شعار قسم ميدان

بين الهواتف والقنابل.. هل سيدفع الإنسان ثمن التقدم التقني؟

midan - science
استمع للتقرير
   
في إحدى حلقات الجزء الثاني من المسلسل ذي الشهرة الواسعة "بلاك ميرور" (Black Mirror)، يُحكى أن البشر قد تمكنوا بالفعل من إدماج الهواتف الذكية داخل عقولهم، وبذلك أصبح من السهل أن تلتقط صورة لشخص آخر أو تسجل حديثا دار بينكما، لكن أصبح ممكنا كذلك أن "تحجب" (Block) أحدهم عنك، وما إن تفعل ذلك حتى يتحكم الهاتف المثبت في دماغك، ودماغه، وأدمغة البشر المتصلين جميعا بالشبكة، ويمنعك عن رؤيته أو الحديث معه، ويمنعه كذلك من التواصل معك، حتى وإن قابلته في الشارع فسوف يشوش الهاتف على إدراكك فتراه كصورة متحركة غير واضحة وتسمع صوته بشكل غير واضح كأنه ميكروفون عاطل عن العمل.

 

بالطبع قد تتعجب من ذلك، للوهلة الأولى قد لا تقبله، لكن هل كان الناس -في هذا العالم- قبل 40 سنة ليقبلون بأكل أسماك معالجة بتقنيات حيوية؟ هل كانوا ليقبلوا بأن تنتشر الكاميرات في كل مكان وأن يتمكن الجميع من الوصول لهم أينما كانوا؟ ورغم أن "بلاك ميرور" يعرض لافتراضات خيالية بعض الشيء، ومتشائمة كذلك، لكنها -لا شك- متوقعة، بل إن السؤال "هل هاتفك الذكي جزء من دماغك؟"(1) مطروح بالفعل عبر عدة نطاقات بحثية، بمعنى أن ذاكرة الهاتف النقال الخاصة بك تعمل بشكل ما كجزء من دماغك، بسبب هذا التفاعل الدائم بينك وبينها، بحيث أصبحت تذكرك بأعياد ميلاد الآخرين ممن تهتم بشأنهم، وبحيث أصبحت تقرر أي الأكلات أقرب لقلبك، وأي القرارات يمكن أن تتخذ في موقف ما، وأي الإشعارات أو الرسائل النصية -والتي أصبحنا بعد 2012 نتبادلها أكثر من الرسائل عبر البريد الإلكتروني- تصلك أولا وأيها لا.

 

تغيُّر العالم.. أم وجهة نظرنا؟!

في تلك النقطة دعنا نتأمل قليلا تأثير الهواتف الذكية على أفكارنا عن العالم من حولنا، فالهواتف الذكية -مثلا- تخلق "فقاعات خاصة" وهمية حول مستخدميها في الأماكن العامة، لدرجة بدأت تدفع مصممي الأماكن العامة لمراعاة أن هناك "هؤلاء الأشخاص" الذين يتخذون مكانا جانبيا لمتابعة هواتفهم الذكية بشكل منفصل عن العالم وكأنهم في المنزل، بالضبط كما تصمم أماكن للمدخنين وغير المدخنين، لكن لفهم السبب في الحاجة المستقبلية إلى ذلك دعنا نتأمل دراسة(2) أخيرة بحثت وجهة نظر مجموعة من حاملي الهواتف الذكية مقابل حاملي الهواتف العادية عن معنى الخصوصية.

  

undefined

  

هنا التزم أصحاب الهواتف العادية بالبروتوكول الاجتماعي المعروف بالنسبة لاستخدام الهاتف، أي تأجيل المحادثات الخاصة للمساحات الخاصة، والنظر في مدى ملاءمة استخدام الهاتف الخلوي في الأماكن العامة أو في أثناء وجودهم ضمن جماعات، بينما قام مستخدمو الهواتف الذكية بصنع سلوكيات اجتماعية جديدة للأماكن العامة، فظهر أنهم أقل عرضة لإزعاج مستخدمي الهواتف الذكية الآخرين، وأقل احتمالا من مستخدمي الهاتف الاعتيادي لتصور أن محادثاتهم الهاتفية الخاصة مزعجة لمن حولهم في المكان العام.

 

ما نراه هنا هو تغير واضح في مفهوم الخصوصية لدى الأشخاص الذين يستخدمون الهواتف الذكية، ولذلك ستجد أنهم أكثر احتمالا بنسبة 70٪ من مستخدمي الهواتف المحمولة يعتقدون بأن هواتفهم توفر لهم قدرا كبيرا من الخصوصية، كنتيجة لذلك كان المستخدمون أكثر استعدادا للكشف عن مشكلات الخاصة -أثناء المحادثات الهاتفية مثلا- في الأماكن العامة، ويطرح هذا بدوره تساؤلا عن شكل المجتمع البشري مستقبلا مع تزايد اقترابنا من الهواتف الذكية واندماجنا بالحياة الموصولة دائما(3) Onlife: حياة متصلة دائما، في كيان متزامن بشكل متزايد، مرتبط ببعضه، ولا مركز له.

 

لكن، هل هذا مفيد؟ بمعنى آخر، هل تتقدم التكنولوجيا فتعطينا صورة واضحة المعالم لمستقبل أفضل؟ في تلك النقطة تتدخل بعض الآراء لتتحدث -مثلا- عن أضرار الهواتف الذكية، فنحن الآن على علم بأن تلك الحالة التي تُدعى "رهاب فقدان الهاتف الذكي" (Nomophopia)، وتعني توتر الشخص حينما لا يكون هاتفه الذكي بحوزته، تتسبب في أعراض إدمانية لدى بعض الأشخاص، فمثلا كان استطلاع للرأي(4) على عيّنة من نحو ألفي شخص، من البريطانيين، قد أشار في العام 2008 إلى أن 58% منهم يميلون للتوتر، والتعصب، حينما لا يكون هاتفهم الذكي معهم، وتظهر الأعراض الأكثر تطورا حينما نتوتر بسبب انقطاع الشبكة للدرجة التي تجعل الواحد منا يتفحص وجودها ويحاول الاتصال بها عبر "الواي فاي" أو شبكة شركة الاتصالات بنمط مستمر ومتكرر، وكأن هناك دفعا قهريا لهذا، كذلك حينما تدفع الشخص العادي رغبة داخلية ملحة لتفحص الإشعارات على الهاتف الذكي الخاص به كل حين وحين بفترات فاصلة قصيرة للغاية بين كل مرة ومرة.

  

 يقف تيّار داعم للتكنولوجيا، فيقول إنه على الرغم من العيوب، فإن الهواتف الذكية جعلتنا أكثر قدرة على التواصل، والوصول إلى المعلومات
 يقف تيّار داعم للتكنولوجيا، فيقول إنه على الرغم من العيوب، فإن الهواتف الذكية جعلتنا أكثر قدرة على التواصل، والوصول إلى المعلومات
   

يؤثر ذلك على درجات انتباهنا(5)، ونتحدث هنا عن قدراتنا الإدراكية، ما يجعل هؤلاء الذين يخوضون اختبارا في أثناء وجود الهاتف الذكي أمامهم يحصلون على نتائج أقل، أضف إلى ذلك أن هناك علاقات، لا نعرف بعد قدر السببية فيها، بين الاستخدام المتزايد للهواتف الذكية أو وسائل التواصل الاجتماعي، وبين تزايد أعراض القلق، والوحدة، والاكتئاب، لدى مستخدميها، مع إشارة إلى أن التأثيرات الدافعة للسعادة على فيسبوك، مثلا، أقل قوة في تأثيرها من التأثيرات الدافعة للتعاسة، ما يعني أن تعرضك اليومي لمئتي خبر سعيد ومئتين آخرين تعيس لا يعني أنك لن تتأثر، بل ستصبح أكثر تعاسة.

 

مهمة السلمون الأطلسي الجديدة!!

في الجانب الآخر يقف تيّار داعم للتكنولوجيا، فيقول إنه على الرغم من العيوب، فإن الهواتف الذكية جعلتنا أكثر قدرة على التواصل، والوصول إلى المعلومات، تأمل مثلا قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على دعم الثورات في الربيع العربي، وعلى إتاحة كم مهول من المعارف للطلبة في كل مكان، تأمل كورسيرا وإيدكس ومحاضرات هارفارد وإم آي تي المجانية، تأمل قدرة طالب في قرية هندية فقيرة على تعلم البرمجة بلغة بايثون من الألف إلى الياء دون الحاجة إلى دفع دولار واحد أو الخروج من منزله، ألا يمكن لذلك كله، لكل تلك الفوائد المتراصة والتي ترفع شأن العالم يوما بعد يوم، أن تؤشر على أن التكنولوجيا تندفع بنا لمستقبل رحب؟

 

ثم دعنا من الهواتف الذكية، تأمل قدراتنا على سبر أغوار المجهول الكوني، وعلى اكتشاف كواكب جديدة صالحة للحياة قد ينقذنا يوما ما أن نبتكر تكنولوجيا فضائية تمكننا من السفر إليها حينما تحين نهاية الأرض، وهو شيء متوقع، الآن تأمل -مثلا- سمك السلمون الأطلسي(6) الجديد، وهو أحد إنجازات التكنولوجيا الحيوية، الأفراد الجديدة من هذا النوع -بعد تعديل جيناتها- أصبحت أكبر في الحجم، تنمو بسرعة، وتحتاج إلى كميات أقل من الماء والطعام، وفي المقابل من ذلك تتمكن من إشباع جوع عدد أكبر من البشر، في تلك النقطة يمكن أن نتأمل مقالا مهما لتشارلز مان في "ذا أتلانتيك" يتساءل فيه عمن سيتمكن من إشباع جوع 10 مليارات مواطن بحلول العام 2050.

 

هنا ينقسم الخبراء إلى فريقين(7)، الأول يقول "خفّض الاستهلاك"، لقد بدأت موارد الأرض بالفعل في رحلتها للانقراض كما تنقرض حيوانات الكوكب 1000 مرة أسرع من المتوقع، أما الثانية فتقول "تفاءل بالتكنولوجيا"، وتعني أن البشر، عبر ثورة في التكنولوجيا الحيوية، قادرون على مضاعفة إنتاجهم من الغذاء بحيث يكفي الأعداد المتزايدة بالفعل، من هنا يمكن لبذل الجهد في مزيد من التكنولوجيا أن يصل بنا إلى بر الأمان بعد نحو 30 سنة، يعيدنا ذلك من جديد إلى السؤال عن التقنية؟ هل هي مفيدة أم ضارة؟

 

  undefined

  

المشكلة هنا -كما يطرحها جاك ايلول في كتابه "خدعة التكنولوجيا"- أن هذا السؤال خاطئ من أساسه، بمعنى أن الخطاب التقني العالمي يصدر لنا التكنولوجيا كسكّين، يمكن أن تستخدمه لقطع الطماطم من أجل عمل سلطة شهية، أو يمكن أن تستخدمه لقتل جارك، الأمر في النهاية يعود لك، بذلك تكون التكنولوجيا -في حد ذاتها- هي عنصر محايد له علاقة فقط بطريقة استخدامك لها، هنا تظهر الكوارث، كما يرى ايلول، لأن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا أبدا، الخطاب التقني مُضلل، يخدعنا.

  

خدعة التكنولوجيا

لعدة أسباب(8)، أولها هو أن هذه الازدواجية بين "الجيد" و"السيّئ" الذي يمكن أن تستخدم فيه التكنولوجيا موجودة فقط في قصص ديزني لاند، إذا اطلعنا على تاريخ تطور التقنية في العالم لوجدنا أن هناك دائما منطقة غموض واسعة للغاية توجد بين هذين النطاقين (الجيد والسيّئ)، في تلك المنطقة من الغموض توجد دائما حالة من عدم التأكد لا يمكن لنا خلالها حسم مستقبل هذه التقنية -أيًّا كانت- في حياتنا، مهما بدت مفيدة للوهلة الأولى، تأمل مثلا مستقبلنا مع إدماج الهواتف الذكية في عقولنا، أو ابتكارنا للفيزياء النووية، لم يكن أحد ليتوقع هذا المستقبل.

  

ببساطة، لا يمكن أن تضع كل تأثيرات التقنية الضارة والنافعة أمامك على الطاولة ثم تنتقي منها المفيد فقط، الصفات الضارة والمفيدة لأي تقنية هي تركيبة معقدة لا يمكن فصلها عن بعضها لسببين: الأول هو مدى تعقدها، وعدم قدرتنا على توقع مستقبل هذه المنظومة المتعقدة بطبيعتها، والثاني هو مدى تعقدك أنت، فحينما يمسك الإنسان بالسكين يصبح شخصا آخر بمعايير أخرى تماما، تتولد لديه أفكار جديدة لم تكن موجودة في السابق، ويختلف حكمه على الأشياء.

  

البشر يواجهون مشكلة إدراكية تتمثل في نقص قدراتنا على الانتباه لكل ذلك المحيط الواسع من الأحداث المتراكبة والمتتالية، فنضطر للتحيز إدراكيا تجاه ما يشعرنا بالأمان والسكون بغض النظر عن موضوعيته، في كتابهما(9) "عصر جديد لعالم جديد" يضرب كل من روبرت أورنشتاين وبول ايريش مثالا بمجموعة من الإرهابيين يقتلون مجموعة من الأميركيين في مكان قصي، وإذا بالملايين يجتاحهم الخوف من الإرهاب، في حين أنه، في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، يقتل الأميركيون بعضهم بعضا بالرصاص، في يوم واحد فقط، ما يفوق عدد كل من اغتاله الإرهابيون، ورغم ذلك فلا أحد يهتم.

   

هيروشيما وناجازاكي كانت نتيجة أننا لم نفكر بطريقة تقول إننا مع كل خطوة فإننا دائما نخوض تحديا ما، نخاطر بأشياء قد تكون مهمة، ونراهن على مستقبل شيء لا يمكن توقع مستقبله!
هيروشيما وناجازاكي كانت نتيجة أننا لم نفكر بطريقة تقول إننا مع كل خطوة فإننا دائما نخوض تحديا ما، نخاطر بأشياء قد تكون مهمة، ونراهن على مستقبل شيء لا يمكن توقع مستقبله!
  

بالتالي، فكل أشكال التقدم التقني إذن لها ثمن(10)، ثمن سوف ندفعه حتما، وهو يثير -هذا التقدم التقني- في كل مرحلة من تطوره مزيدا من المشكلات -حسب رأي ايلول- أكثر مما يساهم في حلّها، تلك المشكلات لا يمكن بسهولة عدّها أو توقّعها، من هنا يمكن أن نتوقف قليلا لتأمل فكرة الحداثة (المركزية) عن التقدم المستمر، هل هي صحيحة؟ هل تتحسن أحوال العالم بالتدريج مع تقدم التقنية؟ هل يستمر التقدم للأبد؟

 

ليس هناك تقدم يقتصر(11) على كونه "تقدما" فقط، فكل تقدم -بحد تعبير ايلول- ينطوي على مخاطر الانحسار، ونحن البشر -عبر القناعة التامة بتلك الفكرة القائلة بأن التقدم يستمر- نتجاهل ثلاثة أشياء مهمة، كان من المفترض أن تكون جزءا رئيسيا من خطتنا، وهي (التحدي، المخاطرة، والرهان)، في أثناء تطويرنا لكل تقنية جديدة، نتجاهل تلك الأفكار الثلاث رغبة منّا في إبراز حريتنا وجرأتنا ونفاذ بصيرتنا، لقد دخلنا للعبة لا يمكن لنا بسهولة فهم قوانينها أو توقع مستقبلها.

 

تُعيد البشرية تشكيل العالم بسرعة قد لا تكون متناسبة مع تطور قدراتنا العقلية كبشر، ما يطرح بدوره مجموعة جديدة من المخاطر للتقدم التقني، ولا نتحدث هنا عن ضرورة إيقاف تقدمنا التقني الذي أسهم في كل شيء جيد وصلنا إليه إلى الآن، لكن ما نود توضيحه هو أننا واقعون مع التقنية في علاقة غاية في التعقد لا يمكن أن نتوقع كل النتائج الممكنة خلالها، والمشكلة فقط هي وجهة نظرنا للتقنية على أنها عنصر "طيّب" بطبعه، محايد وظيفيا، بالتالي ننساق بصورة يمكن أن نصفها بأنها "لاواعية" مع نتائج التقنية.

 

في تلك المنطقة الأخيرة من رحلتنا معا يمكن إذن أن نسأل -أخيرا- عن كارثة هيروشيما وناجازاكي، لم تكن هذه الحادثة من أثر "الاستخدام الخاطئ للتقنية" كما يدّعي الخطاب التقني متحدثا عن "أخطائه" في الماضي، لكنها كانت نتيجة -ربما- حتمية لتصوراتنا عن أن التقدم لا يمكن أن يواجه فترات انحسار، تصوراتنا التي تقول بسذاجة، وسخف، إن التقنية إما نافعة وإما ضارة حسب استخدامنا لها، ترويجنا لاصطلاحات عن أشياء لم تحدث أبدا كـ "الاستخدام السلمي"، تصوُّرنا أنه يمكن توقع كل نتائج مستقبلنا مع التقنية. هيروشيما وناجازاكي كانت ببساطة نتيجة أننا لم نفكر بطريقة تقول إننا مع كل خطوة فإننا دائما نخوض تحديا ما، نخاطر بأشياء قد تكون مهمة، ونراهن على مستقبل شيء لا يمكن توقع مستقبله!