شعار قسم ميدان

"البرمجة اللغوية العصبية".. علاج فعال أم هراء باسم العلم؟

ميدان - البرمجة العصبية
اضغط للاستماع 

    

على مسرح كبير في إحدى الجامعات المصرية يقف الدكتور إبراهيم الفقي، أشهر مُروِّجي التنمية البشرية في الوطن العربي، ليتحدّث عن الفوائد الجمّة التي يمكن أن تحصل عليها من خلال التسجيل في شهادة الدبلومة الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية، قائلا إنها تُعلّمك فن التواصل اللا محدود، وتعطيك قدرة لا نهائية على التحكُّم في انفعالاتك وإدراكك الحسي، إلى جانب الكيفية التي يمكن من خلالها أن تُمارس السيطرة على الآخرين عبر محاكاتهم ثم استدراجهم إدراكيا.

  

تنوَّع ثمن الاشتراك في هذا المساق -وما زال- بحسب طبيعة المكان، في الدلتا مثلا أو الصعيد كنت لتدفع خمسمئة جنيه مقابل ثلاث محاضرات في إحدى قاعات الأفراح أو المعاهد التعليمية، لكن في فندق فخم بأحد الأحياء القاهرية الراقية سيصعد الرقم إلى عدّة آلاف من الجنيهات -نتحدث هنا عن مصر فترة ما قبل الثورة حينما كانت العُملة ذات قيمة أكبر من الآن-. إلى جانب ذلك يمكن أن تدفع أجرا إضافيا للحصول على لقاء خاص مع "دكتور إبراهيم"، يمكن كذلك أن تشتري كتابه بعدّة مئات من الجنيهات، ولا تنسَ أن تُسجِّل في برنامج الماجستير الذي يُقدِّمه في أحد الفنادق الشهيرة. كان برنامج الماجستير أغلى وأطول، لكنها المرة الأولى في حياتك -بالطبع- التي ستواجه خلالها "ماجستير" ينتهي في ثلاثة إلى أربعة أسابيع.

  

بَرْمِجْ حياتك
دكتور
دكتور "إبراهيم الفقي" (مواقع التواصل)

   

إبراهيم الفقي هو مَن أدخل البرمجة اللغوية العصبية (Neuro-linguistic programming) (NLP) إلى الوطن العربي قبل عقدين، لكن البداية الحقيقية لهذا المجال كانت في السبعينيات من القرن الفائت حينما قرّر كلٌّ من(1) الأميركيين ريتشارد باندلر وجون جريندر أن يربطا بين البرمجة واللسانيات وعلم النفس والأعصاب في سياق يمكن اختصاره في جملة طالما كرّرها الدكتور إبراهيم الفقي وغيره من مُدرِّبي التنمية البشرية، وهو "علم دراسة التفوُّق البشري"، أما هاري ألدر وبيريل هيذر في كتابهما "البرمجة اللغوية العصبية في 21 يوما" فيُعرِّفانها بأنها كذلك: "منهج ثوري للتواصل الإنساني والتطوير الذاتي".

  

بمعنى أوضح، فإن هذه هي إحدى الأفكار الرئيسية التي ينطلق منها مجال التنمية البشرية بأكمله، وهي أنه يمكن لنا -نحن الأشخاص العاديين- أن نتعلّم، ونكتسب، سلوكيات أشخاص استثنائيين حقّقوا نجاحا باهرا في مجال ما، فيكون ذلك قادرا على تغيير حياتنا، في هذا السياق تأتي كلمة "البرمجة" لتُعبِّر عن إمكانية برمجة أفكارنا ومشاعرنا وسلوكنا وتغييرها، أما "اللغوية" فتُشير إلى أنه يمكن للتحكُّم في اللغة الخاصة بنا -المنطوقة وغير المنطوقة (لغة الجسد)- أن يُساعد في تلك البرمجة، أما "العصبية" فتعني جهازنا العصبي وآلية إدراكه للعالم عبر الحواس والتي يمكن العمل على تغييرها بالتحسين أو التعديل.

  

يقودنا ذلك إلى الفكرة المركزية للبرمجة اللغوية العصبية، إنها "النمذجة"، وهي ببساطة البدء بإدراك(2) أن الخريطة الخاصة بك ليست هي العالم، إنها الفرضية الأولى للبرمجة اللغوية العصبية التي ستقرؤها في أي كتاب خاص بها، وتعني أن الآلية التي تُدرك بها العالم، والتي تتمثَّل في كل شيء، بداية من أفكارك ووصولا إلى حواسك والطريقة التي تتواصل بها مع الآخرين وهي لغتك المنطوقة والجسدية، يُمثِّل فقط صورتك عن العالم وليس العالم نفسه. بالتالي، فإن العالم الذي نراه "ذاتيا" عالم يصنعه إدراكنا وليس العالم الحقيقي. تنطلق الفرضية بعد ذلك لإمكانية التغيير، أي التنقُّل من رؤيتنا الخاصة للعالم إلى رؤية ناجحة للعالم يمكن التعرُّف إلى مقوِّماتها عبر دراسة أشخاص ناجحين، وتقول إحدى الفرضيات في البرمجة اللغوية العصبية إنه "إذا كان شيء ما مُمكنا لشخص ما فإنه ممكن لكل شخص آخر".

      

تفترض البرمجة اللغوية العصبية أن العالم الذي نراه
تفترض البرمجة اللغوية العصبية أن العالم الذي نراه "ذاتيا" عالم يصنعه إدراكنا وليس العالم الحقيقي
     

هل ترى ذلك؟ إنها فكرة جيدة للوهلة الأولى، في الواقع لو قرّرت الخوض قليلا في عوالم البرمجة اللغوية العصبية لاكتشفت أن ما يُقال في تلك الكتب والمساقات مقبول جدا وشبيه إلى حدٍّ كبير بالكثير من الحِكَم أو الفلسفات التي تقرؤها، إحدى الفرضيات مثلا تقول إنه توجد نية إيجابية وراء كل سلوك بشري، وأخرى تقول إن الناس يبذلون قدر المستطاع في إطار المتوفِّر فقط، في تلك النقطة قد تتذكّر شيئا فعلته في الماضي ثم تقول: "كم كنت أحمقَ لأني تصرَّفت بهذا الشكل!"، لكن في الواقع فإن ما فعلته وقتها كان مرتبطا بمصادر وقتها المتاحة، وهكذا تستمر الفرضيات مرورا بأشياء مثل "أنا مسؤول عن نتائج أفعالي".

        

تاريخ طويل للخداع

لكن لفهم الموضع الي انطلقت منه البرمجة اللغوية العصبية يمكن أن نبدأ من كتاب "ضفادع إلى أمراء" (الحكاية الخرافية الشهيرة) من تأليف باندلر وجريندر في السبعينيات من القرن الماضي، لقيَ الكتاب شهرة واسعة وقتها، ويمكن لك أن تجد تأثُّرا واضحا من قِبل الثنائي بتقنيات علاج نفسي شائعة وقتها مثل مدرسة العلاج المتمركز حول الحل (Solution focused brief therapy) والتي تتجه مُباشرة نحو الهدف النهائي الذي يسعى له المريض وهو الوصول إلى التوافق النفسي والاجتماعي مع الذات ومع البيئة المحيطة، أو تقنيات "إعادة التأطير" التي تعمل على تغيير وجهة نظر الفرد تجاه الأشخاص أو الأشياء أو المواقف.

  

بحلول الثمانينيات من القرن الفائت كان مُنظِّرو البرمجة اللغوية العصبية قد انطلقوا لتطوير ادّعاءاتهم(3) لتتخطّى حاجز محاولات علاج القلق والاكتئاب إلى الصرع ونزلات البرد ومرض باركينسونز والسرطان، لأنها -كما ذكرنا قبل قليل- لا تتعامل فقط مع أفكارنا، ولكن يمكن أيضا لإعادة التأطير أن يطول حواسنا كالسمع والبصر والشم والقدرات الحركية، وبالتالي كل شيء آخر في الجسد. كانت تلك القفزة هي السبب في توجيه الاهتمام البحثي لفحص جدوى البرمجة اللغوية العصبية، خاصة أنها قد تحوَّلت من آلية تتخذ جذورا من العلاج النفسي إلى نطاق التدريب والاستشارات ودخلت إلى منظومات تدريب الموظفين -خاصة البائعين والمُسوِّقين- في الشركات على مستوى الولايات المتحدة، ثم العالم. نتحدّث هنا عن كيانات بثقل "IBM" وناسا والجيش الأميركي والفريق الأميركي الأوليمبي.

    undefined

  

في تلك المرحلة، انتهت البرمجة اللغوية العصبية في نطاق الطب النفسي والعصبي، نعم، إنها كما قرأت، انتهى الأمر، صدرت مجموعة واسعة(4،5،6،7،8) من الدراسات في تلك الفترة لتُشير إلى أن البرمجة اللغوية العصبية للأسف ليست فعّالة في علاج أيٍّ من تلك الأمراض الجسدية والنفسية، ليس ذلك فقط، بل إن تقنياتها لم تكن حتّى في قوة الآليات المعاصرة للعلاج النفسي، والتي أثبتت جدارة حقيقية مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT) والذي -إلى الآن- يُعَدُّ الاختيار رقم 1 مع الأدوية أو بدونها في علاج الكثير من الأمراض مثل الاكتئاب والقلق بفروعه. (الدراسات في المصادر على سبيل المثال لا الحصر).

  

على سبيل المثال، كانت دراسة بولندية(9) قد فحصت نتائج عدّة مئات من الدراسات الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية صدرت خلال 35 عاما منذ نشوئها، يمكن أن تُلاحظ بوضوح في تلك الدراسة معدلات النشر الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية والتي تزايدت في الثمانينيات ثم انخفضت شيئا فشيئا، جاءت نتائج تلك الدراسة لتقول إن أكثر من 75% من الأعمال البحثية في هذا النطاق تُشير إلى عدم فاعلية -أو على الأقل عدم القدرة على التعرُّف على فاعلية- البرمجة اللغوية العصبية.

  

من جهة أخرى فإن الدراسات القليلة التي أيَّدت البرمجة اللغوية العصبية كانت خاصة جدا لأدوات بعينها وليس للفرضية كلها، على سبيل المثال ظهرت مشكلات كبيرة في نموذج الأنظمة التمثيلية والذي يقول إن كل واحد منّا يُدير إدراكه عبر منظومة إدراكية رئيسية تتعلَّق بإحدى الحواس، فالبَصَريون مثلا يميلون إلى استخدام لغة بَصَرية (انظر، هل ترى ذلك، تأمَّل الأمر)، أما السمعيون فيميلون إلى استخدام لغة سمعية (اسمع يا رجل)، وهكذا، هذه النماذج أساسية جدا في تقنيات البرمجة اللغوية العصبية، حيث يرى مُنظِّروها أن التحوَّل من إطار إدراكي لآخر يعتمد عليها، وبالتالي فإن فكرة "القدرة على التغيير" نفسها مُهددة.

  

محاكاة النجاح ليست بتلك السهولة
 إحدى مشكلات النطاق البحثي الخاص بالبرمجة اللغوية العصبية كان عدم التحكُّم الكافي في سياقاتها ومآلاتها التي تُبنى عليها
 إحدى مشكلات النطاق البحثي الخاص بالبرمجة اللغوية العصبية كان عدم التحكُّم الكافي في سياقاتها ومآلاتها التي تُبنى عليها
     

في الواقع، فإن أشهر التقنيات الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية تعتمد على تلك الفكرة، وتُسمّى في أدبيات علم النفس بـ "تأثير الحرباء"(10)، وتعني أن تقوم بتقليد لغة جسد والنظام التمثيلي الخاص بشخص ما، ثم تستمر قليلا في تلك المحاكاة وبعد ذلك تبدأ في جذبه إلى منظومتك التمثيلية والتحكُّم فيه، هذه التقنية -والتي لم تثبت صحّتها ولو بدرجات قليلة إلى الآن- رائجة للغاية في أوساط البيع والتسويق كوسيلة "خفية" لجذب العملاء، فبحسب تلك الفرضية فإنهم لا يدركون ما تفعل ويتأثَّرون بشكل غير واعٍ.

  

يمكن كذلك ملاحظة أن العديد من الدراسات التي تؤيّد البرمجة اللغوية العصبية تقع في أخطاء(11) عدة في أدبيات هذا النمط البحثي في علم النفس والأعصاب، منها مثلا ضعف الترابط بين المفاهيم النظرية بحيث يشبه الأمر وكأنك اقتبست عدّة صفحات من علم الأعصاب ومجموعة أخرى من علم اللسانيات ووضعتهما جنبا إلى جنب ثم افترضت أن لهما علاقة، السفر بين النطاقات العلمية المختلفة أمر -في العموم- معقّد وصعب.

  

أضف إلى ذلك أن إحدى مشكلات النطاق البحثي الخاص بالبرمجة اللغوية العصبية كان عدم التحكُّم الكافي في سياقاتها ومآلاتها التي تُبنى عليها، بمعنى أنه إذا مددت بعض الخطوط على استقامتها في تلك الفرضيات ستصبح الأمور عشوائية وغير واضحة أو مُتّسقة مع الفرضية الأم، يشير ذلك إلى وجود أخطاء منطقية واضحة، ويصعّب ذلك صعوبة دراسة نطاق ما، كيف يمكن مثلا أن تختبر أحد التوقعات العلاجية إذا كانت مبنية على نموذج نظري غير مُتّسق مع ذاته من الأساس؟

  

من جانب آخر، يمكن أن تجد درجة واضحة من عدم الإلمام، وعدم التحديد، للتقنيات العلاجية المفترضة في البرمجة اللغوية العصبية وبالتالي يصعب -من الأساس- تقييمها، مشكلات كثيرة ستظهر -على سبيل المثال- في الجزء الخاص بالعلاقة بين الأثر والاستجابة الخاصة بالتقنية بحيث تبدو النتائج رمادية، وتواجه البرمجة اللغوية العصبية أيضا مشكلات تتعلّق بعدم كفاية التدريب الخاص بها وعدم تحديد معاييره.

    

دخلت البرمجة اللغوية العصبية في الوطن العربي إلى كل النطاقات الخاصة بالتنمية البشرية تقريبا وأصبحت أساسا لمعظم خطوط السير فيها
دخلت البرمجة اللغوية العصبية في الوطن العربي إلى كل النطاقات الخاصة بالتنمية البشرية تقريبا وأصبحت أساسا لمعظم خطوط السير فيها
   

بالتالي، فإنه على الرغم من القدرة التعبيرية الكبيرة للبرمجة اللغوية العصبية -ستشعر بالانجذاب لها فور القراءة فيها- فإنها لا تتمكّن من إعطاء ادّعاءات قابلة للتكذيب، ويعني ذلك أن يقوم باحث ما بتوقُّع نتيجة محفوفة بالمخاطر لفرضيته، على سبيل المثال كما يقول المصريون في المثل الشعبي: "قالوا الجمل طلع النخلة، آدي الجمل وآدي النخلة"، فصعود الجمل على النخلة هو أمر محفوف بالمخاطر يمكن تكذيبه بإحضار جمل ونخلة ولنرَ ما الذي يمكن أن يحدث؟ في حالة البرمجة اللغوية العصبية فإنه -بجانب المشكلات الكبيرة في العمل البحثي- لا يمكن أن ترى ادّعاءات واضحة من الأصل!

  

لكن كل هذا -في الواقع- لم يُوقِف البرمجة اللغوية العصبية عن الاستمرار، بدّل مُنظِّروها نطاقهم إلى علم النفس الشعبي وأصبحت أحد أقوى برامج الطب البديل والتدريب الشخصي إلى الآن، في الوطن العربي دخلت البرمجة اللغوية العصبية إلى كل النطاقات الخاصة بالتنمية البشرية تقريبا وأصبحت أساسا لمعظم خطوط السير فيها، وصل ذلك إلى مساقات الزواج السعيد والقراءة السريعة والتنويم المغناطيسي وحفظ القرآن الخاطف باستخدام البرمجة اللغوية العصبية.

  

علوم زائفة

أحد أسرار هذا التمدُّد الفظيع للبرمجة اللغوية العصبية هو أنها تمتاز عن بقية العلوم الزائفة -مثل علوم الطاقة وقانون الجذب والبيوجيومتري، إلخ- بأنها بدأت بمنهجية أكثر شبها بالعلم وتلقَّت بعضا من الاهتمام البحثي الذي، حتى وإن لم يكن في صالحها، يجعلها تبدو علمية من الأساس. لفهم تلك الفكرة دعنا نبدأ من قُرصَيْ "بنادول" تتناولهما للتخلُّص من الصداع.

    

لا يحتاج مدربك في دبلومة أو ماجستير البرمجة اللغوية العصبية إلا إلى ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكِّد لك أن تمرينا ما سوف يُعالج الاكتئاب الذي عانيت منه
لا يحتاج مدربك في دبلومة أو ماجستير البرمجة اللغوية العصبية إلا إلى ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكِّد لك أن تمرينا ما سوف يُعالج الاكتئاب الذي عانيت منه
   

حينما نحاول صناعة دواء جديد(12) فإننا بحاجة إلى فترة تمتد من ثلاث إلى ست سنوات من البحث العلمي وتطويره حول اختيار المادة الفعّالة من بين آلاف أخرى يمكن أن تخدم الهدف نفسه، ثم بعد ذلك يتطلَّب الأمر تحديد أيٍّ من تلك المواد سوف نبدأ باستخدامه في التجارب الأولية، بعد ذلك سوف نحتاج إلى مدة تقترب من العام من أجل عمل الاختبارات الكيميائية الأولية والتجريب على الحيوانات، يحتاج التجريب الحذر على البشر إلى نحو سبع سنوات، ونحتاج بعد إطلاق الدواء إلى سنتين من أجل رصد تطور استجابة البشر لهذا الدواء، ما يعني أن مادة فعّالة واحدة، كالباراسيتامول الموجود في قرصَيْ بنادول، تحتاج إلى ما يقترب من عشر سنوات لكي تصل إلى يديك.

  

في المقابل من ذلك، لا يحتاج مدربك في دبلومة أو ماجستير البرمجة اللغوية العصبية إلا إلى ورقة علمية واحدة غير مؤكدة، ليؤكِّد لك أن تمرينا ما سوف يُعالج الاكتئاب الذي عانيت منه على مدى سنوات ثلاث، هنا يجب التوقُّف قليلا لتأكيد أن التأمُّل -على سبيل المثال- أمر مفيد، يُثبت العلم ذلك كل يوم بشكل أكبر، كذلك لو قرَّرت أن تقرأ كتاب "البرمجة اللغوية العصبية وفن التواصل اللا محدود" لإبراهيم الفقي فسوف تجد أشياء قد تكون مفيدة في حياتك، مَن منّا لا يريد أن يعرف أن "التعلُّم هو الحياة.. لا نستطيع إلا أن نتعلّم"، أو أن "هناك نية إيجابية وراء كل عمل بشري" (فرضيتان في البرمجة اللغوية العصبية).

  

لكن المشكلة تحدث حينما يحوِّل أحدهم قراءات إحصائية سريعة ظهرت في ورقة علمية ما، أو مجموعة من التجارب الذاتية التي نجحت مع شخص دون غيره، أو رؤية فلسفية حكيمة، بدون أي رقابة أو تجريب حقيقي على مرضى أو حتى سماح قانوني، إلى جرعات علاجية تتخصَّص في حالة مرضية ما، جسدية أو نفسية، إلى تقنيات علاجية أو تدريبية يُخبرك أحدهم أنها "قوانين" ستصل بك إلى نتيجة "محددة" وأن هذا هو ما يقوله العلم، هنا يكون كل ما تحتاج إليه هو كلمة "العلم" لكي تظن أنك ستعيش حياة سعيدة مع كل تلك الأشياء التي غالبا ما تكون عناوينها مقترنة بكلمات كـ "اللا محدود"، إذا كان هناك كتاب أو مساق ما يمكن له أن يفتح لنا الباب السحري للتحكُّم الكامل بحياتنا فسوف نُقبل عليه كإقبال الفئران الجائعة على طعام فاسد لا تهتم إلا بملء بطونها.

  

ديانة معاصرة

undefined

  

لكنْ هناك سبب آخر جانبي، وربما أساسي، في اندفاع الكثيرين وراء البرمجة اللغوية العصبية، وهي أنها أقرب ما يكون للحالة الروحانية، في الواقع فإن الكثير من التقنيات في البرمجة اللغوية العصبية تميل إلى استخدام شكل من أشكال الرموز التي يُفتَرض أن تعطي أثرا في النفس، خاصة أن البرمجة اللغوية العصبية لها خصائص "البلاسيبو"، أي إنها تدفع للتأثُّر بدون وجود مُؤثِّر حقيقي. كذلك فإنها تصنع نوعا من التقديس تجاه "الآخر المتعالي"، لكن هذا الآخر هو -في تلك الحالة- ذواتنا التي نود الوصول إليها، يُثير ذلك درجة من الروحانية في أفكارنا.

  

في الواقع، يميل بعض مُتخصِّصي الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع(13) إلى اعتبار أن البرمجة اللغوية العصبية دين زائف (quasi-religion) تابع لبعض الحركات الروحانية المعاصرة مثل "الفكر الجديد" (New Thought) و"العصر الجديد" (New Age)، والتي روّجت بالفعل للبرمجة اللغوية العصبية، يعتقد أتباع هذه التيارات أن هناك علوما أو أسرارا خفية (باطنة) تختص بها النخبة من العلماء والمفكرين الذين يتلقّون علمهم ذلك بالحدس والكشوف الشخصية وليس الوحي.

  

أضف إلى ذلك أن إحدى العلامات المميزة لتلك الحركات الدينية(14) هي وصف بعض المناهج العلاجية أو التأمُّلية الخاصة بها على أساس التشبيهات والاستعارات المُستمدَّة من العلوم التجريبية والنظريات العلمية والتكنولوجيا، بداية من الإشارة إلى أساليب شفاء معينة لا علاقة لها بفيزياء الكمّ على أنها "الشفاء الكمّي"، وصولا إلى الحديث عن "الكون الهولوجرامي"، وهو فرضية علمية، واستخدام تلك الفرضية -بلغة العلم- للحديث عن إله موجود في كل مكان، أو كائنات متصلة ببعضها بعضا، أو غيرها من الادّعاءات. بمعنى آخر، نحن أمام حالة استخدام "علمية اللغة" للإشارة إلى المعتقدات والممارسات الدينية التي هي بالأساس "بعيدة كل البعد عن العلم".

    

بعض العلوم الزائفة، مثل البرمجة اللغوية العصبية، تُقلِّد الطريقة العلمية بكل مناحيها، لكن ذلك لن يتسبّب في ظهور نتائج علمية للأسف
بعض العلوم الزائفة، مثل البرمجة اللغوية العصبية، تُقلِّد الطريقة العلمية بكل مناحيها، لكن ذلك لن يتسبّب في ظهور نتائج علمية للأسف
   

يُسمِّي الفيزيائي واسع الشهرة "ريتشارد فاينمان" تلك الفكرة الخاصة بالتشبُّه بالعلم(15) بـ "علم عبّاد الحمولة" (Cargo Cult Science)، وكانت القصة تقول إن سكان القبائل البدائية لاحظوا -لأول مرة في حياتهم- وصول طائرات مُحمَّلة بالطعام تهبط في أرضهم، هذه الطائرات تابعة لحكومات الدول التي كانت تُحارب في تلك المناطق وتُرسل المؤن لجنودها، فتصوَّر هؤلاء الناس من القبائل البدائية أن تلك الحمولات هي هدايا من الله سيُعطيها لهم لو فعلوا الشيء نفسه وقاموا بمحاكاة ما يحدث.

  

لذلك، قام هؤلاء ببناء طرقات تشبه طرقات المطارات، وصنعوا نماذج بدائية للأعلام الخاصة بالدول وأجهزة الاستقبال والهوائيات والسيارات والمداخل والمخارج الخاصة بالمطارات والمباني الموجودة بداخلها ثم جلسوا جانبا وانتظروا هبوط الطائرات المُحمَّلة بالخير، لكنها طبعا لم تهبط.

  

بعض العلوم الزائفة، مثل البرمجة اللغوية العصبية، تحاول فعل الشيء نفسه، فهي تُقلِّد الطريقة العلمية بكل مناحيها، يكتب مُنظِّروها أبحاثا ويستخدمون أسلوبا يشبه الأسلوب العلمي ويُفسِّرون بياناتهم بطريقة تُشبه طريقة العلماء ويُقسِّمون كتبهم وأبحاثهم بطريقة الأبحاث العلمية نفسها (من المُلخَّص إلى الاستنتاج)، لكن ذلك لن يتسبّب في ظهور نتائج علمية للأسف، أنت فقط قمت بمحاكاة الأمر، لكنك لم تمتلك أي قدرة على التنبؤ الدقيق أو صياغة فرضيات مُتّسقة ومترابطة.

    undefined

  

حينما تفتح أيًّا من كتب البرمجة اللغوية العصبية ستجد كلاما مثيرا للانتباه يفتح عقلك لأمور مهمة فعلا ومفيدة، لكن تلك القدرة التعبيرية اللذيذة لا يمكن أن تأخذك لتصديق ما هو موجود بالداخل من تقنيات ودعائم تشبه في طريقة عرضها الكتب العلمية، البرمجة اللغوية العصبية هي "تجارة" عالمية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، مساقات وكتب ومحاضرات وسيمينارات ودرجات علمية تصل إلى دكتوراه كاملة في عدة أشهر وجامعات غير معروفة، مثل جامعة "ميتافيزيقا" التي حصل إبراهيم الفقي على الدكتوراه منها، وبجانب ما تحدّثنا عنه من أسباب فإن ذلك سبب أخير لاستمرارها، لأنها -ببساطة- مصدر دخل لآلاف الناس.

  

يمر العالم -وخاصة منطقتنا- بفترة مُتشكِّكة من تاريخه، يفقد الناس الثقة في الأنظمة السياسية والاقتصادية التي لا تُقدِّم حلولا فعّالة لمشكلاتهم، ويملّ المرضى من تجريب عشرات العلاجات الجديدة للسرطان والاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب دون نتائج، فيفقدون الثقة في هذا النمط العلمي الذي يأخذ الكثير جدا من الوقت للإتيان ببعض النتائج، ويبدأ البعض منهم في البحث عن حلول بديلة تُريح أوجاعهم، هنا تظهر البرمجة اللغوية العصبية وعلوم الطاقة وقانون الجذب، وكل الصور الأخرى للتنمية البشرية المعاصرة، لتُقدِّم تلك الحلول السهلة لقدرات غير محدودة بادّعاءات ذات شكل علمي يقال إنها "العلم البديل"، لكنها فقط طريقة أخرى لسحب بعض المال من جيوبهم.

المصدر : الجزيرة