنفسي، عادة ما يعني ذلك وجود أكثر من شخصين معا، ضمن بضعة أمتار لمدة (ربما تكون وجيزة) من الوقت. إن كان ما نُشير إليه هنا مدعوما بأبحاث إضافية بحيث يكون مؤكّدا، فإنه سيكون علينا تحضير إجابة مختلفة كليا عن هذا السؤال. ذلك أن "الاحتكاك بشخص ما" يمكن أن يعني استخدام دورة المياه نفسها أو منشأة الصحة الشخصية ذاتها، ربّما بمسافة دقائق أو ساعات، أو أنه قد يعني تنفس الهواء القادم من دورة مياه ليست فيها فتحة تهوية، أو كما رأينا فإن ذلك قد يعني السكن في شقة داخل مبنى شاهق وتشارك نظام الصرف الصحي ذاته.
إن وجد بحث سريع أن الافتراضات التي تقدّمنا بها هنا صحيحة، كليا أو جزئيا، فإن العديد من التغييرات ستكون مطلوبة في الأنظمة والإجراءات القائمة في مكافحة هذا المرض، والتي تتراوح بين اليقظة القصوى فيما يخص الحمامات ونظافة غرف قضاء الحاجة، وتوفير جريان هواء (عبر تركيب شافط هواء إلى الخارج) لغالبية المرضى، إلى إعادة تعيين معايير الحجر الصحي والعزل الذاتي.
بالعودة إلى سارس عام 2003، فقد أُوقِف ذلك المرض المعدي لا باللقاحات ولكن من خلال تصرّف الأفراد بما يحدّ من كثافة التفاعل وعدد مراته، بالإبعاد المجتمعي وعادات النظافة الشخصية المحسَّنة، والعزل الذاتي في حال راودهم شك. اليوم، في ظل غياب لقاح للمرض، فمن المُرجَّح أن تكون خطوات مكثّفة مماثلة ومثابرة ضرورية لاجتثاث فيروس (COVID-19).
————————————————-
هذا المقال مأخوذ عن Pubs Online ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.