شعار قسم ميدان

الدب الأكبر.. هكذا يمكنك رصد ملك نجوم السماء!

midan - رئيسية نجوم

تبدأ الأسطورة من الحورية الفاتنة "كالليستو"، تلك الجميلة التي أبهرت زيوس ملك الآلهة فاتخذها خليلة. كان ينزل للقائها والتمشّي معها في زيارات سرّية خشية أن تعرف زوجته بالأمر، إلا أن الشك قد أصاب هيرا، زوجته، ونزلت إليه في الغابة فجأة، فما كان منه عندما لاحظ قدومها إلا أن حوّل كالليستو إلى دب بني كبير، عندما وصلت زوجته بحثت حوله فلم تجد إلا دبا كبيرا وزيوس مرتابا، فطلبت منه أن يصعد معها، حاول زيوس أن يبقى ليعيد كالليستو، لكنه لم يفلح في محاولته أمام إصرار زوجته، فذهب معها.

  

بعد ذلك جاء ابن الحورية كالليستو، الصياد الماهر أركاس، وكان يتمشّى في الغابة باحثا عن صيد ثمين، ثم رأى ذلك الدب البني الكبير، فأطلق سهما نافذا في قلبه، فتحول بعد الضربة إلى صورته البشرية، هنا بكى أركاس بكاء عظيما وصل صوته للسماء فخشي زيوس أن تسمعه هيرا، ونزل للأرض، ثم كمحاولة لاسترضاء أركاس حوّل زيوس أمه إلى دب مرة أخرى ورفعها للسماء تمجيدا لها (الدب الأكبر)، ورفع معها ابنها أركاس (الدب الأصغر). وحينما ارتفع أركاس للسماء وجّه نفسه ناحية أمه ليراقبها ويرعاها للأبد.

  

أما قدماء المصريين فقد تصوروا هذه المجموعة من النجوم كأنها ثور يحرث الأرض، بينما تخيلها الصينيون على شكل عربة صغيرة يجري خلفها شخصان، وفي أوروبا كانت العربة نفسها لكن تجرها ثلاثة خيول، أما العرب فكانت لهم حكاية حزينة مرتبطة بتلك المجموعة من النجوم، حيث تقول الأسطورة إن نجم سهيل قتل "نعش"، وكان له سبع بنات جميلات حزنَّ بشدة وقررن الانتقام، هنا هرب سهيل إلى الجنوب الشرقي (موضعه في السماء)، وطاردنه وهن يحملن نعش أبيهن، لكن سهيل ظل في الجنوب لا يظهر فقط إلا لفترة قصيرة كل عام ويدخل تحت الأفق مرة أخرى، ولم تصل له بنات نعش أبدا، وهكذا ظللن يحملن نعش الأب للأبد، يقول أبو العلاء المعرّي:

تَبارَكَ مَن أدارَ بَناتِ نَعشٍ، ومَن بَرَأ النّعائِمَ في حَراها

  

نجوم قطبية، ودببة غير قطبية!
هكذا تظهر نجوم الدب الأكبر في السماء، لاحظ تلك النجوم السبعة اللامعة التي تصنع ما يشبه المقلاة، في منتصف الصورة، يسار الشهاب
هكذا تظهر نجوم الدب الأكبر في السماء، لاحظ تلك النجوم السبعة اللامعة التي تصنع ما يشبه المقلاة، في منتصف الصورة، يسار الشهاب

    

وقد حصلت كوكبة الدب الأكبر على شهرتها العظيمة من موقعها في السماء، فهي، أولا، واحدة من الكوكبات القطبية (Circumpolar Constellations)، وهي مجموعة من الكوكبات التي توجد بالأعلى في الكرة السماوية بحيث لا تغيب أبدا، تظل طوال العام، في الكثير من الدول التي تقع شمال خط الاستواء، موجودة ليلا. ثم، ثانيا، فهي إحدى أهم الوسائل التي استخدمها البشر طوال تاريخهم لمعرفة الاتجاهات ليلا، فنجماها (المراق والدبة) يشيران إلى النجم القطبي، ويعني ذلك اتجاه الشمال الجغرافي. لفهم آلية حدوث ذلك يمكن لك تأمل تقرير سابق غاية في البساطة للكاتب بعنوان "هل نرى نفس النجوم في السماء طوال العام؟".

   

undefined

    

الآن دعنا من الحديث عن التاريخ ولنبدأ بالرصد، حيث يعني ما سبق أن خروجك للبحث عن الدب الأكبر سوف يكون ممكنا في أغلب الوقت، هنا في الوطن العربي تكون أفضل فرصة لمراقبتها في الربيع، حيث تظهر فوقك تماما تميزها 7 نجوم أساسية تصنع ما يشبه مقلاة أو مغرفة كبيرة مرسومة في السماء، أما في الصيف وفي الشتاء فسوف تراها يسارا أو يمينا في وضع مقلوب (تأمل التصميم المرفق)، وفي الخريف لا يمكن أن نراها بسهولة لأن جزءا كبيرا منها يكون تحت الأفق تماما، لكن لو كنت من سكان أوروبا، مثلا، فسوف تراها طوال العام في الأفق الشمالي.

    

undefined

   

بعد أن تتعرف إلى النجوم السبعة الأساسية المكونة لمقلاة الدب الأكبر (هذه هي بنات نعش السبع)، سوف يكون ممتعا للغاية كذلك أن تحاول أن تتبع الشكل الكامل للكوكبة (الدب الأكبر)، في ليلة حالكة لن تجد أي مشكلة في ذلك، تضم الكوكبة نحو عشرين نجما، وتتفاوت في كثافة اللمعان من اللامع جدا إلى الخافت الذي يحتاج إلى سماء مظلمة كي تراه، حاول كذلك أن تتعرف "على قفزات الغزال الثلاثة" (Three Leaps Of The Gazelle)، إنها مجمة (Asterism)، أو شكل مميز للنجوم، يتكون من ثلاثة أزواج من النجوم عند أقدام الدب الثلاث الظاهر، تسمى من اليسار لليمين (القفزة الأولى، القفزة الثانية، القفزة الثالثة)، تقول الحكاية العربية إن الأسد (Leo) باغت غزالا سماويا جميلا لكن الغزال قفز سريعا "ثلاث قفزات" وهرب.

  

استخدم أطلس الاتحاد الفلكي الدولي للتعرف على أسماء النجوم الخاصة بالكوكبة، كذلك يمكن لك استخدام التطبيق الحاسوبي الأفضل "Stellarium" (مجاني) والذي سيعرفك بكافة المعلومات عن نجومها، مشكلته فقط أن أخذ اللابتوب، مثلا، معك للرصد سيكون ضارا، لأن الضوء الصادر من الشاشة سيلوث ظلام المكان ويقلل قدراتك على الرصد بشكل كارثي، لذلك فالأفضل أن تستخدم الخرائط. ومع استخدام نظارة معظمة بمقاس (10×50) يمكن لك بسهولة أن تتأمل نجوم الدب الأكبر بصورة أفضل وأكثر متعة.

   

undefined

   

ويسمى الدب الأكبر، بين هواة الفلك، بملك الربيع، ذلك لأنها الكوكبة التي نستخدمها لكي نتعرف إلى باقي كوكبات السماء في هذا الفصل، فنبدأ بتحديد الشمال الجغرافي من نجمي الدليلين (الدبة والمراق) ثم ننطلق للجنوب ناحية الأسد (Leo)، أو غربا ناحية باقي كوكبات الشتاء كالتوءم (Gemini)، أو شرقا ناحية القوس العظيم الممتد حتى الغراب (Corvus)، ولكل التفاصيل المتعلقة بتلك الرحلة الربيعية الممتعة يمكن لك أن تتأمل تقريرا مفصّلا سابقا للكاتب يقدم فيه سماء الليل طوال فصل الربيع للمبتدئين، بعنوان "استكشاف السماء.. كيف نقرأ نجوم الربيع؟".

  

ملوك السماء الأشهر

دعنا الآن نترك الرصد ونتعرف إلى نجم الإلية (Alioth)، وهو ألمع نجوم الكوكبة، تجده بسهولة فهو أول نجوم الذيل الثلاثة من ناحية الدبة، ويبتعد عنّا نحو 80 سنة ضوئية، والمميز في كوكبة الدب الأكبر هو نطاق مسافات نجومها الواسع، فأنت تراها، هنا من على الأرض، كشكل يشبه المغرفة يتكون من سبع نجوم بشكل رئيسي، لكنها، جميعا، لا تقف في السماء على المسافة نفسها منّا، بل تتراوح مسافاتها بين 15 سنة ضوئية و500 سنة ضوئية أو قد تصل في بعض الحالات لتتخطى حاجز الـ 1200 سنة ضوئية، في التصميم المرفق سوف تتعلم عن المسافات بين الشمس ونجوم كوكبة الدب الأكبر، هذه هي الصورة الحقيقية لتلك النجوم، وهذه هي فقط مجموعة قريبة منها، ما بالك بمجرتنا! ما بالك بالكون الواسع؟!

    

undefined

   

وما يلفت الانتباه لمجموعة نجوم الدب الأكبر، باستثناء كل من القائد (Alkaid) والدبة (Dubhe)، هو أنها تتحرك جميعا، بالنسبة لنا، بالسرعة نفسها، وفي الاتجاه نفسه، ناحية كوكبة القوس (Sagittarius)، وكذلك فإن لها جميعا تركيبا كيميائيا متشابها، ولها تقريبا العمر نفسه، لهذا السبب سميت بمجموعة الدب الأكبر المتحركة (Ursa Major Moving Group)، ويدفعنا كل ما سبق إلى الاعتقاد أن تلك المجموعة من النجوم كانت يوما ما، قبل نحو 500 مليون سنة، جزءا من سحابة نجمية واحدة، تغذت على هيدروجينها، ثم تحولت إلى تجمع نجمي مفتوح (Open Cluster)، ثم انفصلت عن بعضها بعضا، وذهب كلٌّ منها إلى حاله، تماما كالشمس، وككل شيء آخر في هذا الكون.

  

بعد الإلية، لا يلفت الانتباه بشكل واضح في الدب الأكبر إلا الثنائي الأشهر "المئزر" (Mizar) و"الكور" (Alcor)، حيث يمثلان أشهر نجم مزدوج في سماء الليل، وذلك لأنه يمكن رؤيتهما بسهولة، على عكس النجوم المزدوجة الأخرى التي تحتاج إلى نظارة معظمة أو تلسكوب لفصلها، وكان الناس قديما يستخدمون هذا الثنائي لتحديد قوة البصر، فالذي يتمكن من فصله يكون حاد البصر، أما من يرى المئزر فقط، أو يراهما معا كنجمة واحدة، فبصره ليس حادا، وعلى الرغم من أن ضعاف البصر كذلك يمكن لهم رؤية النجمين، لكن ذلك يحتاج إلى بعض التدقيق والتركيز، يمكن لك الليلة أن تجرب أنت أيضا ذلك الاختبار، هل يمكن لك أن تفصل بين المئزر والكور؟

   

الثنائي، المئزر والكور، في لقطة بديعة
الثنائي، المئزر والكور، في لقطة بديعة

  

لكن الأكثر إمتاعا هنا هو أن نعرف أن هذا الثنائي لا يتكون من نجمين فقط، فالمئزر نفسه يتكون من نجمين، لكل منهما رفيق يدور حوله، ما يعني أن المئزر فقط يتكون من أربعة نجوم، أما الكور فكان الظن حتى 2009 أنه نجم واحد، لكنّ فريقا من جامعة رودشيستر، وآخر من المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي كانوا قد أكدوا، أثناء بحثهم عن كواكب خارجية حول النجم، على وجود رفيق صغير يدور حوله، بعملية جمع بسيطة نتعلم إذن أن هذا الثنائي اللامع هناك هو نظام نجمي متعدد (Multiple Star) يتكون من ستة نجوم تدور حول بعضها بعضا، ست شموس كاملة، كيف يمكن لعالم كهذا أن يبدو؟!

  

الآن، إلى الأعماق السماوية

جميل جدا، الآن دعنا نتحول قليلا عن عالم نجوم الدب الأكبر إلى أجرامها العميقة (Deep Sky Objects)، حيث تحتوي الكوكبة على مجموعة ممتعة من أجرام مسييه الشهيرة، وكان تشارلز مسييه، الفلكي الفرنسي، في أثناء بحثه عن المذنبات بالمرصد الملاحي في باريس، قد لاحظ وجود أجرام غير ذات شكل منتظم في السماء، فقام بوضعها في قائمة تضمنت 110 منها، بحيث تكون دليلا للفلكيين الباحثين عن المذنبات فيما بعد كي يتجنبوها، لكن مسييه لم يكن يعرف أن هذه هي مجموعة من المجرات، السدم، التجمعات النجمية العنقودية والمفتوحة، وقد أصبحت تلك القائمة هدفا لكل هواة الفلك من أنحاء العالم، حيث تقام ماراثونات سنوية لمن يتمكن من رصدها بالتلسكوب الخاص به.

    

undefined

    

وتشتهر أجرام مسييه بالحرف M، بحيث تكون مثلا M 101 معبرة عن مجرة دولاب الهواء (Pinwheel Galaxy)، وM 81 معبرة عن مجرة بود (Bode’s Galaxy)، أما M 82 فهي مجرة السيجار (Cigar Galaxy)، وهكذا تعبر كل M عن جرم ما، يمكن لك أن تجد، حول كوكبة الدب الأكبر، نحو 12 جرما من أجرام مسييه، تتنوع بين السدم والمجرات، لكن الثلاثة التي ذكرناها قبل قليل هي فقط المجموعة التي يمكن لتلسكوب صغير أو متوسط التقاطها بسهولة، أما البقية فتتخطى القدر التاسع بسهولة، ما يصعب عليك مهام اصطيادها.

    

صورة تجمع بين الرفيقتين بود والسيجار
صورة تجمع بين الرفيقتين بود والسيجار

   

إذا كنت مبتدئا، فالإمساك بالثنائي بود والسيجار هو تحدٍّ صعب، خاصة مع تلسكوب صغير، سوف تبدو المجرتان كسحابتين دخانيتين غاية في الرقة، ويحتاج الأمر منك إلى بعض التركيز. تبتعد المجرتان عن الأرض ما يقترب من 12 مليون سنة ضوئية، بينما يبتعدان عن بعضهما بعضا 150 ألف سنة ضوئية؛ أي إنه يمكن لك وضع درب التبانة بينهما بسهولة، في الصور تظهران جنبا إلى جنب، ولا يمكن رؤيتهما هكذا إلا عبر تلسكوب صغير أو -ربما- متوسط.

   

صورة مركبة من التلسكوب هابل تبين روعة مجرة السيجار، تلك التي تشبه السيجار فعلا
صورة مركبة من التلسكوب هابل تبين روعة مجرة السيجار، تلك التي تشبه السيجار فعلا

   

أما مجرة دولاب الهواء فهي الأصعب في هذا الثلاثي، حيث تقترب من القدر الثامن، كذلك فإن صورتها في التلسكوب تظهر خافتة للغاية، ولا يمكن بحال أن تمسكها بتلسكوب صغير، وهي مجرة نشطة، تحتوي على كميات هائلة من مناطق الهيدروجين 2 الخصبة، ما يسمح لها بتوليد نجوم عملاقة بشكل سريع، والمجرة، في المجمل، تحتوي على ضعف نجوم مجرتنا درب التبانة (نحو تريليون نجم)، كما أنها أكبر بنحو مرة ونصف، ولها خمس مجرات صغيرة تدور في فلكها، وتؤثر بدورها على أذرع مجرة دولاب الهواء فتجعلها أكثر انفتاحا.

   

مجرة دولاب الهواء، من أروع ما يمكن أن ترى
مجرة دولاب الهواء، من أروع ما يمكن أن ترى

   

حسنا، لنعود إلى الأرض. لا يمكن أبدا أن تستشعر مدى روعة ليلة رصد مع تلسكوب بسيط فوق سطح المنزل الخاص بك إلا حينما تجربها، حيث عندما تنتهي من تلك الجولة ثم تنزل لغرفتك سيخالجك شعور غريب بأنك كنت مسافرا بالفعل في الفضاء، بين النجوم والمجرات، ثم حدث، لسبب ما، أن عدت إلى كوكب الأرض، رغم أنها فقط درجات السلم هي ما يفصلك عن تلك الرحلة. وهذا -في الحقيقة- هو أهم ما تعطيه سماء الليل لنا، تلك المعرفة البسيطة عن الشكل الثلاثي البُعد للكون في الأعلى، وتركيبته، وضخامة مكوناته، بينما تتأمله في ليلة صيفية حارة، تعطينا شعورا مريحا للغاية بالبراح في ذواتنا، قدر براح الكون نفسه.

 

——————————————————————-

ملاحظة:
يعتمد التقرير بالأساس على خبرة كاتبه مع سماء الليل طوال سنوات عدة رصدها بالعين المجردة وبنظارات معظمة وتلسكوبات متنوعة آخرها كان "Celestron CPC 800" ثمانية إنشات، بمساعدة عدة كتب مهمة مثل: Star Atlas Companion، The Night Sky Companion، Guidebook to the Constellations، The Mythology of the Night Sky، The Amateur Astronomer’s Guide to the Deep-Sky Catalogs، وكلها تابعة لدار نشر سبرينجر، ويُنصح بها لكل هاوٍ للفلك، ويمكن لك أن تتأمل تقريرا للكاتب بعنوان "إليك الدليل الشامل لتعلم علم الفلك"، تجده في قائمة تقاريره عبر الضغط على اسمه بالأعلى، سيقدم لك كل الكتب، الأطالس، والدلائل الممكنة لتسبر أغوار هذا العلم وحدك.