شعار قسم ميدان

مسير أم مخير.. هل يمكن للشرير أن يتغير أم أن الشر يكمن في جيناته؟

ميدان - الجوكر

حسنا، لنبدأ بتجربة فكرية بسيطة، أنت قاضٍ في محكمة، وأمامك يقف أحدهم وقد اعترف بجريمة ما، سينال عقابه بالفعل ولا شك في ذلك، لكن تقدير حجم العقاب الذي يستحقه يتوقف على قرارك النهائي، وقبل أن تتخذه قدم الدفاع دلائل علمية تقول إن هذا الشخص قد أقدم على هذا الجُرم لأن تلك هي طبيعته العصبية، فهو لا يتمكّن بسهولة من التحكم في ذاته أثناء الغضب، وهذا الأمر ذو طابع جيني لا دخل له به، كيف سيكون قرارك؟

  

قبل أن تجيب عن السؤال، دعنا نبدأ بالقول إنها ليست تجربة فكرية بالمعنى المفهوم، فخلال الفترة من 2007 و2017 تضاعف(1) بالفعل عدد القضايا في المحاكم الأميركية التي استخدمت ادعاءات قادمة من عالم بحوث الأعصاب من أجل تخفيف الأحكام، أو ربما تجنّبها، نحو 5 مرّات، بل وأصبحت مكاتب المحاماة على صلة دائمة، تتضمّن عقود عمل، بمجموعة من متخصصي العلوم العصبية من أجل التوصل للكيفية المثالية التي يمكن خلالها لحجة كتلك أن تفيد في موقف الشخص في قضية ما.

   

كيف ترى الأشرار؟

undefined

  

هناك دائما فارق واضح بين أن تنظر إلى سلوك شخص ما على أنه نتاج للبيئة، للظروف المحيطة به والتي اضطرته للإقبال على هذا السلوك، أو أن ذلك جزء من طبيعته، قد يعمل ذلك في مصلحة شخص مقبل على السجن بالفعل ويخفف من الحكم عليه لأن المحاكمات تتطلب ادعاءات منطقية وادعاءات مقابلة ذات طبيعة مشابهة، لكن ماذا عن الناس العاديين؟ ماذا لو أنهم يتعاملون مع سلوكك السيئ على أنه بسبب طبيعتك؟

 

هذا السؤال هو ما تحاول لاريسا هايفتز من جامعة كولومبيا الإجابة عنه، للوهلة الأولى قد تسأل إن كان ذلك يؤثر بالفعل، لنفترض مثلا أن علاقتك الحالية مع زميلة الدراسة قد فشلت للأسف، لكنها المرة الثالثة التي يحدث فيها ذلك، والجميع بات يعرف أن علاقاتك تفشل، لكن الفارق بين أن يكون هذا الفشل خط سير دائما لن يتوقف، فتلك هي طبيعتك، أو أنه خط سير يمكن تغييره، هو لا شك كبير.

  

في التجربة(2) الخاصة بها، بدأت هايفتز باستفتاء يفحص ميول المشاركين في التجارب حول طبيعة الأفعال الجيدة والسيئة الخاصة بالآخرين، بعد ذلك يتم توزيع مبلغ مالي عليهم وإشراكهم في تجارب ذهنية تخيّرهم بين التبرع أو عدم التبرع لأشخاص في حاجة إلى المال، لكنهم فعلوا شيئا غير أخلاقي، ورغم أن حاجة هؤلاء الأشخاص الافتراضيين إلى المال كانت متشابهة ولها الأهداف نفسها، فإن طريقة عرض سوء أخلاقهم قد اختلفت، حيث قُدِّم البعض على أنهم سيئو الطباع بسبب خصائص جوهرية أساسية فيهم، وُلدوا هكذا، وقُدِّم البعض الآخر على أنهم سيئون نتيجة للسلوك الذي تعلّموه من أشخاص آخرين في حياتهم.

   

الكثير من المعلمين أيضا يميلون لتصنيف الطلبة بحسب أنماط تعلّمهم، ما قد يؤدي إلى منع طفل عن أسلوب تعليمي أكثر إفادة له لأن المعلم يراه مناسبا في هذا دون ذاك
الكثير من المعلمين أيضا يميلون لتصنيف الطلبة بحسب أنماط تعلّمهم، ما قد يؤدي إلى منع طفل عن أسلوب تعليمي أكثر إفادة له لأن المعلم يراه مناسبا في هذا دون ذاك
  

هنا جاءت النتائج(3) لتقول إن البالغين من تلك العيّنة يميلون إلى النظر إلى السلوك الطيب للآخرين على أنه جوهري، جزء من تركيبه، أما السلوك السيئ فمالوا إلى أنه ذو علاقة أكبر بالظروف أو سياقات الأمور، وبالتالي كانت هناك قناعة أن ذلك يمكن تغييره، وحينما امتدّت التجربة لفحص استجابة المشاركين حول طبيعة السلوك، كانوا أكثر ميلا ناحية إعطاء النقود للأشخاص سيئي الأخلاق لكن هذا السلوك قد تعلّموه من آخرين، وحتّى حينما أُخبروا أن هذا السلوك غير الأخلاقي لن يتوقف، استمروا في إعطاء النقود بشكل أكبر للمجموعة نفسها. أما الأطفال فأعطوا المجموعتين بالتساوي.

  

نزعة للجوهر

تُسمى وجهة النظر القائلة إن سلوك الآخرين له جذور قابعة في خلفية تكوينهم هي ما يتسبّب في هذا السلوك، وهي ما يمنعهم من التغيير، بالنزعة الجوهرية(4) (Essentialism)، والتي قد تتنوّع لعدة أشكال تصب كلها في مصلحة الفكرة نفسها، فقد تكون تلك النزعة سيكولوجية أو جينية أو بيولوجية، لكنها جميعا ترى أن ما نظن أنه "أصل الشيء" أو مصدره أو منبعه أو حتى تاريخه يؤثر بشكل مباشر في طبيعته ومستقبله، لفهم الفكرة دعنا نقارن بين لوحتين، لوحة "سالفاتور مندي" رسمها دافنشي وأخرى مزيفة، الأخيرة مرسومة بدقة شديدة بحيث تحتاج إلى تقنيات متقدمة للتفريق بينهما، كم سيدفع وزير الثقافة السعودي، بحسب تقرير للنيويورك تايمز صدر في 2017، في كلٍّ منهما؟

   

بالضبط، المزيفة لن تساوي شيئا تقريبا، أما التي رسمها دافنشي بيديه فتساوي 450 مليون دولار أميركي، على الرغم من أن المشكلة ليست في اللوحة نفسها، فهي التفاصيل نفسها، ولكن لأن دافنشي رسمها، لا تتعجب أو تشعر بأن هذا نوع من السطحية فأنت أيضا تفعل الشيء نفسه حينما تستمتع بالطعام بصورة أكبر حينما تأكله في مطعم شهير، وتستمتع بارتداء ملابس ارتدى عمرو دياب مثلها في إحدى أغنياته، أنت تفعل ذلك للفت انتباه الآخرين بالطبع، لكنكم جميعا تُرجعون هذا القميص العادي لعمرو دياب، وكأن جوهر هذا الشيء، ذلك الذي يقع في الخلفية، ويمتد بجذوره للوراء في الزمن، هو عمرو دياب.

    

  

لهذا السبب فإننا قد نمتلك أشياء لا قيمة فعلية لها لكنها بالنسبة لنا أكبر من أن تكون لها قيمة مادية، حذاء طفلك الأول، أو هدية من صديق قديم، أو مجرد قلم أزرق لا تود أن تعطيه لأي أحد لأن مدرس العلوم قد أعطاك إياه على أثر إجابتك لسؤال صعب جدا، ويمتد ذلك وصولا إلى هوس البعض بملابس المشاهير التي ارتدوها يوما ما بشرط ألا يتم غسلها بعد أن خلعها الشخص المشهور، لأن "رائحته فيها" كما يقولون، إنها الفكرة نفسها، حينما نفكر في شيء ما، ونحاول التصرف تجاهه، فإننا لا نستحضر ما يظهر فقط، بل نستدعي ما نتصوّر أنه جوهره ونعطيه قيمة أكبر مما يظهر على السطح.

  

في الواقع، فإن تلك النزعة لها أثر عميق في ذواتنا بحيث تتعلق مباشرة بقدر المتعة الذي نحصل عليه، لكن المشكلة هي أن تلك النزعة الجوهرية لها مشكلات وخيمة إذا امتدت لتؤثر في وجهة نظرنا عن البشر، هنا ستؤثر على أشياء غاية في الحساسية، لنأخذ مستقبل أولادنا على سبيل المثال، بحسب دراسة(5) صدرت من الجمعية الأميركية للطب النفسي قبل عدة أشهر.

      

هناك نظرية تقول إن الناس يمتلكون افتراضا طبيعيا بأن الأشياء والبشر والأحداث لها جواهر أو جذور غير مرئية تجعلهم ما هم عليه
هناك نظرية تقول إن الناس يمتلكون افتراضا طبيعيا بأن الأشياء والبشر والأحداث لها جواهر أو جذور غير مرئية تجعلهم ما هم عليه
     
قوالب جاهزة

في هذه الدراسة وجد الباحثون أن عددا كبيرا من الناس يرى أن الطريقة التي يميل الطفل إلى التعلّم بها هي ما يحدد مستقبله التعليمي والمهني بلا رجعة، لأنها -ببساطة، من وجهة النظر تلك- جزء من تركيبه البيولوجي الذي ورثه عن أبويه، وعلى الرغم من أن ذلك غير صحيح، ويمكن بالفعل للطفل التعلّم عبر أنماط عدة ويمكن تعليمه تلك الأنماط، فإن الناس يؤمنون بتلك الفكرة على أية حال، لكن المشكلة هي أن الكثير من المعلمين أيضا يميلون لتصنيف الطلبة بحسب أنماط تعلّمهم، ما قد يؤدي إلى منع طفل عن أسلوب تعليمي أكثر إفادة له لأن المعلم يراه مناسبا في هذا دون ذاك، وأن هذا الأمر جيني أو بيولوجي.

  

نواجه تلك المشكلة بالفعل بصورة أكثر عمومية حينما يقوم المعلمون بتصنيف الطلبة إلى ذكي وغير ذكي مباشرة منذ اللحظة الأولى، ولأنهم مقتنعون أن التغيير أمر غير ممكن وأن تلك الأشياء تقع في جوهر الأطفال ستغيب عنهم الكثير من المؤثرات التي قد تمنع الطفل من إطلاق كامل طاقته ناحية التعلم، فقد يكون الطفل ذكيا لكنه غير مهتم، أو قلق، أو أن تلك الطريقة لا تناسبه، أو أي شيء آخر غير أن يتم تصنيفه بشكل مباشر فقط بناء على قناعة فكرية لدى معلمه!

  

يلخص بول بلوم، عالم النفس الشهير من جامعة ييل، تلك الفكرة في كتابه "كيف تعمل اللذة: العلم وراء لماذا نحب ما نحب" حينما يقول إن واحدة من أكثر الأفكار إثارة في العلوم الإدراكية هي النظرية القائلة إن الناس يمتلكون افتراضا طبيعيا بأن الأشياء والبشر والأحداث لها جواهر أو جذور غير مرئية تجعلهم ما هم عليه. بدرجة ما -بحسب بلوم- وُلدنا جميعا بنزعة جوهرية، وهو أمر قد يستمر بمستوى طبيعي غير مؤثر أو قد يمتد إلى درجة أكثر عمقا مما نتخيل.

    

كتاب
كتاب "كيف تعمل اللذة: العلم وراء لماذا نحب ما نحب" لـ " بول بلوم" (مواقع التواصل)

    

حيث يمتلك هذا النوع من التفكير دورا كبيرا في عمليات تنميط البشر وتمييزهم على أساس العِرق أو الجنس أو الاضطراب العقلي أو حتّى نوعية شخصياتهم، ورغم التعقيد الشديد الذي يكتنف تلك النطاقات البحثية فإن الناس، في العموم، يقومون ببناء حجج غير علمية من الأساس، لكنها مقبولة من حيث تتابعها السببي بالنسبة لهم، حول طبائع الآخرين، بحيث تكون قادمة مباشرة من جوهر واحد يميز فئة بعينها بشكل عام، فتكون الإناث، في المطلق، أقل ذكاء من الرجال، أو يكون السود، في المطلق، أكثر عنفا من بقية البشر، رغم أن ذلك غير صحيح.

  

وكما يحدث مع الأطفال في المدارس، فإنه يحدث أيضا مع تلك الأقليات، خذ مثلا المهاجرين إلى الدول الأوروبية حاليا، حيث يتصور بعض مواطني تلك الدول أن هذا القادم من بلاد بعيدة مزروعة حتّى رقبتها في ثنايا الحرب يختلف عنه، ذو جوهر عنيف أو لص أو مختل بطبيعته، وبالتالي فإنه لا يمكن بحال أن يتغير، ومن هنا يمكن أن تنطلق موجات العداء تجاه هذا الشخص وكل ما يُمثّله، رغم أنه -في النهاية- شخص طبيعي مثلي ومثلك ومثل مواطن بريطاني.

  

هل كان الجوكر، الشخصية التي جسّدها ليث هيدجر في الفيلم الشهير "دارك نايت" (Dark Night) أو تلك التي يُمثّلها حاليا خواكين فينكس في فيلم "الجوكر" (Joker)، ليصبح شخصا أفضل لو ظن الناس أنه ليس شريرا بطبعه ولكنه فقط نتيجة للظروف والسياقات؟ حسنا، الأمر معقد للغاية، فبعيدا عن المعارف العلمية التي تقول إن جزءا من شخصياتنا قد ورثناه عن أبوينا، وأن جزءا آخر منها سبّبته طبيعة العالم من حولنا، فإن الطريقة التي نرى بها الآخرين، على أنهم نتيجة طبيعتهم أو نتيجة البيئة، تحدد كيف سنتعامل معهم، وبالتبعية كيف سيتعاملون معنا كرد فعل، لا نعرف إن كان الجوكر سيصبح شخصا أفضل أم لا إن عاملناه كشخص يمكن أن يكون أفضل، لكنه أدّى دوره ببراعة على أية حال.

المصدر : الجزيرة