شعار قسم ميدان

هوس الجمعة السوداء.. لماذا نشتري أشياء لا نحتاج إليها أبدا؟

اضغط للاستماع

لطالما كانت الأعياد أهم مناسبة تسوُّق يقوم بها الشخص في العام كله، في كل الثقافات يمكن أن تجد تلك الظاهرة، وفي الولايات المتحدة الأميركية تحديدا لم يكن التجار(1) -في أثناء الأزمة المالية الهائلة سنة 1869- يعرفون أن قرارهم بإجراء تخفيضات كبيرة في اليوم التالي لعيد الشكر، بغرض جذب الناس للشراء، سيكون في المستقبل أشهر موسم للتسوق في العالم كله.

 

ورغم اختلاف الثقافات، فإن هذا اليوم تحديدا لاقى الكثير من الاهتمام عالميا، تحديدا بداية من الثمانينيات وإلى الآن، حينما وصلت الظاهرة إلى الوطن العربي واجهت مشكلات في التسمية لأن اصطلاح "الجمعة السوداء" يُنفِّر الناس، سواء نفسيا أو دينيا وهي النقطة الأهم، بالتالي تحوّلت إلى "الجمعة البيضاء"(2)، ولم تعد يوما واحدا بل مَدّتها بعض المتاجر إلى شهر نوفمبر/تشرين الثاني كله، والفكرة التي تُصدِّرها المتاجر للجمهور هي: "نحن في آخر العام وقد حققنا بالفعل أرباحا، يجب الآن بيع بقية المنتجات بأي سعر قبل قدوم منتجات العام الجديد".

"Black Friday" sales in New York- - NEW YORK, USA - NOVEMBER 28: People shop during the Black Friday, an informal name for the Friday following Thanksgiving Day, at the Best Buy in New York, United States on November 28, 2019.

 

ما الذي نريده؟

في الواقع، فإنه من المثير للانتباه جدا أن تتأمل النفس البشرية في أجواء كتلك، بشكل رئيسي فإن تعاملنا مع المستقبل يواجه مشكلات كبيرة، حيث نشعر تجاهه بدرجة من التناقض، فيبدو لوهلة أننا لا نراه أبدا، بل وقد نتعامل معه على أنه غير موجود، وفي الوقت نفسه يبدو الأمر وكأن أعيننا عليه بشكل مستمر!

 

في تلك النقطة دعنا نُشِر إلى إحدى أشهر التجارب في علم النفس، وهي تجربة المارشميلو(3)، والفكرة البسيطة هي أننا نحن البشر نميل إلى تحقيق أسرع مكاسب ممكنة مهما كانت صغيرة مقارنة بمكاسب أكبر في المستقبل قد تكون أكثر فائدة.

 

سنود أن نحصل على 1000 جنيه اليوم بشكل أكبر من الحصول على 10000 جنيه آخر العام أو 100000 بعد عدة أعوام إذا قررنا أن نستثمر قليلا فيما هو متاح لنا الآن، كذلك سنميل بشكل أكبر إلى الإنفاق على الأشياء قصيرة الأمد كالتدخين والمشروبات والحلوى أكثر من الخطط طويلة الأمد كالتعليم مثلا، فما هو أقرب يُثير اهتمامنا وانتباهنا بشكل أكبر.

 

يُفسِّر ريتشارد ثيلر(4)، نوبل للاقتصاد 2017، تلك الفكرة بأننا لا نمتلك حسابا واحدا في عقولنا للأموال، بل نمتلك أكثر من حساب، حيث يظهر في النهاية أننا نضع أهمية أو وزنا مختلفا للمجموعات المختلفة من النقود الخاصة بنا رغم أنها النقود نفسها، ويصنع ذلك مجموعة مختلفة من الحسابات لكل مجموعة مختلفة من تلك الأموال.

 

لفهم أفضل هنا دعنا نراقب ما يحدث لنا عندما نربح بعض النقود بشكل مفاجئ، كأن تفتح عبوة المياه الغازية فتجد على الغطاء ما يُشير إلى أنك قد ربحت مئة جنيه، هذه النقود غالبا ما يضعها الناس في حساب عقلي مختلف تماما فيسهل إنفاقها سريعا دون غيرها من النقود بالمنزل، إنها الحالة نفسها حينما نجد نقودا في السترة الشتوية كنّا قد نسيناها، أو حينما نجد نقودا في الشارع، نحن نقوم بإنفاق تلك النقود بسهولة أكبر كثيرا من النقود العادية التي حصلنا عليها من عملنا موظفين مثلا، رغم أنها جميعا النقود نفسها.

 

النقطة المرجعية

epa08846082 People shop during the Black Friday amid the second wave of the Covid-19 coronavirus pandemic in Torino, 27 November 2020. EPA-EFE/Tino Romano

لنفترض أن إحداهن تقف الآن في المركز التجاري، هناك بعيدا يوجد عرض على مجموعة من الأطباق كُتِب عليه (عرض الجمعة البيضاء: 2 طقم عشاء + طقم تيفال مجانا)، ورغم أنها قد لا تكون في حاجة ماسة إلى مجموعة العشاء هذه، فإنها سوف تشتريها هذه المرة لأنها مُقدَّمة في صورة (2 + 1 مجانا)، وذلك لأن هناك ما نسميه "النقطة المرجعية"(5)، وهي الفكرة التي ارتكزت عليها من أجل اتخاذ قرارك المالي. في هذه الحالة، فإن النقطة المرجعية ليست الثمن الذي تدفعه بقدر ما هي أن تحصل على "أفضل صفقة".

 

هناك مثال آخر شهير يُوضِّح تلك الفكرة، لنفترض أنك تبحث عن هاتف نقّال لشرائه، سعره في أحد المحال هو 1000 جنيه، وفي محل سابق هو 900 جنيه، هنا في معظم الحالات سوف تذهب إلى المحل السابق لشرائه بـ 900 جنيه، لكن إذا كان سعر الهاتف 10000 جنيه، لكنك قد وجدته في محل سابق بـ 9900 جنيه، فأنت على الأغلب سوف تشتريه من هنا ولن تبذل الجهد للعودة إلى هناك.

 

رغم أنها هي المئة جنيه نفسها، فإنك اتخذت قرارا مختلفا في الحالتين، وما حدث هو ببساطة أنك لم ترتكز على تلك النقطة المرجعية الخاصة بالجمع والطرح، لكنك ارتكزت على نقطة مرجعية أخرى، وهي النسبة المئوية، 10% في الحالة الأولى تستحق أن نعود للمحل الآخر، لكن 1% فقط بالنسبة للحالة الثانية لا تستحق كل ذلك الجهد!

 

فوضى سبّبها الندم!

epa08832217 People visit a shoes store in a shopping center during the Black Friday sale amid the Coronavirus pandemic, in Caracas, Venezuela, 20 November 2020. EPA-EFE/MIGUEL GUTIERREZ

من جانب آخر، فإن الأمر الخاص بالمستقبل لا يتوقف فقط عند تأثير المارشميلو الذي تحدثنا عنه قبل قليل، بل يمتد إلى تعريفنا لذواتنا وهويتنا! لنفترض مثلا أنك تقف أمام لافتة كُتِب عليها (عرض الجمعة البيضاء: 2 قميص + 2 مجانا) وقررت بالفعل شراء القمصان الأربعة، تُشير الكثير من الأبحاث(6،7) إلى أن مشكلتنا مع المستقبل تتعلّق أيضا بالندم على تفويت فرصة مهمة، حينما تقف أمام القمصان تتخيل نفسك مستقبلا وأنت في حاجة إلى قميص لكن ثمنه أكبر بثلاثة أضعاف مما هو على الرف الآن، في الواقع أظهرت أبحاث سلوك المشترين أن شراء شيء ما بسعر أقل مما ترغب في دفعه، أو أقل من السعر القياسي، هو أمر مُرْضٍ إلى أقصى حد.

 

الآن تدفع الـ 1000 جنية وتمضي في طريقك، ما تفكر فيه لا يكون فقط "وفرت على نفسي خمسمئة جنيه في أفضل الأحوال"، لكن يُضاف إلى ذلك أفكار أخرى مثل: "ماذا لو لم أحتج إلى كل تلك القمصان؟ ماذا لو انخفضت أسعارها في ديسمبر/كانون الأول؟"، يأتي ذلك في سياق انخفاض واضح في درجات اللذة، أو كما يُشير ويليام ديفيز، أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد السياسي في كتابه "صناعة السعادة"، حينما يقول إن أغلب ما نحس به من اللذة التي تقترن بشراء شيء ما يحدث في أثناء ترقُّب تسلمه.

 

قد يصيبك الندم بشكل أكبر حينما تمر إلى جوار اللافتة نفسها في شهر ديسمبر/كانون الأول أو يناير/كانون الثاني، وهي عادة مواسم تخفيضات، وتجد أن سعر القميص قد انخفض ليصبح أقل من العرض الذي اشتريته، قد يصيبك كذلك إذا مَرّ عام ولم ترتدِه بعد، ثم أصبح سعره أكثر انخفاضا بحكم ظهور قمصان جديدة للعام 2021، لكن على الجانب المقابل فإن الحالة نفسها من الندم قد تصيبك إذا قرّرت تجاهل العرض والذهاب للمنزل، بعد شهر أو اثنين قد يعجبك القميص ويكون سعره أغلى بالفعل من العرض.

 

هل سنشعر بالندم لإخفاقنا في هذه الصفقة أم سنشعر بالفخر لأننا وفّرنا أموالا على ذواتنا؟ لا نعرف في الحقيقة، في تلك النقطة قد تلعب المصادفة دورا كبيرا، لكن ما نعرفه هو أن قرارات الشراء ليست بالبساطة التي تتصوّرها، إنها تؤثر بقوة فيما تظن أنه هويتك، لكن هل تعرف ما الشيء الآخر الذي يساهم أيضا في تشكيل هويتك؟ الآخرون!

 

الجحيم هو..

epa08832147 People visit a shopping center during the Black Friday sale amid the Coronavirus pandemic, in Caracas, Venezuela, 20 November 2020. EPA-EFE/MIGUEL GUTIERREZ

في مسرحيته "لا مخرج" يقول جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي: "الجحيم هو الآخرون"، وتجري الحكاية كالتالي: جارسين يدخل إلى إحدى الغرف، التي لا تحوي أي نوافذ أو أبواب، ويظهر في المسرحية أنها جهنّم، بعد مدة تدخل فتاتان للغرفة وهما "اينس" و"ايستل"، يُقفل الباب ويتوقع ثلاثتهم أن يُعذبوا، ولكن العذاب لا يأتي، ثم يدركون بعد وهلة أنه يفترض بهم أن يعذبوا بعضهم بعضا، عن طريق التحقيق في ذنوب كل واحد منهم ورغباته وذكرياته المؤلمة.

 

وبغض النظر عن الكثير من المعاني التي يقصدها الفيلسوف الوجودي هنا، فإن قدرة الآخرين على إسعادنا هي قدرتهم نفسها على تعذيبنا بالفعل، حتّى دون أن يتدخلوا في ذلك. نحن البشر كائنات اجتماعية(8)، وتلك الصفة ليست "مجرد" خاصية لنا، بل هي واحدة من غرائزنا، بالضبط مثل الجوع أو العطش أو الجنس!

 

ببساطة، نحن نحصل على معلوماتنا عن الواقع من خلال الآخرين، قد يبدو هذا منطقيا لوهلة، تأمل مثلا حالة تكون خلالها في مسرح أو قاعة سينما وهَمَّ الناس فجأة بالخروج من المكان، هنا ستخرج معهم ظنا أن هناك شيئا سيئا على وشك الحدوث، تمضي الفرضية بالطريقة نفسها حينما نتحدث عن الشراء أو الغضب، فعندما لا تمتلك معلومات كافية حول أمر ما، أو إذا لم نمتلك الوقت الكافي للحصول على تلك المعلومات، فقد يكون من المنطقي تقليد الآخرين.

 

قد يفيد هذا بالفعل في الحصول على صفقة جيدة بالفعل، لكن ذلك أيضا قد يكون السبب في الوقوع بأسر شراء أشياء لا تريدها، ليس ذلك فقط، بل هو أيضا السبب في حالات الغضب التي تجتاح بعض المتاجر في الجمعة السوداء، لأن الواقفين في المكان ينسخون سلوكيات المحيطين بهم، وفي دقيقة يمكن أن يشبه الأمر وجودنا في قفص القرود بحديقة الحيوان!

 

مَن نحن؟

الأسوأ من ذلك هو أن كل ما تحدثنا عنه معروف، لقد أثبت دانيال كانيمان(9) قبل عقود أن الناس يُخطئون في قراراتهم عبر الكثير من التحيزات الإدراكية، لكن هيربرت سيمسون، مؤسس ما نسميه بالعقلانية المقيدة أو المحددة، قد أضاف أن تلك الأخطاء يمكن توقُّعها، وتستخدمها الشركات والمتاجر للتحكُّم في قرارات الجمهور.

 

يصل الأمر إلى مستوى التحكم في نواقلنا العصبية كالدوبامين، فمع كلمات كـ "صفقة" و"ربح"، ومع الشعور الشديد بالندرة في يوم الجمعة البيضاء، وهو شعور تعمل المتاجر على تحفيزه عبر تقليل متعمد لكميات السلع المعروضة أمام الجمهور، ومع آليات غاية في الذكاء تستخدمها المتاجر، سواء تسويقيا عبر ضرب وجوهنا بمئات الإعلانات يوميا، أو في المتجر عبر تنظيم مُتعمَّد للسلع كي ترتفع درجات تحفزنا ويعمل نظام المكافأة في أدمغتنا بصورة غير مسبوقة، ما الذي يمكن أن يُنقذنا في معركة كتلك؟

 

لبعض التفصيل في تلك النقطة يمكن أن تراجع تقريرا سابقا على منصة "ميدان" بعنوان(10) "بهذه الحيل النفسية تستدرجك الشركات لاستنزاف أموالك"، لكن في كل الأحوال فإن أهم ما يمكن أن نتخذه من إجراءات لمقاومة كل تلك المحاولات الذكية للسيطرة على قراراتنا الشرائية هو أن نبدأ بأن نعرف أن هناك في الأساس مشكلة، لنهدأ قليلا ونتّبع إجراءات تُخفِّف من انجذابنا الشديد لتلك العروض، ابدأ مثلا بكتابة قائمة بما تريده قبل الدخول إلى المتجر، تسوَّق مع صديق لك حريص بعض الشيء، لا تذهب إلا إلى الأقسام التي تريدها فقط، إلخ.

 

لكن الأكثر إثارة للانتباه في خضم كل ذلك هو حينما نتعرّف إلى طبيعتنا البشرية، يبدو بالفعل أننا كائنات ذات عقلانية مقيدة، لا نقوم بحساباتنا مثل الحاسوب أو لاعبي الشطرنج، لكن هل يُعَدُّ ذلك -في كل الأحوال- مشكلة؟ لأنه في بعض الأحيان تبدو أشياء مثل الرحمة أو الحب أو الإيثار غير عقلانية، لكنها كانت دائما ضرورية لتميزنا عن كل الكائنات الأخرى.

——————————————————————–

المصادر

  1. Why Is Black Friday Called Black Friday?
  2. نموذج 
  3. The Bing “Marshmallow Studies”: 50 Years of Continuing Research
  4. Richard H. Thaler
  5. Reference dependence
  6. Decision making: A psychological analysis of conflict, choice, and commitment.
  7. The surprising psychology of Black Friday consumerism
  8. Why We Are Wired to Connect
  9. التفكير بسرعة وببطء – دانيال كانيمان
  10.  بهذه الحيل النفسية تستدرجك الشركات لاستنزاف أموالك – عماد أبو الفتوح
المصدر : الجزيرة