شعار قسم ميدان

يوم واحد في جسد ستيفن هوكينغ

midan - stephen Hawking

"حينما تنخفض توقعاتك للصفر، فإنك ستقدّر حقًا كل شيء تمتلكه"

( هوكينغ )

 

على المنضدة المجاورة لكرسيه المتحرك، ستجد ما يشبه السَبَت الصغير المملوء لآخره بالأدوية، هناك أسبتة كثيرة موزعة كذلك في أجزاء أخرى من المنزل، ذلك الذي يشبه المستشفى إلى حد ما، فبجانب أجهزة التنفس الخاصة، والأماكن المعدة بعناية لحركة هوكينج، ستجد كذلك أسطوانات الأكسجين، ممرضتين، والكثير من المناشف في كل مكان، هنا – وفي حالة كتلك – يكون أمر بسيط، كأن تأخذ رشفة ماء مهمة صعبة، تعتمد على الآخرين فيها، ولا تشربها كاملة، بل تسكب نصفها أرضًا وتحتاج أن يمسح أحدهم لك البقية عن فمك الذي لا تتمكن من التحكم به!

   

لذلك سوف تجد أن ستيفن هوكينغ لا يخجل من الإشارة إلى أنه شخص لا يتمكن من الاعتماد على نفسه1، وللوهلة الأولى قد يبدو مُحبطًا أن نبدأ تقريرًا عنه بهذا الشكل، لكن المشكلة الأساسية التي نواجهها حينما نشاهد أفلامًا تتحدث عن حياته، كفيلم "نظرية كل شيء Theory Of Every Thing" مثلا، هو أنها، على الرغم مما تقدمه من مشاهد تعبر عن حقيقة مرض هوكينغ، فإنها لا تتمكن من الخوض بشكل أعمق في التحديات التي واجهها، بل تحاول في النهاية أن ترسم صورة للبطل العبقري الذي مكنته عبقريته من أن يتخطى كل شيء، لكن هل كان هوكينغ عبقريًا؟

   

في الجزء العلمي، يمكن القول إن هوكينغ قد حقق عدة إنجازات عظيمة في تاريخ الفيزياء، لكننا تحدثنا بشكل مفصل عنها في تقرير سابق بعنوان "ما الذي قدمه ستيفن هوكينغ للعلم؟"2. أما عن العبقرية، فإن هوكينغ نفسه يسخر من تلك الفكرة، فحينما سُئل ذات مرة عن قيمة اختبار الذكاء الخاص به قال3 "لا أعرف، هؤلاء الذين يتفاخرون بقيم الذكاء الخاصة بهم فاشلون"، بالطبع لا نعرف إن كان هوكينغ قد اختبر نفسه أم لا، لكن الفكرة هي أن هوكينغ لم يكن له أن يبرر الإنجاز بالذكاء فقط، بل كانت له فلسفة مختلفة في التعامل مع الأمور، لكن دعنا، قبل الذهاب إلى تلك المنطقة، أن نبدأ بالنقطة التي يبدأ منها الجميع، كان ذلك حينما وقع هوكينغ في الحب.

   

يقول هوكينغ أن
يقول هوكينغ أن "الوقوع في الحب، والزواج بعدها، كان هو التحفيز الذي احتجته لاستعادة الثقة بنفسي"
     

هوكينغ ضد هوكينغ

في أوائل ستينات القرن الفائت، ازدادت درجات تلعثم هوكينغ أثناء حديثه مع الآخرين بوضوح، واضطربت حركته فأصبح كثيرًا ما يقع أثناء المشي وعلى درجات المنزل في كامبريدج حينما كان طالب دكتوراة، ثم بعد أن عاد للعائلة في أعياد رأس السنة أصر أبويه أن يخضع لتشخيص طبي دقيق، هنا تم تشخيصه بمرض التصلب الضموري الجانبي4، ونصل إلى اللحظة التي يعرفها غالبيتنا، حينما أعطاه الأطباء مدة قصيرة لكي يعيش قبل أن تتوقف عضلات جسمه ويموت، سنتان إلى ثلاثة سنوات فقط، وكان في الواحدة والعشرين من العمر.

  

undefined

   

كانت أول معارك هوكينغ هنا هي، بوضوح، الإحباط، تأمل معي هذا الوضع قليلًا وضع نفسك مكانه، فكل شيء في تلك اللحظة الفاصلة من تاريخك ينهار كبيت مصنوع من ورق، إنجازك وتطلعاتك الأكاديمية والاجتماعية، حياتك مع من تحب، أحلامك بمستقبل مشرق، هنا يقول هوكينغ5 "قلت لنفسي سوف أموت قبل أن أنتهي من الدكتوراة الخاصة بي، لذلك لا حاجة للاستمرار بها، سوف أستمع إلى فاجنر بدلًا من ذلك"، تطور الاكتئاب سريعًا بداخله، وربما في مرحلة ما فقد اهتمامه بالحياة ذاتها، لكن هنا، تدخلت جين وايلد.

    

التقى بها هوكينغ قبل فترة قليلة من تشخيصه بالمرض، هنا يقول هوكينغ أن "الوقوع في الحب6، والزواج بعدها، كان هو التحفيز الذي احتجته لاستعادة الثقة بنفسي" مستكملًا بعد قليل "ثم عدت من جديد، بل أصبحت أحب الفيزياء أكثر وتعجبت من ذلك"، وبينما تقول جين ضاحكة عن زواجهما أنهما قضيا شهر العسل في كورنيل "حيث كان لديه مؤتمر فيزياء هناك، حينها علمت أنني لست زوجته الوحيدة، الفيزياء كانت طرفًا ثالثًا في زواجنا" قد تبدو تلك، للوهلة الأولى، حكاية حب لا نراها إلا في الأفلام، قد تبدو كذلك لأننا لا نتفهم الكثير عما يعنيه أن تكون وحيدا مع مشكلة.

  

ستيفن هوكينغ مع زوجته جين كوكينغ (مواقع التواصل الإجتماعي)
ستيفن هوكينغ مع زوجته جين كوكينغ (مواقع التواصل الإجتماعي)

 

رجل بنكهة حاسوب

فمثلًا، في كتابه "لماذا يموت الناس بالانتحار؟"7 يقول توماس جوينر، متخصص علم النفس الإكلينيكي من جامعة فلوريدا، أنه قبل اتخاذ شخص ما قرارًا بالانتحار، وهو أمر غاية في التعقيد ذا علاقة بما سمّاه "القدرة المكتسبة على مقاومة الخوف من الموت"، يصل الواحد منّا إلى استنتاجين أساسيين بعد طول اكتئابه، الأول هو أنه "وحيد"، منعزل بالكامل عن العالم من حوله ولا ينتمي إليه، والثاني هو أن ينظر الشخص إلى نفسه على أنه "عبء" على الآخرين من حوله، حيث يكوّن فكرة تقول: "موتي أفضل من حياتي بالنسبة لهم"، والتي غالبا ما تندمج مع رسالة أخرى متكررة لذاته يقول فيها: "أنا أكره نفسي"، فيقلل كثيرا من تقديره لذاته ويشعر بالعار واللوم الدائم لنفسه.

   

إن تلك الرسائل للذات يمكن مقاومتها بالآخرين، وكان هوكينغ محظوظًا ربما بوجود عائلة تحبه، وامرأة وقفت إلى جانبه وتزوجته رغم أنها تعلم أن أمامه عامين ليعيشهما، لكن هوكينغ لم يعش عامين فقط، بل تباطأ تقدم المرض وامتد به العمر حتى وصلنا للمرحلة التي يفقد فيها هوكينغ قدرته على الحديث في الثمانينات، حينما كان في زيارة لسيرن CERN، وتعرض لالتهاب رئوي حاد، وكان الحل في ثقب القصبة الهوائية، ما ترتب عليه أننا لن نسمع صوته للأبد.

    

في تلك المرحلة أنت تعرف بالفعل ما حدث، قدم حدهم، يدعى والتر وولتوس من شركة "ووردز بلاس"، لهوكينغ برنامجًا كان قد طوره ليستخدمه مع زوجة والده التي عانت من نفس المرض لكي تتمكن من التواصل، وهو ما نعرفه الآن – بعد تطويره8 على مدى سنوات عدة – على أنه صوت هوكينغ الإلكتروني، لكن ما لا نتمكن بوضوح من ادراكه هو ما حدث بعد ذلك، خاصة مع تطور سوء حالة هوكينغ، فبعد أن توقفت حركات يديه عن العمل، كانت الأمور أكثر صعوبة.

     

undefined

   

تخيل ذلك قليلًا، في الحالة العادية يمكن لك أن تكتب كلمة كل ثانية أو اثنتان، تجري أصابعنا على الهاتف الذكي أو لوحة المفاتيح حينما نتفاعل على وسائل التواصل كما يجري يوسيان بولت في سباق المائة متر حرة، لكن هوكينغ هو وضع مختلف، فكل ما يمتلكه هو عضلات وجهه والتي يحركها كما لو كانت فأرة الحاسب، تلتقط تلك التحركات كاميرا مخصوصة لتجول بين الحروف والكلمات المتوقعة، ثم تنكتب الكلمة ويبدأ هوكينغ في التي تليها.

    

لكن الأمر ليس بتلك السهولة، فتلك الأجهزة، رغم تحديثاتها المتتالية، لا تتمكن بدقة شديدة من التقاط هوكينغ الذي – بدوره – كانت حالته تسوء يومًا بعد يوم، في الدقيقة الواحدة يمكن للشخص أن يكتب حتّى مائة كلمة على لوحة مفاتيح، لكن بالنسبة لهوكينغ فهناك حوالي نصف، أو ثلاثة أرباع، كلمة كل دقيقة، هوكينغ9 يكتب في ساعة، أو أكثر، ما قد تكتبه أنت في دقيقة، في تلك النقطة من حديثنا معًا سوف تسأل حتمًا: ولماذا يصبر الرجل على كل ذلك؟ وكيف يمكن له أن يستمر في ظل تلك الانتكاسات المستمرة.

   

أينما كانت هناك حياة

هنا يمكن أن نقتبس بعض العبارات من هوكينغ نفسه، خاصة حينما قال ذات مرة  أنها10 "مضيعة للوقت أن أغضب من إعاقتي. على المرء أن يستمر في الحياة، وهذا شيء لم أفعله بشكل سيئ. لن يكون لدى الناس الوقت لك إذا كنت غاضبًا دائمًا أو تشكو"، أو حينما أضاف أن "ما أفعله هو الاستمرار في التفكير في المشكلة ولكن مع العمل على شيء آخر. أحيانا تمر سنوات قبل أن أرى طريقًا. في حالة فقدان المعلومات والثقوب السوداء، اتّخذ الأمر 29 سنة".

    

   

هل ترى ذلك النمط؟ كانت آلية هوكينغ للنجاة بسيطة وواضحة، حيث تقبل الوضع القائم، سريعًا، على أنه قائم ومستمر، أي لم يحاول الانحناء حتى تمر الرياح، أو يرتكن لكل الحزن والتذمر والغضب الممكن على أثر تلك الضربات المتتالية، بل طوّر قدرة عالية على "عدم الاهتمام" إلا لشيء واحد فقط، وهو أن يستكمل حياته، يعمل على بذل كل جهد ممكن للعمل، للاستمرار في البحث، لإتمام المهام المخطط لها قدر إمكانه، بحيث تكون الحياة بأسرها هي حلول للمشكلات.

    

في الحقيقة نجد هذا النمط واضحًا في حياة الكثير من المشاهير الذين لاقوا في حياتهم تحديات صعبة، فـ ماري كوري مثلًا حوّلت كل شيء في حياتها ليكون أشبه بقضايا علمية تستحق الدراسة، وعاشت نمط حياة يدفعها دائمًا للتفكير في حل قبل أن تبدأ، حتّى، في هضم المواقف، نمط يملي عليها أن تستمر لأنه لا يوجد أمامنا غير ذلك، لذلك تقول ماري11: "الحياة ليست سهلة على أي واحد منا. ولكن ماذا سنفعل؟ يجب أن يكون لدينا المثابرة وقبل كل شيء الثقة في أنفسنا. ويجب أن نؤمن بأننا موهوبون بشيء ما، وأن هذا الشيء، مهما كان الثمن، يجب أن يتحقق".

   

لهذا السبب لن نتعجب حينما تقول12 جين وايلد أنه، في بعض الأحيان، كانت حالة زوجها كلما ازدادت صعوبة ازداد هوكينغ ذكاءًا واصرارًا، هذا رجل نام كل ليلة على سريرة، خلال السنوات الخمسين السابقة، وهو يظن أنها الليلة الأخيرة، لا يمكن أن نتخيل كيف عاش شخص هكذا، لكننا نعرف أنه طوّر فلسفة خاصة به، فلسفة تقدّر حياتنا كبشر، ليقول في النهاية أنه "على الرغم من الصعوبة13 التي تبدو عليها الحياة للبعض، فهناك دائمًا شيء يمكن أن تفعله وتنجح به" ثم يضيف: "أينما كانت هناك حياة، كان هناك أمل"