هل يمكن أن يصل الإشعاع من انفجار روسيا إلى الوطن العربي؟

حسنا، دعنا نقارن بين حادثتين، الأولى كانت انفجار المفاعل النووي تشيرنوبل، في أبريل/نيسان 1986، والثانية تتعلق بانفجار يحمل طابعا نوويا حدث فقط قبل عدة أيام في مخازن سلاح أكينسك شمالي غرب روسيا في أثناء اختبار تجريبي لأحد الصواريخ الروسية الجديدة، لكن لا تعقد تلك المقارنة حول شدة الحدث أو درجة تأثيره على الناس بصورة طبّية، بل قارن الحدثين بوجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الأول حصل في فترة لم يكن من الممكن أن تصلك، في المنزل، معلومة واحدة عنه، والثاني حصل في أوج تطورنا التواصلي، هل هناك فارق واضح؟
للوهلة الأولى ستبدأ بالإجابة القصيرة، نعم، ألا ترى ذلك؟ الأخبار تملأ كل مكان، في الثمانينيات تم التعتيم على كل شيء، أما الآن فالخبر منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي والجميع يتحدث عن الأزمة، هل تعرف أن الشفق الأحمر الذي حدث قبل عدة أيام ذو علاقة مباشرة بهذا الحادث؟ لقد وصل الأمر لدرجة أن البعض من مشاهير وسائل التواصل قالوا إن هناك خطرا علينا هنا في الوطن العربي من ذلك الانفجار، وينصح البعض بأن نبدأ في البحث عن مخابئ محصّنة بمعدن الرصاص، هل أخبروك أن الروس قد قاموا بتوزيع مئات الآلاف من أقراص اليود على المواطنين في المدن المجاورة خشية أن يصابوا بسرطان الغدة الدرقية؟
لا، في الواقع، لم يوزّع(1) الروس أقراص اليود على سكان المدينة المجاورة للانفجار والتي تحوي 185 ألف نسمة، ولكن ما حدث حقا هو أن انتشار أخبار هذا الانفجار، وما رآه سكان المدينة وسمعوا صوته، قد أثار الرعب في قلوبهم فطفقوا يجمعون حبوب اليود من الصيدليات ويتعاطونها خشية أن يكون الانفجار قد سرّب من الإشعاع النووي ما قد يضر بصحتهم وصحة أطفالهم، أما أن تقول إن أثر هذا الانفجار الإشعاعي يمكن أن يعبر الدول وصولا إلى منزلك، فالأمر يحتاج إلى وقفة.
حينما نتحدث عن أثر الإشعاع على المادة الحية، جسمك والشجرة والقط الأليف في الغرفة المجاورة، يجب أن نبدأ بالتعرف إلى "الزيفرت"(2) (Sievert)، وهي وحدة مكافئة لكم الإشعاع الذي يمكن أن يمتصه الجسم، سُميت كذلك نسبة إلى رولف زيفرت، وهو عالم سويدي كان فيزيائيا وطبيبا في الوقت نفسه، وتستخدم تلك الوحدة بشكل رئيسي لتوضيح معايير الخطر أو الأمان الإشعاعي، لفهم الأمر يمكن أن تأكل موزة واحدة، لكن ما علاقة الموز بالإشعاع الصادر من انفجار نووي؟
الكثير في الحقيقة، حيث يُطلق اسم "جرعة الموز المكافئة"(3) (Banana equivalent dose على كمّ الإشعاع المؤيّن الصادر من موزة واحدة متوسطة، والذي يُقدَّر بـ 0.1 ميكرو زيفرت، حيث يحتوي اليود بشكل طبيعي على عنصر البوتاسيوم 40 المشع، تُستخدم تلك الجرعة تعليميا فقط، فهي لا تعني أن الإشعاع سيتراكم في جسمك لقيم كبيرة إذا أكلت الموز باستمرار، والغرض هو إعلام الناس أن تعرض الجسم للإشعاع قد يكون غير ضار، وهو موجود في أي مكان، لكن المشكلة تكون دائما في جرعة الإشعاع.
في الواقع، لا يعرف الكثيرون أن البشر يتعرضون بشكل طبيعي للإشعاع بسبب الأشعة الكونية القادمة من الفضاء، بمعدل 2400 ميكرو زيفرت سنويا، أما لو حدث وقررت الخضوع للأشعة المقطعية فستحصل على 7000 ميكرو زيفرت من الإشعاع، أضف إلى ذلك أن المدخنين، بسبب نسب البلوتونيوم في السجائر، يتعرضون لجرعة مقدارها 160 ألف ميكرو زيفرت سنويا في المعدل، بينما تضع الهيئة الدولية للوقاية من الإشعاع حد الأمان الأعلى للعاملين في مجال الطاقة النووية عند 20 إلى 500 ألف ميكرو زيفرت سنويا، بحسب المنطقة المعرضة للإشعاع من الجسم، بينما الحد الأقصى في حالات الكوارث النووية هو مليون ميكرو زيفرت سنويا.
أضف إلى ذلك أن الأمر أيضا يتعلق بالحد الذي يمكن معه أن تبدأ آثار الضرر الإشعاعي الشديد. على سبيل المثال، يمكن أن يموت الشخص عند تعرضه لفترة قصيرة لما مقداره 4-5 زيفرت (تساوي مليون ميكرو زيفرت)، في الواقع فإن الخطورة الشديدة، والتي تتمثل في ظهور أعراض كالغثيان وفقدان الشهية وتقشّر الجلد وتأثر نخاع العظام والغدد الليمفاوية، يبدأ من التعرض لجرعة إشعاع مقدارها 1 زيفرت (عند انفجار المفاعل تشيرنوبيل وصلت تلك النسبة 300 سيفرت كامل لكل ساعة في التفاعل نفسه!!)، بالطبع يتعلق الأمر بالكثير من العوامل المعقدة، كطريقة التعرض وفترة التعرض ونوع العنصر المشع وهل تنفس الشخص المواد المشعة أم تعرض لها عبر الجلد أم أكلها، إلخ، لكن تلك -في العموم ولأغراض التقريب- هي حدود الأمان.
لكن ماذا عن انفجار روسيا الأخير، كم كانت جرعة الإشعاع الصادرة منه؟ هنا يمكن أن نتأمل الرواية الروسية(4) والتي تقول إن الإشعاع الصادر من هذا الانفجار كان مكافئا لـ 2 ميكرو زيفرت فقط، تأمل الرقم مجددا وقارنه بما عرضناه قبل قليل، إنه رقم ضئيل للغاية، ورغم أنه بالفعل أعلى من المعدلات الطبيعية ما قد يدفع السلطات الروسية لاتخاذ إجراءات وقائية روتينية، فإنه لا يمكن أن يكون مصدر خطورة، خاصة وأن الارتفاع في مستويات الإشعاع ظل مستمرا لمدة نحو الساعة فقط.
في تلك النقطة ربما قد تتساءل عن مدى دقة تلك الأرقام، فالاتحاد السوفييتي له تاريخ في التعتيم وتزييف الحقائق، ساعد على انتشار تلك الفكرة، وكل ما تلاها من تهويل في الحقيقة، المسلسل الأخير "تشيرنوبيل" (Chernobyl)، والذي لاقى رواجا عالميا وأصبح الأعلى تقييما في منصات مثل IMDB، يتحدث المسلسل عن السبب السياسي وراء كارثة تشيرنوبيل في الثمانينيات، وهو التعتيم لأجل صالح الحزب الحاكم.
لكن على الرغم من عدم قدرتنا على التأكد من كمّ الإشعاع الصادر من هذا الانفجار، يمكن لنا أن نتأمل قياسات الإشعاع في الدول المجاورة، فنحن نعرف أن الإشعاع ينتشر خلال الغلاف الجوي مع حركة الرياح، علما بأن كمّ الإشعاع ينخفض بصورة جذرية كلما ابتعدنا عن المركز الصادر منه، هنا سنجد أن دولا مجاورة مثل فنلندا والنرويج لم تسجّل(5) أي ارتفاعات تُذكر في قيمة الإشعاع، ما يعني بالتبعية أن كمّ الإشعاع الصادر من الانفجار نفسه كان ضئيلا، ويشير ذلك إلى أن الانفجار نفسه -بحد تعبير الرواية الروسية- كان يحمل بالفعل طابعا نوويا لكنه ليس انشطاريا بالمعنى المفهوم، وإلا لكانت آثار الإشعاع رُصدت في أماكن متفرقة من العالم.
للمزيد من التفاصيل عن الأمر المتعلق بالآثار الطبية للتسريبات النووية ومدى المبالغة فيها يمكن أن تتأمل تقريرا أكثر تفصيلا للكاتب بعنوان(6) "مسلسل Chernobyl.. هل يمكن لتسريب نووي أن يقتل قارة بأكملها؟". لكن في النهاية، فإن المشكلة تكون دائما في تصورات الناس عن طبيعة الإشعاع النووي، فما أن يتحدث أحدهم عن أي شيء ينتهي بكلمات مثل "نووي" و"إشعاع" حتّى تتخيّل الغالبية العظمى منّا أشياء مثل "شخص بثلاث أقدام" أو "سمكة بثلاث عيون" أو تشوهات الأجنة، إلخ.
إن تاريخ هذا الخطأ في الفهم يضرب بجذوره وصولا إلى قنبلتي "هيروشيما" و"ناجازاكي"، بل إن أحد أشهر الشائعات التي لاقت قبولا وتصديقا كبيرين بينما كنّا أطفالا في عصر ما قبل الإنترنت، هنا في الوطن العربي، هي تلك التي تقول إن هيئة اليابانيين لها علاقة بانفجار القنبلة النووية، خاصة عيونهم الضيّقة، بسبب الإشعاع.
في الثقافة الدارجة، كلمة "إشعاع نووي" مرادفة لأكبر أنواع المخاطر في أذهان الناس، على الرغم من أن البشر يحققون تقدما ملحوظا في استخدام الإشعاع النووي لأغراض طبية، سواء من أجل الفحص الطبي، بداية من الأشعة السينية وصولا إلى الأشعة المقطعية، أو من أجل علاج أمراض كالسرطان، لكن المشكلة التي تواجهنا نفسية من الأساس.
في الحقيقة، إن تلك الحالة تتخذ بالفعل اسما مميزا: "الراديوفوبيا"(7) (Radiophobia)، أي الخوف من أي مصدر للإشعاع النووي، حتّى إن متخصص الآثار الصحّية للإشعاع، الطبيب الياباني يوشيمي ياماشيتا، قال ذات مرة إن متوسطات أعمار الأفراد الذين تم إجلاؤهم بعد حادثة تشيرنوبيل انخفضت من 65 سنة إلى 58 سنة، ليس بشكل أساسي بسبب الإشعاع، ولكن بسبب الاكتئاب وإدمان الكحول والانتحار.
على وسائل التواصل الاجتماعي، استغل البعض تلك الحالة من الخوف الذي تربّى لدينا منذ قنبلتي هيروشيما وناجازاكي وبدأ بالفعل في تأليف أحداث غاية في الغرابة عن انفجار مخازن سلاح أكينسك، قد تكون هناك درجات من الخطورة بالفعل في المنطقة القريبة، وانفجارات كتلك لا تتعلق فقط بالمشكلة النووية، بل أيضا بطبيعة السلاح الذي انفجر وما حمله على متنه، لكن أن يصل الأمر أن يطلب أحدهم من الناس أن يسارعوا بالبحث عن مخابئ -هنا في المنطقة العربية- من أجل التجهز لأحداث كارثية قادمة، أو أن يطلب الآخر إلى الجمهور أن يتجهز لحالات سرطان واسعة وتغيّر مناخي كبير!
المشكلة التي نواجهها في تلك النقطة هي أن تلك المنشورات وجدت انتشارا هائلا بين الناس، هائلا لدرجة تدعوك لإعادة التساؤل عن دور الإنترنت في حياتنا، تدعوك لعقد المقارنة نفسها التي تحدثنا عنها في أول التقرير، هل حصلنا على المعلومة الصحيحة في أيٍّ من الحالتين؟ أم أن انتشار الأخبار الكاذبة عن كل شيء تقريبا قد حيّد الناس فباتوا لا يثقون بشيء وأصبحت المعلومة تائهة في الحالتين، تارة لأنها غير متاحة، وتارة لأنها ضاعت في بحر من الكذب؟!
الإنترنت، وخصائصه الباهرة مثل التواصل الفائق والقدرة على الوصول اللا محدود تقريبا إلى المعلومات، هي هبات البشر المعاصرة، الآن يمكن لك أن تتعلّم عن الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس والجيتار والتصوير السينمائي بأرقى الجامعات، بينما أنت جالسٌ بمنزلك، يمكن أن تتواصل مع البشر من كل أنحاء العالم، يمكن أن تدور في الكون الواسع كله عبر حاسوبك المكتبي.
حينما نقوم بمشاركة اقتباسات ليجاسوف في مسلسل "تشيرنوبل" -تعليقا على تلك الحادثة الأخيرة- بينما يقول إنه إذا سمعنا ما يكفي من الأكاذيب لن نستطيع تمييز الحقيقة، أو بينما يقول إن "كل كذبة نقولها تتحمل دَينا للحقيقة، عاجلا أم آجلا سيتم سداد الديون"، قد تكون المفارقة هي أننا مَن يزيف الحقائق، يحدث ذلك حينما نساعد في نشر الزيف عبر "المشاركة" من دون التأكد -ولو لوهلة- من صحة ما ننشر، هنا سيكون تسديد الدين هو أن نفقد تلك الهبة المعاصرة، سيكون أثر ذلك كارثيا.