شعار قسم ميدان

"سلسلة مختصرات ييل".. كيف يمكن أن يكون التاريخ البارد ممتعا؟

لأن الإصدارات المُترجَمة في النطاقات المعرفية قليلة بطبعها في الوطن العربي، وعادة ما تكون مُتخصِّصة تخدم فئات محددة من الباحثين أو الكُتَّاب، فإنه من المهم حقا بالنسبة لنا في "ميدان" أن نُعطي بعضا من الاهتمام لتلك الإصدارات التي تخدم نطاقا أوسع من القُرَّاء العاديين، غير المتخصصين، والشغوفين بالتعلُّم عن هذا العالم وما يحويه من عجائب، من هنا تحديدا تأتي مجموعة أخيرة من الترجمات تحت اسم "مختصرات التاريخ" (little HISTORIES)، وهي سلسلة صادرة عن جامعة ييل الأميركية، بَنَت نفسها بالأساس على كتاب واحد صدر منذ ما يقرب من قرن مضى للسير إرنست هانز جوزيف غومبريتش (1909-2001)، وهو كاتب ومفكر ومؤرخ بريطاني الجنسية نمساوي المولد، الكتاب سُمِّيَ "مختصر تاريخ العالم"، لاقى هذا الكتاب شهرة عالمية واسعة.

 

تُرجِم "مختصر تاريخ العالم" للعربية سنة 2013، واعتُبر -حين صدر- نقلة في تاريخ سلسلة عالم المعرفة، حيث كان مختلفا عما اعتادت العمل عليه وإصداره من الكتب. الكتاب كان صادرا لنطاق عمري واسع يبدأ من سن المراهقة ويمتد لأكبر سن مُمكنة، بينما اعتادت السلسلة استهداف فئات عمرية أكبر من ذلك. الآن قرّرت جامعة ييل استكمال نجاح هذا الكتاب بسلسلة كاملة تتضمن إلى الآن عشرة عناوين، وهي مختصر تاريخ اللغة، الأديان، العالم، العلم، الأركيولوجيا، الأدب، الفلسفة، الشعر، الاقتصاد، التاريخ الأميركي، تُرجمت إلى العربية أول سبعة منها.

 

عنوان ميدان

اعتمدت السلسلة على النمط نفسه الذي انتهجه غومبريتش وكان سبب نجاحه، وهو أن الكاتب، في كل نسخة من تلك المجموعة، يُقسِّم مادته إلى أربعين فصلا صغيرا، يشغل الواحد منها أقل من 10 صفحات. فكرة الفصول الصغيرة ممتازة في الحقيقة، فهي تضغط على الكاتب ليبذل كل جهده في التنقيح واختيار أفضل القصص.

سلسلة المختصرات

على الجانب الآخر، فإن ذلك هو ربما أفضل تنسيق ممكن للقارئ المعاصر في زمن يتميز بالسرعة والملل، الفصول كذلك منفصلة في موضوعاتها عن بعضها بعضا، رغم اتصال الفكرة العامة، وسيبدو كلٌّ منها وكأنه مقال طويل بعض الشيء، وهذه أيضا ميزة قادرة على دفع الكثير بعيدا عن الكسل، فأنت تفتح فصلا ما وتقرؤه، ولا تشعر أنك مُلزَم بأكثر من ذلك، الأمر الذي يساعدك لتستكمل طريقك في الكتاب، لأن الشعور بأننا مُلزَمون بقدر كبير من الصفحات عادة ما يتسبَّب في توقُّفنا عن المُضي قُدُما في كتاب ما، وحينما يتكرَّر ذلك أكثر من مرة نُصاب بعجز مُكتسَب يسري أثره على كل الكتب.

 

رغم تنوُّع المؤلفين، فإن أسلوب الكتابة في كل السلسلة يكاد يكون متشابها، حيث يحاول الكاتب التغلُّب على الملل عبر أسلوب مُبسَّط قدر الإمكان، يتميز بأنه قصصي الطابع، فيبدو كتاب "مختصر تاريخ العلم"، على سبيل المثال، وكأنك تشاهد أحد الوثائقيات ذات الحلقات القصيرة.

 

كما يبدو من الاسم، فالسلسلة تتحدث عن تاريخ المجالات التي تهتم بها، لكنها بالإضافة إلى ذلك تهتم بتعريفك بما تعنيه تلك المجالات، بأدق صورة يمكن أن تكون مفهومة، في "مختصر تاريخ الأدب" على سبيل المثال تتعرف إلى إجابة أسئلة مثل: ما الأدب؟ لِمَ ظهر من الأساس؟ ما القصة؟ ما الملحمة؟ ما المسرحية؟ ما المأساة؟ ما الحبكة؟ ورغم برودة الاصطلاحات، فإنها تُقدَّم بأسلوب سرد ممتع كما أسلفنا.

 

بشكل أساسي، كل كتاب من هذه السلسلة يتعمَّد إثارة انتباهك للتاريخ، اعتمادا على هدف وضعه غومبريتش حينما قال في كتابه الأول: "هل سبق لك أن صادفت كتابَ تمارين مدرسيا قديما أو أي شيء آخر كتبته ذات مرة، وأثناء تصفُّحك له اندهشت من مدى التغيير الذي حدث لك في مثل هذا الوقت القصير؟ هل وقفت أمامه وأنت مندهش من أخطائك، وأيضا من الأشياء الجيدة التي كتبتها، لكن في ذلك الوقت لم تكن تلاحظ أنك كنت تتغير؟ حسنا، تاريخ العالم هو الأمر نفسه تماما". في كل الأحوال، نرغب في هذا التقرير أن نُرشِّح لك خمسة من كتب تلك السلسلة الممتعة.

 

عنوان ميدان

مختصر تاريخ الأركيولوجيا

لنبدأ من مختصر تاريخ الأركيولوجيا، مؤلفه هو براين فايجن، وهو أستاذ الأنثروبولوجيا الفخري بجامعة كاليفورنيا، يُعَدُّ مرجعا معترفا به دوليا في عصور ما قبل التاريخ العالمية وله عشرات الكتب الرائعة في هذا النطاق، أشهرها "Fishing: How the Sea Fed Civilization".

 

عادة ما ننقسم إلى مجموعتين حينما نتحدّث عن استكشاف الآثار، الأولى هي فريق "إنديانا جونز"، الذي يتصوّرها مغامرة تتضمّن الكثير من القتال والثروات، والثانية هي الفريق الأكاديمي، الذي يظن أن علوم الآثار باردة، يستذكرها طلبة كليات معقدة ويبذلون الكثير من الوقت والجهد في سبيلها، في هذا الكتاب يوضح فيجن -بطريقة مثيرة جدا للانتباه- أن الأمر ليس هذا ولا ذاك، لكنه علم دراسة الماضي.

 

عنوان ميدان

مختصر تاريخ الأدب

لمؤلفه جون ساذرلاند، وهو أستاذ فخري في الأدب الإنجليزي الحديث بكلية لندن الجامعية، درّس الأدب وتاريخه للطلاب من جميع المستويات، وكان ناقدا وكاتبا لاذعا، وهو كذلك مؤلف ومحرر لأكثر من 20 كتابا، أشهرها "Is Heathcliff a Murderer?"، وكذلك "Lives of the Novelists: A History of Fiction in 294 Lives".

 

يشبه الأمر أن تقف أمام مكتبة أحدهم ويحكي لك عن كتبه، أسلوب ساذرلاند بديع وساخر، وهذا هو كل ما يتطلّبه الأمر -بجانب الكثير من الخبرة- لإخراج كتاب جيد. يبدأ الكاتب مع اللحظة الأولى لتدوين التاريخ ووصولا إلى الآن، خلال تلك الرحلة يُطلِعنا كذلك على روائع الأدب الكلاسيكي وكُتَّابه مثل شكسبير كاتبا وشخصية دون كيخوته، كذلك يُعرِّفنا ساذرلاند على بعض الأنماط الأدبية مثل الحيل السردية والنشر الذاتي والذائقة والإبداع، إلخ.

 

عنوان ميدان

مختصر تاريخ الفلسفة

لمؤلفه نايجل واربورتون، مجال بحثه الرئيسي هو جماليات التصوير الفوتوغرافي، وهو محاضر الفلسفة في جامعة نوتنغهام. كتب بشكل أساسي للمبتدئين، واشتهر بكتب الفلسفة التمهيدية مثل "Philosophy: The Basics, Thinking from A to Z"، وكذلك "Philosophy: Basic Readings"، وكذلك "Freedom: An Introduction with Reading".

 

لا يُقدِّم هذا الكتاب فقط لأربعين مرحلة من مراحل الفلسفة، كلٌّ منها يحمل فيلسوفا بعينه وفكرته التي يدافع عنها، بحيث يتضح لنا تطوُّر الفكر الإنساني في أرقى صوره، بل يدفعنا كذلك للتفلسف مثل هؤلاء. يبدأ من سقراط حيث يقول: "اعرف نفسك"، فنتعلّم معه أن الأهم ليس عدد مَن يعارضوننا، بل "هل لديهم أسباب وجيهة لذلك؟"، وهكذا يتنقل بين الأفكار في سرد شائق، وفي كل مرة تخرج بفكرة يمكن أن تتأملها، وتجادلها، وتستخدمها في حياتك.

 

عنوان ميدان

مختصر تاريخ اللغة

لمؤلفه ديفيد كريستال، وهو أستاذ فخري في اللغويات في جامعة ويلز البريطانية، كذلك فهو هو أحد المتخصصين اللغويين البارزين في العالم، يعمل أيضا كاتبا ومحررا ومحاضرا ومذيعا، كتب ما يقرب من 100 كتاب، أشهرها "Cambridge Encyclopedia of the English Language"، وكذلك "By Hook or By Crook: A Journey in Search of English". يبدأ هذا الكتاب من لحظة ميلادنا، ما اللغة التي نفهمها حينما نخرج من بطون أمهاتنا؟ ويمضي بنا وصولا إلى اللغة المعاصرة الأكثر شهرة، وهي التي نستخدمها في رسائلنا الشخصية، في أثناء ذلك ستتعرف إلى مدى التعقيد، والعجب الذي يكتنف اللهجات واللغات البشرية، وإلى جانب أسلوبه الشائق يستخدم كريستال الكثير من الرسوم التوضيحية، لكن الأهم هو أن هذا الكتاب يجيبنا عن سؤال: لماذا تستحق قصة اللغة وخصائصها وتطورها وموت بعضها التعرف إليها؟

 

عنوان ميدان

مختصر تاريخ العلم

ويليام بينوم، مؤلف الكتاب، هو أستاذ لتاريخ الطب في كلية لندن الجامعية، وهو مؤلف ومحرر للعديد من الكتب أشهرها "Great Discoveries in Medicine". إحدى مزايا هذا الكتاب هي قدرته على التجوُّل في حقول العلم الرئيسية وكأنه يتجوَّل بين بقاع الأرض في رحلة للكشافة، فيبدأ مع البابليين القدماء، ثم يسافر بك إلى الهند والصين، ثم يرجع إلى مصر ويُحدِّثك عن الرياضيات والفلك، ثم إلى أبقراط والطب، بعد ذلك عن المنهجية العلمية في التفكير التي أسّس لها أرسطو، ثم ينتقل إلى حديث ثري عن منجزات الحضارة الإسلامية، ثم عبر قفزة سريعة تجد نفسك مع كيميائيي القرون الوسطى تحاول أن تحصل على ذهب من التراب، وهكذا يتطور تاريخ العلم في الكتاب في صورة قفزات ممتعة، وعناوين مبتكرة جدا، بين الفصول بين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، مع اهتمام خاص جدا -وممتع في الحقيقة- بالمنهجية العلمية ذاتها.

 

لوهلة تسأل: وما علاقتي بالأركيولوجيا أو الأدب وأنا طبيب أو صيدلاني أو مدرس أو طالب هندسة؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تتعلق فقط بقدر المتعة من هذه الكتب، بل أيضا يمكن لهذا النوع من الاطلاع العابر للمنهجيات أن يعرّفك بآليات ووجهات نظر مختلفة يمكن بدورها أن تساعدك كثيرا في فهم ذاتك والعالم من حولك.

 

في تلك النقطة تأتي أهمية سلسلة المختصرات من جامعة ييل، فهي واحدة من أهم الإضافات التي تسد فجوة ضخمة في المحتوى العربي، ليس فقط لأنها تُبسِّط نطاقات لا يوجد بها الكثير من الإنتاج، بل أيضا لأنها تقف عند نقطة حرجة بين كتب التاريخ الضخمة المُملة، والكتب المختصرة جدا في نطاق "نبذة" أو "لمحة عن" بحيث لا تتجاوز مئة صفحة، بل هي دسمة معرفيا وفي الوقت نفسه تصلح لنطاق عمري واسع يبدأ، مثلا، من 15 عاما. نتمنى أن تُستكمل ترجمة السلسلة، وأن تصدر منها كتب جديدة في نطاقات مختلفة أكثر تنوُّعا.