مجرات بدون مادة مظلمة.. هل سيغير الاكتشاف تاريخ الفيزياء؟
من حين لآخر تظهر في خط سير العلم إحدى الحالات الشاذة التي تعيد تنبيهنا من جديد إلى أن الطريقة التي نحاول أن نفسر بها الطبيعة من حولنا، تلك النماذج الفيزيائية النظرية التي شيّدناها، ربما، على مدى سنوات طويلة، تحتاج منّا أن نعيد النظر فيها من جديد، أن نضيف لها تعديلات جديدة، أو ربما نضعها جانبًا إن كانت غير قادرة على مواجهة كل تلك الحالات الشاذة التي لا تتمكن من تفسيرها، بعض تلك الحالات يأتي بسيطًا، والبعض الآخر يأتي أكثر قوة، هنا يقول روبرتو أبراهام، الفلكي من جامعة تورنتو، في التصريح الرسمي1 للجامعة، أن "هذه المجرة الجديدة تدفعنا إلى للبحث عن المزيد من أشباهها، من يدري؟ فربما نحن ننظر فقط إلى قمة جبل جليدي" له بقية تتخفّى تحت الماء.
وكانت الجامعة قد أعلنت قبل ساعات قليلة عبر ورقة بحثية جديدة، نُشرت بالدورية الشهيرة نيتشر (Nature)، بالتعاون مع باحثين من جامعة ييل، وعدة تلسكوبات كالتلسكوب هابل، عن كشف جديد يعد الأول من نوعه، حسب تصريحها، لمجرة جديدة يبدو أنها لا تحتوي أية كمية من المادة المظلمة، ويعد ذلك مفاجأة لأنه من المفترض أن تحتوي كل المجرات على كم من المادة المظلمة أكبر بفارق واضح من المادة العادية، حيث أن المادة المظلمة، كما هو مفترض، هي ما يسمح من الأساس بوجود المجرات، كيف تواجدت تلك المجرة إذن؟
دعنا، قبل الخوض في رحلة قصيرة للتعرف على المجرة الجديدة، نجيب على بعض الأسئلة التي لابد وأنها تجول بخاطرك الآن، ولنبدأ معًا بالمادة المظلمة، حيث تعلمنا قوانين نيوتن أن الأجرام الأكثر قربًا من مركز الدوران من المفترض أن تدور بسرعة أكبر من تلك التي تدور في الأطراف، وذلك مفهوم لأنه كلما ابتعدنا عن مركز المجرة من المفترض أن تضعف الجاذبية، لو تصورنا أن نجمًا ما في طرف مجرة يدور بسرعة كبيرة فسوف يفلت بسهولة من سيطرة جاذبية المجرة عليه، لكن حينما بدأت فيرا روبين كوبر، في الستينات من القرن الفائت، برصد بعض السحب الجزيئية العملاقة2 والتي تقع على مسافات مختلفة من مركز المجرة أندروميدا جائت النتائج مخيبة للآمال، فلقد أكدت البيانات أن سرعة تلك السحب لا تقل كلما ابتعدنا عن مركز المجرة، بل تظل ثابتة في كل مرة.
توالت، بعد ذلك، النتائج المشابهة من كل حدب وصوب لتؤكد نفس الشيء، النجوم في مجرتنا، درب التبانة مثلًا، تجري حول المركز بنفس السرعة كانت قريبة من المركز أو بعيدة عنه، ما يعني أنه من المفترض لها أن تتناثر في الفضاء ولا تتواجد أصلًا، لكن ذلك لا يحدث، وفي الحقيقة لا أحد يعرف بالضبط السبب في ذلك، لكن يعد التصور السائد حاليًا هو أن المادة المظلمة3 Dark matter هي السبب، وهي ذلك الكيان الذي يغلف المجرات ويمنع نجوم أطرافها من الهروب، أو قُل إنه يعطي أطراف المجرات من الكتلة ما يجعلها تنافس المركز فتسير نجومها بنفس البطء، لكن مهلًا، ما نراه يشع في الصور المعروفة للمجرات هو مركزها فقط وليس أطرافها، ذلك لأنه من المفترض أن تلك المادة المظلمة لا تشع أي شيء نعرفه ولا تتفاعل مع أي شيء، ونعرف تأثيرها جذبويًا فقط، بمعنى أنها تؤثر على محيطها عن طريق قوة الجاذبية الخاصة بها.
دعنا الآن نعود إلى حالة المجرة الجديدة، تلك التي سمّيت NGC1052-DF2، فقد استخدم الفريق البحثي التلسكوب "دراجون فلاي4 Dragonfly"، وهو عبارة عن 48 عدسة صغيرة مقسمة إلى مجموعتين، يحتوي كل منها على عدسات مطلية بمادة ذات طبيعة تمنع تناثر الضوء عليها، وبذلك تعتبر تلك التقنية أكثر قدرة على رصد المجرات الخافتة والبعيدة بدقة شديدة، استخدم الفريق البحثي التلسكوب (مع عدة تأكيدات تالية من تلسكوبات أخرى كـ هابل) لقياس سرعة دوران عشرة تجمعات عنقودية، وهي تجمعات كثيفة من النجوم.
وقد أظهرت النتائج أن تلك التجمعات في أطراف المجرة تدور بسرعة حوالي 35 ألف كيلومتر في الساعة، وهي بذلك أقل بثلاثة مرات تقريبًا من المتوقع في حال وجود المادة المظلمة، وبذلك، بقياس كتلة المجرة عبر سرعات دوران تلك التجمعات، تبين أنها تكافئ كتلة نجومها والسحب بين النجمية الموجودة فيها، ما أعطى المادة المظلمة فرصة للتواجد فقط بقيمة 1\400 من كتلة المجرة، وكان من المفترض أن تمثل تلك الكتلة الخاصة بالمادة المظلمة كثر من ذلك، نحن إذن، كما يبدو، أمام مجرة لا تحتوي على مادة مظلمة، أو تحتوي على كم صغير جدًا منها، لكن.. كيف حدث ذلك؟
لا نعرف بعد، لكن طبيعة المجرة الجديدة5 غريبة أيضًا، فمثلًا هي بحجم درب التبانة تقريبًا، رغم ذلك تحتوي فقط، على 1\200 من كم المادة الموجود في درب التبانة، كذلك لا تحتوي على مركز أكثر كثافة، أو أذرع، أو ثقب أسود فائق الكتلة في مركزها، وهي، كما تراها في الصورة، تظهر غاية في الشفافية لدرجة أنك يمكن ببساطة أن ترى ما يقع في خلفيتها من المجرات الأخرى، كان ذلك بالأساس هو سبب بناء التلسكوب دراجون فلاي، لرصد والتقاط هذا النوع الخاص من المجرات، لكننا نعرف أن مجرات أخرى من نفس النوع كـ NGC1052-DF2 احتوت بالفعل على كميات تتخطى الـ 90% من المادة المظلمة.
يتصور الفريق البحثي أن سبب ذلك الشكل الغريب للمجرة هو مجرة بيضاوية ضخمة مجاورة تؤثر جذبويًا على تلك المجموعة هي ما شوه NGC1052-DF2 بهذا الشكل، لكن في النهاية فإن المجرة الجديدة لا تطرح فقط، ربما، تحديًا لفرضية المادة المظلمة، ولكنها تقترح أن هناك آلية أخرى، غير المادة المظلمة، تبني المجرات وتحافظ عليها، ما يعني أن تصوراتنا عن حالة يلتصق فيها المادة بالمادة المظلمة دائمًا كانت خاطئة، قد توجد المادة بشكل منفصل.. لكن، ما الذي نعرفه عن المادة المظلمة إلى الآن؟
هنا يجب أن نعود إلى أينشتين، حيث تتوقع النسبية العامة أن شعاع الضوء سوف ينحني بتأثير وجود المادة، كنجم أو مجرة مثلا، في الفضاء. هذا هو بالضبط ما تم تأكيده على يد الفيزيائي البريطاني "آرثر أيدنجتون" سنة 1919 حينما التقط صورا لمجموعة من النجوم في خلفية الشمس أثناء كسوف شمسي، وفي أثناء عدم وجود الشمس بعدها بعدة أشهر، ليرصد إدينجتون تغير في موضع تلك النجوم بسبب تأثير جاذبية الشمس على أشعة الضوء الصادرة من تلك النجوم ناحيتنا، كانت تلك التجربة هي سر شهرة "ألبرت أينشتين" الواسعة فيما بعد.
جميل جدًا، الآن لنحاول فهم تلك الفكرة، تؤثر النجوم على الضوء بالضبط كما تفعل العدسات، فهي تحنيه وتغير مساره، وما نعرفه هو أن ذلك يتناسب مع كتلة الجرم السماوي، كان ذلك الجرم نجمًا، وهنا نتحدث عن تأثير ضعيف، أو مجرة، أو مجموعة من المجرات، هنا تؤثر كل تلك الكتلة المهولة الخاصة بالمجرات على أشعة الضوء القادمة من خلفها، فتحنيها وتفعل ما تفعله العدسات بالضبط، تشوه الصورة، لذلك تسمى تلك الظاهرة بـ "عدسة الجاذبية6 Gravitational Lensing".
الآن دعنا نتأمل الصورة المرفقة، هل ترى ذلك التشوه الدائري في الحواف؟ ذلك هو تأثير جاذبية التجمع الموجود في المنتصف على الضوء القادم مما هو موجود بالخلفية من مجرات، ما يتسبب في أن تظهر الصورة بتلك الحالة، لكن ما يثير الانتباه هنا هو أن لدينا من الأدوات الرياضية ما يمكننا من حساب تأثير الكتلة على التشوه، وهو ما نجد دائمًا أنه يختلف عن المتوقع 7
هناك إذن شيء إضافي يتسبب في هذا التشوه الإضافي، شيء اكتشفنا فيما بعد أنه يمثل 25% من كتلة الكون، بينما يمثل ما نسميه الطاقة المظلمة 70% من الكون، وفقط يُترك 5% تقريبًا للمادة التي نراها ونتمكن من رصدها والتعامل معها، نحن بالفعل، عبر كل هذا العلم، وتاريخ بحثنا خلف الظواهر الفلكية الممتد عبر تاريخنا بداية من الإنسان الأول، مرورًا بجاليليو، قبل أربعمائة سنة، وصولًا إلى أينشتين، لا نعرف إلا 5% فقط من تركيبه كوننا.
دعنا نتأمل مثلا "عنقود الطلقة8 Bullet Cluster "، وهو عبارة عن تجمعين مجريين يخترق أحدهما الآخر بسرعة، حينما نحاول قياس كتلة المادة العادية هذا التجمع، ثم مقارنته بالكتلة المفترضة من تأثيره الجذبوي، فإن هناك فارق واضح يظهر بين الكتلتين، ما يعني أن هناك شيء ما له تأثير جذبوي مهول على المحيط، هذا التأثير لا يمكن أن يكون للمجرات نفسها، وهذا هو أحد أشهر وأهم الدلائل المعروفة على وجود المادة المظلمة.
لكن، رغم ذلك، فإن نموذج المادة المظلمة ليس الوحيد الذي يفسر تلك المشكلات، وان كان أكثرها شهرة وتماسكًا، يتصور البعض أن هناك مشكلة ما ذات علاقة بالنظرية النسبية العامة أو أن قوانين نيوتن ربما لا تعمل بالشكل الذي نعرفه على النطاقات الضخمة كالمجرات، يحتاج هذا النطاق البحثي للكثير من العمل إذن في الفترة القادمة، ربما قد يفيد خلالها تطور قدراتنا على رصد الظواهر الفلكية جذبويًا عبر ما تقدمه التلسكوبات مثل لايجو9 LIGO.
حيث عودتنا التلسكوبات الكلاسيكية بكافة أنواعها أننا لا يمكن أن نرصد إلا فقط الأجرام التي تشع، كانت نجمًا، كوكبًا، سديم، أو مجرة، يجب أن يشع الجسم في أي نطاق من الطيف الكهرومغناطيسي (الضوء، الأشعة السينية، تحت الحمراء أو فوق البنفسجية مثلًا) حتى نستطيع الإمساك به، إذا كان الجرم الذي نرصده لا يشع أي شيء لن نتمكن أبدًا من رصده، هنا يأتي لايجو لينتهج آلية جديدة، فهو لا يرصد إشعاع الجرم السماوي، وإنما يرصد أثره الجذبوي على الزمكان رباعي البعد، هنا تظهر المادة المظلمة كهدف لهذا النطاق الجديد.
في النهاية، فإن متعة العلم، وسر قوته ربما، هي قدرته على التجاوب مع تلك الحالات الشاذة التي تظهر من حين لآخر، ربما قد نجد حلًا قريبًا لمشكلة10 NGC1052-DF2، وربما لا، لا يزال الأمر في حاجة للكثير من الفحص واعادة التجريب والدراسات المتتالية المملة، لكن ما أقصده هنا هو أن حالات كتلك، وان كان يتم تجاهلها في البداية، إلا أنها تلفت الأنظار في لحظة ما، ويبدأ العلماء في تغيير برامج أبحاثهم، وبالتالي نظرياتهم، بسببها، بذلك تكون تلك الحالات دائمًا هي إشارات المرور في تاريخ العلم، وهي ما وجه النظريات من مكان لآخر، وما أخرج لنا كل هذا النطاق الممتع والثري من المعارف، وذلك هو شيء يدعو للتأمل.