كيف تسهم شركات الأدوية في خسارة حربنا ضد المرض؟
خلال السنوات الماضية انتشرت الأخبار عن حالات متعددة واجهت مشكلات مع إصابات بكتيرية مقاومة ما أصاب العالم كله بالفزع، فنحن بالفعل لم نعد نمتلك خطوطا دفاعية أخيرة لمواجهة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية التي تتجاوز في سرعة تطورها سرعة ابتكارنا لمضادات حيوية جديدة، لكن ذلك بدوره يطرح سؤالا جوهريا خاصا بالنشاط البحثي في المجال الطبي، حيث، لمَ أصبح اكتشاف الأدوية الجديدة، سواء لمقاومة البكتيريا أو لعلاج الأمراض المعاصرة في العموم، صعبا وبطيئا إلى هذا الحد؟ هل انتهت مصادر الأدوية أم أن هناك مشكلات أخرى أكثر عمقا؟
كان هذا السؤال هو ما شغل بال كل من2 جوناثان سبيكتور وروزماري هاريسون من مؤسسة نوفارتس للبحث الحيوي الطبي ومارك فيشمان من جامعة هارفارد خلال السنوات القليلة السابقة، حيث بحث الفريق في المشكلة الأساسية التي يصاحبها جدل واسع النطاق في الوسط البحثي حاليا في مجال تطوير الأدوية الجديدة، وهي تتلخص ببساطة في السؤال القائل: "ما الذي يجب أن نُنفق عليه؟"، هل تنفق الشركات والدول نقودها في البحوث الأساسية (Basic Research) أم البحوث التطبيقية (Applied Research)؟
لفهم السؤال الأخير دعنا نتعرف إلى الفارق الجوهري بين هذين النوعين3 من البحث العلمي، فالبحوث الأساسية لا تهدف إلى اكتشاف أدوية بعينها، ولكنها تهدف بالأساس إلى توسيع نطاق معارفنا حول موضوع ما يقوم الفريق البحثي بدراسته، فمثلا يعد البحث عن تأثير الكافيين الموجود بالقهوة على الدماغ البشري، أو آخر عن العلاقة بين جودة التعليم والفضول في الأطفال، بحثا أساسيا لا يهدف إلى تحسين أداء الدماغ أو إلى علاج مشكلة بعينها في النظم التعليمية أو لتطويرها، وإنما فقط يهدف إلى زيادة فهمنا للمبادئ الأساسية للطبيعة عبر التساؤل بالصيغ الأساسية "لماذا" و"كيف؟"، بالتالي ليس المقصود من هذا النوع من الأبحاث أن تحقق فوائد تجارية فورية.
البحوث الأساسية إذن تنطلق مدفوعة فقط بالفضول البشري تجاه التعرف على الأشياء، من جهة أخرى فإن البحوث التطبيقية تنطلق فقط مدفوعة بأغراض تطبيقية، لإخراج منتج محدد أو آلية عمل أو تكنولوجيا جديدة لحل مشكلة بعينها، فمثلا يمكن لنا دراسة الكيفية التي يستذكر بها عدد ضخم من الطلاب دروسهم ومقارنتها بالنتائج الدراسية في آخر العام مع تثبيت عدد من العوامل الأخرى أو إخضاعهم لعدد من الاستقصاءات لاكتشاف أي الطرق أفضل للاستذكار، هذا هو نوع من البحث له تطبيق على الأرض وهو رفع كفاءة الاستذكار لدى الطلبة.
لكن البحوث الأساسية بطبيعتها أكثر تكلفة4 لذلك فإن نحو 80% منها تُقام فقط في الجامعات، بينما تُقام البحوث التطبيقية بالأساس في شركات الأدوية أو المراكز المختصة والتي تهدف إلى نتائج تطبيقية واضحة، كذلك فإن البحوث الأساسية لا تعطي في كل الأحوال نتائج يمكن تطبيقها على الأرض وتحقيق فائدة مباشرة للبشر، خاصة في المجالات الطبية والتي تكلف بحوثها الكثير من الوقت والمال في حين من المفترض أن يكون البحث عن دواء بعينه أكثر سهولة وأقرب إلى التطبيق، أليس كذلك؟
هنا يتدخل الفريق البحثي الثلاثي من هارفارد ومركز أبحاث نوفارتس، الذي نشر ورقته في المجلة الشهيرة "Science" قبل عدة أسابيع5، ليحاول استقصاء الأسباب التي أدت بنا إلى اكتشاف مجموعة مكونة من 28 دواء رئيسيا، تلك التي ظهرت في الفترة بين 1985 و2009، وتفرعت منها مجموعات أخرى من الأدوية، عبر دراسة تاريخ تلك الأدوية سواء بالبحث خلف المراجع التي تشمل آليات ابتكارها، أو الأوراق البحثية التي تضمنت خط سير تطورها، أو بإقامة حوار مع مبتكريها أو بعض الخبراء بتلك الأدوية، لسؤالهم عن الآليات البحثية التي اتُخذت للوصول إلى تلك الأدوية، وعن ارتباطها بآليات أساسية أو تطبيقية.
والهدف هنا هو كشف إن كانت تلك الأدوية الثمانية والعشرون قد ظهرت بسبب أبحاث تطبيقية تتعمد البحث عنها من أجل حل مشكلة بعينها أم أنها ظهرت أثرا لأبحاث أساسية لم تكن تهدف إلى الحصول على أدوية لعلاج تلك الأمراض، ولكنها -بالأساس- كانت محاولة لاستكشاف بيولوجيا وكيمياء الجسم البشري، خطوط سير هرموناته ونواقله العصبية ومستقبلاتها ودورها في الشبكة البيوكيميائية الضخمة التي نسميها "جسم الإنسان".
هنا جاءت النتائج لتقول6 إن 80% من تلك الأدوية قد كانت نتيجة غير مقصودة لأبحاث أساسية تمت قبلها بفترة نحو 30 عاما كاملة في المتوسط، فمثلا مثبطات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين، وهي أدوية لعلاج مرض الضغط، لم تكن لتُكتشف من دون اكتشافات سابقة لأبحاث أساسية في عام 1939 (دور الأنجيوتنسين في رفع ضغط الدم) و1956 (دور الإنزيم المحول للأنجيوتنسين)، ثم وصول الأدوية المعالجة للضغط والتي تعتمد على تلك الآليات في السبعينيات، ما يعني أن الأبحاث الأولى لم تكن تهدف بالأساس إلى علاج مشكلات بعينها (ضغط الدم) ولكن للتعرف على آليات عمل الجسم البشري.
بالتالي فإن تلك الدراسة الجديدة تؤكد على رأي سابق يقول إن قرارا بتوجيه تمويلات الحكومات، أو الشركات على حد سواء، لدعم أبحاث تطبيقية تحقق نتائج سريعة وإن بدا للوهلة الأولى أكثر كفاءة من وجهة نظر تجارية لكنه في المقابل يتسبب في كارثة ربما نشهد نتائجها حاليا بانخفاض معدلات الابتكار في الأدوية الجديدة، والصواب -كما يبدو وحسب رأي الدراسة- هو بناء سياسات جديدة تدفع بالبحث العلمي في هذا المجال نحو الأبحاث الأساسية، تلك التي تقول إن البحث عن المعرفة يجب أن يكون من أجل المعرفة فقط.
من جهة أخرى فإن ابتكار أدوية جديدة كنطاق بحثي يواجه في الفترة الحالية من تاريخه العديد من التحديات7 التي تتعلق بمراحل البحث عن دواء جديد، فمثلا تبدأ الأبحاث على الأدوية بأكثر من 10 آلاف مادة مرشحة لتصبح الدواء الجديد، يقوم فريق عمل مختص على مدى 7 سنوات على الأكثر بدراسة المرض وأثر كل من تلك المواد عليه، ويقوم الفريق باختصار هذا العدد إلى 250 مادة فقط يمكن أن تنتقل إلى المرحلة الثانية وتخضع للأبحاث على الخلايا أو الحيوانات، بعد ذلك يختصر هذا العدد إلى نحو 5 أدوية ممكنة فقط.
تلك الأدوية المحتملة تخضع للتجارب السريرية8 على عدة مراحل، يزيد عدد المتطوعين في كل مرحلة عن الأخرى، بحيث نقلص الخطر قدر الإمكان، بعد ذلك، وهنا تكون قد مرت 14 سنة تقريبا من البحث العلمي، نحصل على دواء واحد فقط، ثم تجمع الشركة كل بيانات المراحل السابقة وتعرضها على المنظمات المختصة بإعطاء التصاريح الجديدة (إدارة الغذاء والدواء FDA) والتي بدورها تُخضع تلك البيانات للفحص والدراسة على مدى عامين، وليست كل الأدوية تصل إلى مرحلة التصريح، بل يُقدّر أن هناك 1 من كل 5000 دواء يصل إلى تلك المرحلة.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد فقط، فبعد أن استمر النشاط البحثي المكلف على مدى 16 سنة تقريبا تأخذ الشركات الكثير من الوقت لوضع الخطط الترويجية، ثم يكون طرح الدواء في السوق على مراحل بحيث يتم دراسة أثر الدواء على البشر بعد إطلاقه في السوق، لهذا السبب تتخطى تكلفة وصول الدواء الواحد إلى نقطة التصريح الدولي حاجز الـ 2.5 مليون دولار، ما يضع بدوره الكثير من الخطورة عن احتمالات أن يحدث شيء ما ليوقف عملية البحث خلال تلك المدد الطويلة.
لهذا السبب تتوجه شركات الأدوية الكبرى إلى استثمار الجهد العلمي والمادي الخاص بها في سبيل تطوير أدوية تتعلق بأمراض مزمنة كالضغط والسكري9، تاركة جانبا المضادات الحيوية، حيث إن تلك الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة التي يستمر المريض في تعاطيها طوال عمره تقريبا يعني تأمين دخل متصاعد من خلال انتشارها، كما أن تلك الأمراض المزمنة لا تطور أي مقاومة تضطر الشركة بين الحين والآخر للمخاطرة بالاستثمار في تطويرها من جديد، أضف إلى ذلك أن المضادات الحيوية الجديدة لا تدخل غالبا في الاستخدام مباشرة، بل توضع جانبا كملجأ أخير حينما تضرب البكتيريا المقاومة المرضى.
إن تلك العمليات الطويلة والمعقدة والخطرة ماديا لاكتشاف دواء واحد تحد بدورها من مغامرات شركات الأدوية أو المراكز البحثية في الإنفاق على المزيد من البحث الأساسي أولا، وتجعل من الخطط البحثية التطبيقية هدفا أكثر سهولة، لكن رغم ذلك فإن الدلائل تقول إن البحث العلمي في المجال الطبي قد أعطى أفضل نتائجه حينما فتحنا للباحثين الباب لاتباع فضولهم والبحث عن المعرفة الأساسية وتكوين نظريات عنها قد تمكننا فيما بعد من ابتكار أدوية جديدة بمعدلات أكبر.
العلم من أجل العلم، أو دعنا نقول "الفضول"، إذن، كنشاط بحثي، ورغم أنه يبدو للوهلة الأولى شيئا فانتازيا يوتوبي النزعة، فإنه يُثبت، عبر تاريخ طويل لتطوير الأدوية الجديدة، أنه كان الأداة الأكثر فاعلية لتخطي المشكلة التي تواجه البشر حاليا في حربهم ضد المرض، لكن الأمر، كما يبدو، يحتاج أن نتكاتف، كبشر، كوحدة واحدة لمواجهة هذه الأخطار المحدقة بنا، بالتالي يجب أن تتدخل الدول والحكومات بقدر أكبر في دعم البحث العلمي الأساسي، وتسمح بتشارك المعرفة فيما بينها دون أي أغراض سياسية، في النهاية فإن مشروعنا، رغم كل هذا الخلاف الدائر، واحد، وهو بقاؤنا.