القصة خلف الثور الذي نشاهده في نجوم السماء
ليس هناك ما هو أجمل من سماء الليل في الشتاء، فبجانب الطقس البارد المحبب للقلب، والهدوء الذي يعم الأجواء مبكرا مع ليلات طويلة، تحوي سماء الشتاء ألمع نجوم السماء كلها، ولا علاقة لذلك بالطقس البارد، لكن فقط يتصادف أن نرى في الشتاء أقرب النجوم إلينا والموجودة في ذراعنا المحلّي1 من درب التبانة "مهمز الجبار"، أو ذراع برشاوس، فمثلا نجم "الشعرى اليمانية" هو ألمع نجوم السماء، ويتواجد على مسافة ثماني سنوات ضوئية فقط، قارن ذلك بنجم صيفي مثلا كـ "السماك الأعزل" والذي يبتعد عنّا أكثر من مائتي سنة ضوئية.
أحد ألمع تلك النجوم الشتوية هو الدبران (Aldebaran)، وتعني الكلمة أنه "يدبرها"، أي يجري وراءها، وتقول الحكاية العربية إنه كان شابا فقيرا وقع في حب فتاة، نسمّيها الثريا (Pleiades)، كانت تود الزواج من شاب غني، أوصى الدبران القمر، الذي يمر بينهما مرة كل شهر بأن يخبرها بحبه وبطلبه الزواج منها، لكنها في كل مرة كانت ترفض، وحتّى حينما جمع الدبران جماله ومعيزه، تسمّى في السماء بالقلائص (Hyades)، كي توافق الثريا لكنها رفضت، ورفعا معا للسماء فتظل الثريا تجري (تشرق من الشرق) فيجري خلفها الدبران (يشرق بعدها بقليل) إلى الأبد، وتغرب فيغرب، وقالت العرب في تلك الحكاية "أغدر من الثريا وأوفى من الدبران".
نعم، في الحقيقة، لكن سوف نتطرق إلى ذلك بعد قليل، دعنا في البداية نتعرّف إلى موضع الدبران، ألمع نجوم كوكبة الثور (Taurus)، في السماء، كل ما تحتاجه، بعينيك المجردتين فقط، هو الخروج بعد غروب الشمس الشتوية بحوالي الساعة إلى السماء والبحث عن ثلاثة نجوم تتراص فوق بعضها بدقة كما يظهر في الخريطة المرفقة، تلك هي ما نسميه بـ حزام الجبار(Orion Belt)، الآن يمكن لك أن تمد سهما منها إلى اليمين كي تلتقي في النهاية بنجم أحمر لامع، هذا هو لدبران.
استغل الفرصة للتعرف على بقية نجوم كوكبة الثور، بما في ذلك أبطال حكايتنا السابقة، الثريا والقلائص، كما بالخريطة المرفقة، والتي سوف تجد تراص النجوم بها مشابها تماما لما يمكن أن تراه في السماء، ويمكنك للتسهيل أن تستخدم أحد تطبيقات الهواتف الذكية مثل (Google Sky Map)، أو أحد البرامج الحاسوبية الهامة كـ (Stellarium3)، والذي يعتمد عليه كاتب التقرير بشكل دوري للتعرف على أجرام السماء من النجوم والتجمعات والمجرت والسدم أيضا.
البعض يرى خمسة، والآخر يرى ستة، وهو المتوسط، الأكثر حدة يرى سبعة نجوم واضحة، وهناك من ادعى أنه رى تسعة نجوم من الثريا، وتلك حالة أظن أنها خارقة، في الحقيقة تتكون الثريا من حوالي ثلاثة آلاف نجم لكن ألمعها هي الأخوات السبع (ستيروبي، ميروبي، أيلكترا، مايا، تايجيتا، كيلاينو، ألكيوني)، مع أبوهم وأمهم (أطلس وبليوني)، لن نحتاج للمزيد من الخوض في الثريا فقد فردنا لها ولنجومها وسدمها تقريرا منفصلا من قبل بعنوان4 "الثريا: نجوم مقدسة تكشف تاريخ الشمس".
الآن دعنا نتحوّل مرة أخرى للدبران، يقف الدبران على رأس مجموعة نجوم تتخذ شكل مثلث، طرفه الآخر إلى يمين الدبران مباشرة هو النجم (أوبسيلون أو نجم العين Epsilon Tauri) من الكوكبة، ويمثلا معا وجه الثور كما رآه القدماء، وعيناه هما الدبران والعين، أما قرناه فهما النجمان (زيتا) والنطح (Alnath) بالأعلى، النطح ليس تحديدا من كوكبة الثور لكنه نقطة اتصال بينها وبين كوكبة ممسك الأعنة Auriga بالأعلى، والمثلث الذي نتحدث عنه يمثل القلائص(5 Hyades) وهو الآخر تجمع نجمي مفتوح رائع يمكن أن تراه بعينيك، وكلاهما -الثريا والقلائص- ألمع التجمعات المفتوحة في السماء، ما دونهما يمكن أن يُرى فقط بنظارة معظمة أو تلسكوب.
تصنع ألمع نجوم التجمع حرف (V) الشهير والذي كما قلنا يصنع وجه الثور وينتهي بعينيه، لكن الدبران ليس جزءا من هذا التجمع، الذي يبتعد عنّا حوالي 153 سنة ضوئية، بينما يبتعد الدبران عنّا 65 سنة ضوئية فقط، لكنهما يقعان بنفس الإتجاه بالنسبة للناظر من على الأرض، التجمع يحتوي على ما مقداره 800 – 1600 كتلة شمسية من النجوم، بمتوسط 2.3 كتلة شمسية للنجم الواحد، ما يجعلها تتحول سريعا إلى نجوم عملاقة لا تلبث أن تنهي حياتها خلال 50 مليون سنة فقط، إنها مدة قصيرة للغاية على ما تبدو من ضخامة بالنسبة لمقاييسنا اليومية على الأرض، عمر الشمس مثلا هو أكبر منها 90 مرة!
النجم "تي" هو فئة خاصة من النجوم المتغيرة والتي سمّيت باسمه(7 T Tauri Stars) لأنه كان أول فرد فيها، وهي نجوم متغيرة صغيرة في السن (عمرها أقل من 10 ملايين سنة فقط)، مع كتلة في المتوسط أصغر من ثلاث كتل شمسية، هذه المجموعة من النجوم لم تبدأ بعد بحرق الهيدروجين الخاص بها، لكنها تعتمد على قزة ضغط الجاذبية الكافية للإشعاع، إنها نجوم طفلة أوّلية (Protostar) تحتاج لحوالي 100 مليون سنة إضافية كي تدخل في نجوم النسق الرئيسي الحارقة لهيدروجينها، ولذلك فإن نصف هذا النوع من النجوم، تقريبا يحتوي على قرص دوّار يحيط به من الغاز والغبار.
دراسة تي الثوريات تفيد كثيرا في فهم المنظومات النجمية صغيرة السن، وكذلك فهي، بجانب تغيّرها، نجوم نشطة تطلق رياحا نجمية عاتية ونفّاثات يعتقد أن سببها هو سقوط المادة من القرص الدوّار المحيط بها إليها، أما عن تغير8 تلك النجوم فيعتقد العلماء أن له سببين، الأول هو سقوط المادة الخاصة بالقرص الدوار بها، ويحث ذلك على فترات غير منتظمة قد تمتد من يوم واحد إلى آلاف الأعوام، أما التغير المنتظم فقد يكون سببه بقع شمسية ضخمة جدا على سطحها ما يقلل من ضوئها بالنسبة لنا في حال واجهتنا تلك البقع.
في الحقيقة لا حاجة لنا في البحث كثيرا خلف سديم السرطان، فقد خصصنا له جزء كبير من تقرير سابق بعنوان9 "خمس زهور سماوية .. رحلة ممتعة في ثنايا السدم والنجوم" يوضح مجموعة من أهم خصائصه بجانب كيفية تحديد موضعه بالسماء ورصده بالتلسكوب الخاص بك، ويعد سديم السرطان، بجانب عدة تجمعات نجمية مفتوحة وهي (NGC 1746، NGC 1647، NGC 1807، NGC 1817)، هم فقط مجموعة الأجرام العميقة الممكنة لحدود تلسكوب صغير أو متوسط، بحدود قدر ظاهري قيمته 7.7 للتجمع الآخير.
أما عن المجرات التي يمكن اصطيادها في الكوكبة، تجدها في مصدر بالأسفل10، فجميعها يقع في حدود التلسكوبات الكبيرة، ربما حتى قطر 25 بوصة (125 سم)، لكن أحد الروائع اللافتة للنظر منها هما الثنائي11 NGC 1409 وNGC 1410، وهما مجرتان قريبتان من بعضهما البعض على مسافة 20 ألف سنة ضوئية فقط (أندروميدا جارتنا مثلا تقع على مسافة 2.5 مليون سنة ضوئية)، وما يميز هذا الثنائي هو، كما ترى بصورة التلسكوب هابل، ما يشبه أنبوبا مجريا ضخما بطول المجرتين يمتد لينقل المادة بينهما، ويلتف حول (NGC 1409) باليمين.
حسنا، انتهت رحلتنا مع الثور السماوي الأكبر، يمكن لك أن تبدأ بتتبع نجومه مع عينين مجردتين، ثم مع نظارة معظمة لتتضح كافة نجوم الكوكبة، ثم مع تلسكوب صغير إن أحببت، ربما هنا سوف تحتاج لأطلس مبسط، أرشح لك أطلس(12 Taki) للقدر 6.5، ولمستوى أعلى قليلا أرشح لك Sky Atlas 2000، أو (Deep Sky Hunter) لمستوى متقدم. في كل الأحوال، يمكن القول إن قضاء ليلة شتوية كاملة مع تلسكوب أو حتى نظارة معظمة وبعض الشاي الساخن فوق سطوح المنزل، وتأمل روائع السماء هو لا شك رحلة سماوية ممتعة، تبعث البهجة في النفس بعد إرهاق يوم عمل طويل.