هكذا ألهمت ثورة الرياضيات الإبداعية المثل الأساسية للعدالة والديمقراطية
16/10/2018
قالت الكاتبة والمفكرة الفرنسية، سيمون دي بوفوار "يجب التأكيد على فرحة الوجود في كل واحد منا، وفي كل لحظة"، في مقالتها التي تحولت إلى أطروحة حول الكيفية التي أصبحت من خلالها السعادة التي ترجوها الحرية بمثابة التزام أخلاقي يشملنا جميعًا. وبعد عقد ونصف من الزمن، تناولت عالمة الرياضيات والكاتبة ليليان آر. ليبر (ولدت في 26 من شهر يوليو/ تموز عام 1886 – وتوفيت في 11 من شهر يوليو/ تموز عام 1986) بدراسة هذا الموضوع من زاوية مختلفة ولكن متشابهة في الميول والأفكار.
كان عالم الفيزياء الألماني، ألبرت أينشتاين من أشد المعجبين المخلصين للكتب المفاهيمية غير العادية لليبر، تلك الكتب التي تناقش مفاهيم الرياضيات العميقة بطريقة مرحة، تُقرب بين العلم والفلسفة، ومؤلفة بأسلوب فريد تمامًا. ومثلما كان أينشتاين نفسه، نما شغف ليبر في التركيز على إبراز التقاطعات القائمة بين العلم والإنسانية. فقد استندت في كتابتها إلى المفاهيم الرياضية لاستحداث تحوّل فاصل جوهري في المنظور المتعلق بالفرضيات التي من شأنها أن تبقي حياتنا صغيرة وعالمنا غير منصف، مثلها في ذلك مثل كاتب الخيال العلمي ادوين أبوت الذي استطاع من خلال روايته الكلاسيكية "الأرض المسطحة: قصة رومانسية متعددة الأبعاد Flatland: A Romance of Many Dimensions" استكشاف عالم الأبعاد ولهذا السبب، لا زالت الرواية تحظى بشعبية بين دارسي الرياضيات والفيزياء وعلوم الحاسب. ومثلها كذلك مثل دكتور سوس، فقد استمدت من الأبيات البسيطة وعلامات الترقيم المُثيرة التي امتاز بها أسلوب كتابتها، الحكمة الجادة الهادئة، والمتعمقة حول التساؤلات الأكثر إلحاحًا المتعلقة بالوجود.
إعلان
وأكدت على أن فواصل الأسطر المُتعمدة والتصميم الأنيق لم يكونا مجرد درب مماثل للشعر الحر، ولكنها عملية مقصودة تهدف إلى تيسير القراءة السريعة والفهم الأسهل للأفكار المعقدة. لكن إصرار ليبر العنيد على أن عملها، الذي ليس له مثيل، ليس شعرًا لا ينبغي أن يُقبل على أنه حقيقة مسلَّم بها، كما كان الحال مع الفيلسوفة الألمانية الأصل حنة آرندت التي طالما أصرت بعناد على أن رؤيتها الفلسفية المُتبصرة، والمؤثرة المتعلقة بالسياسة لم تكن دربًا من الفلسفة، على أساس أن الفلسفة تتعاطى مع "الإنسان في صيغة المفرد." وبدلًا من ذلك وصفت نفسها بالمنظِّرة السياسية؛ لأن عملها يركز على كون "البشر-لا الإنسان الفرد- يعيشون على الأرض ويسكنون العالم.
خلال المائة عام التي عاشتها، ألّفت ليبر سبعة عشر كتابًا، يُمكن وصفها بأنها كانت كُتبًا غريبة وعميقة، موضحةً برسومات حبر جميلة رسمها زوجها، الفنان هيو ليبر. وكان من بينها الكتاب الرائع بعنوان "القيم الإنسانية والعلوم، والفنون والرياضيات"، الذي تناول بالتحقيق الأفكار المتعلقة بالإمكانيات والقدرات المحدودة والتي لا حدود لها للعقل البشري، بدءًا من تاريخ أعظم ثورة في علم الهندسة وانتهاءً بالأفكار الأساسية والمثل العليا للديمقراطية الخصبة الفاعلة.
وضحت ليبر الخلفية الفكرية للكتاب، قائلةً:
يُعبر هذا الكتاب بحق عن الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة، وذلك باستخدام أفكار من علم الرياضيات لجعل هذه المفاهيم أقل غموضًا. سنرى أولًا ما هو المقصود من مصطلح "التفكير" في علم الرياضيات، والضوء الذي يلقيه على كل من إمكانات وحدود العقل البشري. وسنرى بعد ذلك التأثير الذي يمكن أن يُحدثه ذلك على "التفكير" بشكلٍ عام، على سبيل المثال، في الأمور التي تتعلق بالحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة! إذ ينبغي علينا أن نعترف بأن "تفكيرنا" في مثل هذه الأمور، دون هذه المساعدة، غالبًا ما يؤدي إلى الكثير من الارتباك، مثل الخلط بين مفاهيم الإجازة والحرية، والذي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى جنوح الشباب، والخلط بين السعادة وامتلاك المال، الذي يؤدي غالبًا إلى جنوح الكبار، وكذلك الخلط بين مفهوم "الحياة" ذاتها باعتبارها كفاحًا دنيئًا لمجرد البقاء على قيد الحياة!
إعلان
تُجادل ليبر بأن هناك في تاريخ الرياضيات، ما يرمز لما نحن قادرون عليه كبشر وكيف يُمكننا استخدام تلك القدرات في الارتقاء إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه. في الفصل الأول من الكتاب، بعنوان "الحرية والمسؤولية"، تسرد الثورة في فهمنا للطبيعة والواقع الذي أشعله ظهور الهندسة غير الإقليدية التي تُعبر عن الهندسة الإهليجية وهندسة القطوع الزائدة – ذلك الحدث الهام الذي تطلق عليه ليبر "أعظم اكتشاف في عام 1826". وتكتب: وقعت واحدة من الأشياء المُدهشة في تاريخ الرياضيات في بداية القرن التاسع عشر. ونتيجة لذلك، فُتحت أبواب الاكتشافات على مصراعيها، ولا يزال تدفق المساهمات الإبداعية الخلاقة في ازدياد! وعلاوة على ذلك، تعزو هذه الظاهرة المدهشة إلى أكثر من مجرد تغيير في السلوك! ربما لا ينبغي أن أقول "مجرد"، لأن ذلك التأثير كان هائلًا للغاية -وهو ما يُظهر أن التغير في السلوك، يُمكن أن يكون أمرًا بالغ الأهمية، وقد يكون من المستحسن أن نتحقق من سلوكياتنا ومواقفنا تجاه العديد من الأشياء، والأشخاص- قد يكون هذا الأمر الأكثر نفعًا، كما ثبت ذلك في الرياضيات.
تُبين ليبر أنه من أجل الفهم الكامل للتغير الثوري الحادث في السلوك الراهن، ينبغي علينا أن نفهم أولًا السلوك القديم -النظرة العالمية السابقة- الذي اقتلعته الثورة. ولكي نقدم "لأعظم اكتشاف في عام 1826" ما يستحقه من التقدير، ينبغي علينا أن نرجع بالزمان إلى عالم الرياضيات، إقليدس: جمع إقليدس أولًا الحقائق المختلفة المعروفة في علم الهندسة، ووضعها في نظام، بدلًا من تركها كأجزاء منفصلة من المعلومات – كما هو الحال في برامج المسابقات! وقد أعتبر نظام إقليدس لعدة قرون بمثابة نموذج واضح للتفكير، وكان ولا يزال يُمثل قيمة عظيمة للجنس البشري.
إعلان
حللت ليبر ما يعنيه بناء "نموذج للتفكير الواضح" مثل هذا – واستنتجت أن الأسس المنطقية المترابطة هي ما تجعل هذا النموذج أسهل للتعلم وأسرع في تحقيق الاكتشافات الجديدة. وببساطة اتسمت بالأناقة والروعة، فحصت اللبنات الأساسية لهذا النظام وحددت أساسيات المنطق الرياضي: عندما يشرع المرء في بناء نظام، ينبغي عليه أن يبدأ ببعض العبارات القليلة البسيطة التي سيستمد منها عن طريق المنطق، "النتائج المترتبة". واستنادًا على هذا الأساس يُمكننا "معرفة العواقب المترتبة" قبل أن تصيبنا. ونحن بالتأكيد بحاجة إلى المزيد من ذلك! وهكذا، أورد إقليدس مثل هذه العبارات البسيطة (التي تُسمى "المسلمات" في الرياضيات) على النحو التالي: "سيكون من الممكن رسم خط مستقيم يصل بين أي نقطتين"، وأمثلة أخرى من هذا القبيل.
ولقد استطاع اشتقاق العديد من النظريات المعقدة ("النتائج المترتبة") من هذه المسلمات، مثل نظرية فيثاغورس المعروفة، وغيرها الكثير. وكما نعلم جميعًا، لكي "نثبت" أي نظرية ينبغي أن نوضح كيفية "اشتقاق" هذا الإثبات من المسلَّمات، إذ ينبغي أن يستند ادعاء في "الإثبات" إلى المسلَّمات أو النظريات التي سبق وأن "أثبتت" بالفعل من المسلَّمات. بالطبع النظرية الأولى يجب أن تثبت عن طريق المسلَّمات فقط.
قبل ما يربو على نصف قرن من كتابة الفيزيائية وعالمة الكونيات، جنا ليفين، بشكلٍ جميل عن القيود المنطقية في السعي وراء الحقيقة، تصدت ليبر لأحد أخطر المفاهيم الرئيسية الخاطئة المتعلقة بالرياضيات: الآن ماذا عن المسلمات نفسها؟ كيف يُمكن "إثباتها"؟ من الواضح أنه لا يُمكن إثباتها على الإطلاق – لأنه لا يوجد شيء يسبقها لكي يُمكن اشتقاقها منه! قد يبدو هذا مخيبًا للآمال لأولئك الذين يعتقدون أن كل شيء يُمكن إثباته في علم الرياضيات! ولكن يمكنك أن ترى أن هذا أمر مستحيل، حتى في علم الرياضيات، لأن كل نظام ينبغي أن يبدأ بالضرورة بمسلَّمات، وهذه المسلَّمات غير قابلة للإثبات، لأنه لا يوجد شيء يسبقها يُمكن استخلاصها منه.
إعلان
يتخلل هذا التعميم في اليقين كل مجالات العلم. في الواقع، والغريب بما فيه الكفاية، أنه كلما اقترب مجال علمي من الرياضيات، كلما عُدَّ من العلوم البحتة التي نعتبرها "علمًا ثابتًا"، ينطوي على حقائق منطقية ثابتة لا تتزعزع. ومع ذلك، كلما عُبر عن نمط التفكير من خلال الأسلوب الرياضي، كلما اعتمد هذا التعميم أو اليقين الدائري على الافتراض والتجريد. أدرك إقليدس هذا بالطبع. فقد تمكن من التوفيق بين التناقض الداخلي للنظام عن طريق اعتبار أن المسلَّمات غير المثبتة بمثابة "حقائق بديهية". وقد استند نظامه إلى استخدام المنطق للخروج من هذه المسلَّمات بنتائج معينة، أو نظريات. ومع ذلك كان هناك واحدة من تلك المسلَّمات – مسلَّمة التوازي الشهيرة – التي سببت الاضطراب لإقليدس.
تنص مسلَّمة التوازي على أنه: عند رسم خط مستقيم بين نقطتين (أ) و (ب)، ثم اعتبار نقطة ثالثة، (ج)، لا تقع على هذا الخط، يمكنك رسم خط واحد فقط يمر بالنقطة (ج) بحيث يكون موازيًا للخط المستقيم بين النقطتين (أ) و (ب)؛ وأنه مهما امتد هذان الخطان المتوازيان في الفضاء، فإنهما لن يتقاطعا أبدًا. إلا أن إقليدس لم يكن مقتنعًا بأن هذه تُعد من المسلَّمات، أي أنها حقيقة بديهية، ولذلك اعتقد أنه ينبغي أن تثبت هذه المُسلَّمة رياضيًا، ولكنه لم يستطع إثباتها. وقد فشلت أجيال من علماء الرياضيات في محاولة إثبات تلك المُسلَّمة على مدى ثلاثة عشر قرنًا. وبعد ذلك، في أوائل القرن التاسع عشر، توصل ثلاثة علماء رياضيات – نيكولاي لوباتشيفسكي من روسيا، وجانوس بولياي من المجر، وكارل فريدريش غاوس من ألمانيا – بشكلٍ مستقلٍ إلى نفس الفكرة: وهي أن التحدي المُتمثل في مسلمة التوازي لا يكمن في طريقة إثباتها، بل ـ كما تقول ليبر ـ يكمن في "السلوك المتبع نفسه إزاء فهم ماهية المسلمات"، فبدلًا من اعتبارها "حقائق بديهية" عن الطبيعة، ينبغي اعتبارها افتراضات من صنع الإنسان حول كيفية عمل الطبيعة، والتي قد أو قد لا تعكس حقيقة الكيفية التي تعمل من خلالها الطبيعة.
إعلان
ربما يبدو هذا تفصيلًا مربكًا، ولكنه في نفس الوقت يتسم بالعمق- فقد سمح للرياضيين أن يدركوا أن المسلَّمات ليست مُقدسة ولا حتمية، لكنها قابلة للتبديل، وقابلة للتطويع، وقابلة للتخطي. ترك علماء الرياضيات المبدعين، هؤلاء في القرن التاسع عشر بقية النظام الإقليدي دون مساس، وقاموا بتغيير مسلَّمة التوازي التي تفترض أنه لا يمكن رسم خط واحد فقط بل خطين من خلال النقطة (ج) التي من شأنها أن تكون موازيه للخط المستقيم بين (أ) و (ب)، وسيظل النظام بكامله متسقًا بذاته. وأسفر ذلك عن عدد من النظريات الثورية، بما في ذلك فكرة أن مجموع الزوايا في مثلث يمكن أن يكون مختلفًا عن 180 درجة – على سبيل المثال، مجموع زوايا أي مثلث مرسوم على سطح كرة يكون دومًا أكبر من 180 درجة، ويكون أقل من 180 درجة إذا رُسم على سطح مقعر..
لقد كانت الفكرة غير بديهية تمامًا، ولا يمكن تفسيرها ببساطة، ناهيك عن توضيحها برسم تخطيطي على سطح مستو. ومع ذلك لم تكن مجرد تجربة فكرية، وانحراف عقلي مسلٍّ ومريب. فقد أدت إلى فتح باب الإبداع في الرياضيات والفيزياء على مصراعيه من خلال ابتكار علم الهندسة غير الإقليدية، والتي تنطوي على فهم الفضاء المنحني ثلاثي الأبعاد، الذي ندرك الآن أنه شيء حقيقي مثل هندسة الأسطح المستوية، وتزخر بها الطبيعة في كل شيء، بدءًا من أزهار الزنبق، ثم في نمط نمو الشعاب المرجانية، وصولًا إلى نسيج الزمان-مكان، أو “الزمكان" الذي يدمج بين طياته كل شيء في أي وقت كان وسيكون. في الواقع، لم يكن أينشتاين نفسه قادرًا على الوصول إلى نظريته النسبية، ولا إلى جسر المكان والزمان (جسر آينشتاين-روزين) ووضع تلك النظريات في المفهوم الثوري للزمكان، دون الهندسة غير الإقليدية.
استطاعت ليبر تحقيق القفزة الفكرية التي تميز كتبها على أنها إنجازات فريدة في الفكر، والتي تُمثل قفزة من الرياضيات وفهم الطبيعة، إلى علم النفس وعلم الاجتماع، وفهم الطبيعة البشرية. وبإمعان النظر في الثورة الأكبر في الفكر التي تجسدت في الرفض الجوهري للهندسة غير الإقليدية الذي يدعو إلى قبول أي حقيقة باعتبارها بديهية، فقد أثارت تساؤلات حول مفهوم "الحقائق الأبدية" – وهو مصطلح روّج له الفيلسوف الفرنسي كلود بوفييه في القرن الثامن عشر للدلالة على أوجه الوعي البشري التي يزعم أنها تزود الإنسان بالأخلاق الثابتة والقيم الإنسانية. وبالنظر في العلاقة بين الحد الإبداعي والحرية والتواضع والمسؤولية، التي يُمكن من خلالها أن تتشكل قيمنا، تقول ليبر:
إعلان
على الرغم من أن الرياضيات ليست سوى تحد من صنع الإنسان، إلا أن الإنسان لايزال يطور من نفسه بشكل جيّدٍ للغاية في هذا المجال، إذ تتوفر له الحرية الفكرية مع المسؤولية، كما تعلم التواضع النابع من يقينه أنه لا يستطيع الوصول إلى "الحقائق البديهية" و"الحقائق الأبدية"، الأمر الذي قاده إلى إدراك حقيقة أنه ليس إلهًا، ومع ذلك فهو يعلم كذلك جيدًا أنه ليس مجرد فأر، بل إنسان، يحمل كل معاني الكرامة الإنسانية والإبداع البشري الضروري لتطوير مجال الرياضيات الرائع.
تشير ليبر في توافق وربط آخر جميل للمفاهيم الفكرية، إلى الكرامة والإبداع اللذين يدفعان بعلم الرياضيات إلى الأمام، والذي يُعد بمثابة القوة الدافعة وراء الطموح المركزي للحياة البشرية، وهو ما رأى الفيلسوف والكاتب، ألبير كامو، أنه يُمثل التزامنا الأخلاقي في سعينا الدؤوب لتحقيق السعادة. تروي ليبر في الفصل الأخير، تحت عنوان "الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة"، مبادئ علم ما وراء الرياضيات الذي يتناول بالدراسة الرياضيات نفسها باستخدام الطرق الرياضية، والذي يتطلب في دراسته ألا تتعارض مجموعة المسلَّمات داخل أي نظام مع بعضها البعض حتى يُمكن القول: إن هذا النظام متسق ذاتيًا، والتي تُعد فيه الرياضيات بمثابة صندوق الرمل – أحد آليات الحماية التي تهدف إلى عزل النظام بحيث لا تخرج المسلَّمات عن إطار هذا الصندوق – للأخلاق الأساسية الخفية التي لا يمكن بقاء الإنسان على قيد الحياة بدونها:
وهذا يعني بالطبع أن الكذب لا يُمكن اعتباره بمثابة أداة للتفكير!
والآن، ألا يُعد هذا الإقرار بمثابة مبدأ أخلاقي؟
ولكن بدونه لا يمكن أن يتوفر لدينا أي نظام رياضي مُقنع، ولا أي نظام فكري مُقنع – في الواقع لا يُمكننا حتى أن نلعب مباراة بشكلٍ صحيحٍ باستخدام قواعد متناقضة!
إعلان
وبطريقة مماثلة، أود أن أشير إلى أن هناك المزيد من الأفكار الأخلاقية الهامة وراء الكواليس، والتي بدونها لن يكون هناك أي رياضيات أو علوم. وبالتالي، من هذا المنطلق يُمكن القول بأن العلم لا يُعد غير أخلاقي على الإطلاق – أكثر مما قد يستطيع المرء وضع مسلَّمة مثمرة وجادة في الرياضيات والتي لن تخضع لقواعد علم ما وراء الرياضيات اللازمة لتحقيق الاتساق!
تقول ليبر، من بين هذه الأفكار الأخلاقية "وراء الكواليس"، فكرة أخذ الحياة نفسها باعتبارها مُسلَّمة أساسية: من دون حياة لا يُمكن أن يوجد أي شيء حي ولا الزهور، ولا الحيوانات، ولا الجنس البشري – أيضًا بطبيعة الحال ولا الموسيقى، ولا الفنون، ولا العلم، ولا الرياضيات. أعربت ليبر من منظور مناقض لفكر كامو، الذي اعتبر أن مسألة الانتحار هي "المشكلة الفلسفية الأشد خطورة بحق"، وبإشارة خاطفة إلى شكسبير، تقول: أنا لا أقصد أن ننظر هنا ما إذا كانت الحياة تستحق العيش، وما إذا كان الانتحار فعلًا منطقيًّا، وسواء إن كان كل شيء مجرد "صوت وغضب، لا يدل على شيء". بل أقترح أن تؤخذ الحياة باعتبارها مسلَّمة، وبالتالي لا تخضع لإثبات، تمامًا مثل جميع المسلَّمات الأخرى. ولكنني أقترح تعديل هذا وجعله أكثر تحديدًا كما في:
المُسلَّمة الأولى
إن الحفاظ على حياة الجنس البشري، هدف ينبغي السعي لتحقيقه من خلال الجهد البشري. وهذا لا يعني أننا سنشرع في قتل الحيوانات بطريقة عشوائية دون مبرر، ولكن القيام بذلك فقط عندما يكون ذلك ضروريًا لدعم الحياة البشرية – من أجل الحصول على الغذاء، والوقاية من المرض، وتشريح الحيوانات الحية بغرض الدراسة العملية، وما إلى ذلك. في الواقع، قد يُساعد الحصان أو الكلب أو الحيوانات الأخرى، من خلال الود والإخلاص، في الحفاظ على روح الإنسان وإيمانه، بل وحتى حياته. وأفسر هذه المُسلَّمة أيضًا فيما يُطلق عليه "رياضة"، مثل "مصارعة الثيران"، أو "مطاردة جماعية" لثعلب صغير – من مجموعة من الرجال والنساء (وإفساد حتى الخيول والكلاب للقيام بالمساعدة!) – على أنها عمل خسيس بحق، ولا يليق بالروح الرياضية، ولذلك، من غير المعقول أن تُعتبر مثل هذه النشاطات من قبيل "الرياضة" على الإطلاق.
إعلان
وعلى غرار الفيلسوف والكاتب ألان ويلسون واتس، الذي أصر في فلسفته على أن "الحياة والواقع ليسا شيئين يُمكن أن تحصل عليهما لنفسك، إلا إذا منحتهما للآخرين"، وانطلاقًا من هذه المُسلمة، تمكنت ليبر من بلورة الأسس الأخلاقية للمساواة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، كل هذا سيتضح من خلال تفسير معنى المُسلَّمة الأولى: قبول حياة الجنس البشري.
بالتأكيد سيقبل الجميع بالفكرة الموجودة حتمًا، وراء الكواليس، في العلوم أو الرياضيات. ولكن هذا ليس كل شيء. فأنا أعتبر أن هذه المُسلمة تعني أيضًا أننا لا ينبغي أن نقصر تطبيقها على جزء من الجنس البشري فحسب، كما فعل هتلر، لأن هذا سيؤدي حتمًا إلى الحرب، ومن شأن هذا اليوم الذي ستُستخدم فيه الأسلحة النووية، والكيميائية والبيولوجية، والإشعاعية، أن يتناقض بالتأكيد مع المُسلَّمة الأولى، أليس كذلك؟
تستخدم ليبر هذا المُسلَّمة الأولى كأساس "لنظام أخلاقي" أكبر مُتسق ذاتيًا، تمامًا كما فعل غاوس، ولوباتشيفسكي وبولياي، عند تعديل مُسلَّمة التوازي الشهيرة، واستخدامها كأساس لثورة في الهندسة غير الإقليدية. قبل أربع سنوات من إصدار جوان ديديون نصيحتها الخالدة حسنة التوقيت، المناهضة للخلط بين مفهوم الاستقامة الذاتية والأخلاق، وقبل جيل من تأكيد الفيزيائي ريتشارد فاينمان على أنه "من المستحيل أن تجد إجابة، لن يتبين في يوم من الأيام أنها كانت خاطئة". تُقدم ليبر هذا النموذج الأخلاقي بتواضع صادق، وتقول: أود أن أقول في البداية إن "النظام" المُقترح هنا لا يدعي بأي حال من الأحوال أنه قطعي ونهائي(!)، ومع الأخذ في الاعتبار مدى صعوبة أن تتوفر لدينا مجموعة مثالية من المُسلَّمات، حتى في الرياضيات!
ومع ذلك، يجب على المرء أن يستمر، وينبغي عليه أن يحاول، وينبغي عليه أن يفعل أفضل ما لديه، كما هو الحال في الرياضيات والعلوم. ومن ثم، دعونا نستمر، بكل تواضع، في محاولة لعمل ما يُمكن اعتباره في أحسن الأحوال بمثابة اقتراحات مؤقتة، على أمل أن الفكرة الأساسية -التي تتمثل في أن هناك أخلاق وراء الكواليس في الرياضيات والعلوم- قد يثبت أنها مفيدة ويمكن مواصلة تحسينها وتعزيزها مع مرور الوقت. واستنادًا إلى النتيجة المستخلصة من القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يعني ضمنيًا أن الكائنات الحية تسير على نهج حتمي يدفعها من الانْحِطاط نحو الدمار، تقدم ليبر مُسلمات إضافية للنظام الأخلاقي الذي يدعم الديمقراطية المزدهرة:
إعلان
المُسلَّمة الثانية
يجب على كل فرد من البشر محاربة هذا "الانْحِطاط"، ويجب عليه التمسك بالحياة لأطول فترة ممكنة، ويجب عليه أن ينمو ويبتكر – جسديًا و / أو عقليًا. ولهذا نحتاج إلى:
المُسلَّمة الثالثة
يجب علينا جميعًا أن نتمتع بالحرية حتى ننمو ونبتكر، دون أن يتعارض بالطبع نمو كل واحد منا مع الآخر، الأمر الذي يُشير إلى:
المُسلَّمة الرابعة
هذه الحرية النابعة من الذات أو التي يفرضها المجتمع، يجب أن تكون مُصحوبة بالمسؤولية، إذا كانت لا تؤدي إلى خلاف بين الأفراد أو الجماعات، الأمر الذي قد يتعارض بالطبع مع المسلَّمات الأخرى. بالطبع من الصعب للغاية تحقيق كل ذلك، بما في ذلك قبول الحياة دون معاناة، والنمو دون أن يتعارض ذلك مع نمو الآخرين، وباختصار فإنه ينطوي على ما أطلق عليه الأديب المسرحي يوهان فولفغانغ فون غوته "الاستسلام المُبهج". ولكن كيف يمكن القيام بذلك؟ ويبدو واضحًا الآن أننا يجب أن نضيف:
المُسلَّمة الخامسة
يُعد السعي لتحقيق السعادة هدفًا ينبغي السعي لتحقيقه من خلال الجهد البشري. لأنه بدون بعض السعادة، أو على الأقل بدون بعض الأمل في السعادة (المُتمثل في "السعي" لتحقيق السعادة) سيكون من المستحيل أن تقبل "بهدوء" النظام المُبين أعلاه. وهذا القبول يؤدي إلى أداء هادئ وعاقل لعملنا، بروح يقبل من خلالها عالم الرياضيات مسلَّمات النظام، ويقبل عمله الإبداعي استنادًا إليها – بل وحتى قبول الصعوبات الكبرى التي يواجهها ويصر على التغلب عليها.
وأعتقد أخيرًا أن نتائج هذه الصيغة ستعيد اكتشاف الاستنتاجات التي توصل إليها الزعماء الدينيون العظماء والعاملون العظماء في مجال الأنشطة الإنسانية. تستخلص ليبر من هذا المفهوم للنظام "بعض المتغيرات وبعض الاختلافات"، وتستمد من مبادئ العلوم والرياضيات نموذج عمل للديمقراطية:
إعلان
(1) المتغيرات: الحياة – التي تتطلب:
(أ) الغذاء الكافي والمناسب؛
(ب) الصحة الجيدة؛
(ج) التعليم – العقلي والبدني على حد سواء؛
(د) لا للعنف!
(الباحث الحقيقي لا يذهب إلى مختبره حاملًا فأسًا يُمكن من خلاله تدمير أجهزته ومعداته، ولكن بدلًا من ذلك يذهب إلى مختبره بعقلٍ متطورٍ، والكثير من الصبر الذي يُمكن من خلاله ابتكار أشياء جديدة والتي ستعود بالفائدة على الجنس البشري). وهذا ينطوي بطبيعة الحال على السلام، والأفضل من ذلك:
(ه) الصداقة بين الأشخاص المختلفين!
(و) التواضع – مُتذكرًا دائمًا أنه لن يعرف "الحقيقة" أبدًا
(ز) وكل هذا بالطبع يتطلب قدرًا كبيرًا من العمل الجاد.
(2) الاختلافات التي لن تمنع الأشخاص المختلفين من دراسة الكون بنفس القدر من المساواة، وبنفس القدر من النجاح، على الرغم من اختلافهم – الأمر الذي يُعد بالتأكيد أوضح مفهوم يُفسر ماهية الديمقراطية:
(أ) نظم إحداثية مختلفة
(ب) الاختلافات في لون البشرة!
(ج) لغات مختلفة – أو وسائل أُخري للتواصل.
ويرجى عدم اعتبار هذا النظام على أنه بعيد المنال وغير قابل للتحقيق مثل "المدينة الفاضلة -يوتوبيا"، لأنه يعمل بالفعل في العلوم والرياضيات، كما رأينا من قبل، ويمكن أن يعمل بنفس الكَفاءة في المجالات الأخرى، إذا استطعنا فحسب بذل قُصارى جهدنا لتحقيقه، بدلًا من خوض الحروب -سواء كانت (حرب مستعرة أو حرب باردة) أو حتى الاستعداد للحروب- وكراهية الآخرين، وما إلى ذلك.
____________________________________________
ترجمة: فريق الترجمة
هذا التقرير مترجم عن: brainpickings ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
المصدر : الجزيرة