"الهاكثون".. ثقافة يحتاجها العالم العربي لحل مشكلاته
ملتقى المبدعين، ومحط أنظار المستثمرين والشركات، هكذا ينظر للهاكَثون(1) (Hackathon) وهي مسابقة يجتمع فيها المبرمجون والمهندسون وآخرون من ذوي الخبرات التقنيّة والعلميّة المختلفة للقيام بعمل مشروع تقنيّ إبداعيّ يمسّ حاجة معيّنة أو مجالا علميّا ما في غضون 24 أو 48 ساعة. حيث بدأت فكرة الهاكَثون في مطلع الألفيّة كتحدٍّ بين مبرمجي القرصنة الإلكترونيّة المحترفين والهواة(2) على القيام بتطوير برامج حاسوبيّة وتعمويّة (Cryptographic) بصورة بعيدة عن الصورة النمطيّة السيّئة الّتي ارتبطت بالمبرمجين الهواة، وسرعان ما أصبح الهاكَثون ثقافة منتشرة بين المبتكرين ومطوّري البرمجيّات كنشاط للعصف الذهنيّ والخروج بأفكار إبداعيّة تحوَّلَ الكثير منها إلى مشاريع ناجحة ومثمرة.
ومع انتشار مفهوم الهاكَثون وتداخل التخصصات العلميّة والتقنيّة المعتمدة على المعلوماتيّة، أصبحت هذه الفعاليّات غير محصورة في المبرمجين والمهندسين فحسب، بل تجاوزتها لتشمل المتخصصّين في مختلف تطبيقات البحث والتطوير العلميّ والطبيّ والاجتماعيّ وغيرها من المجالات، وصار لكلّ فعاليّةِ هاكَثون ثيمة معيّنة تحدّد طبيعة الأفكار والمشاريع الّتي سيقوم بطرحها المشاركون خلال اليومين أو الثلاثة الّتي يجتمعون فيها، وتقوم شركات وجهات داعمة برعاية الفعاليّة وتزويد المشاركين بالموارد الماديّة والمعنويّة اللّازمة خلال ساعات العمل، كما تتشكّل لجنة من الحكّام الممثلين لهذه الجهات الداعمة وآخرين من أصحاب الخبرات والإنجازات مهمّتهم تقييم المشاريع والأفرقة عند انتهاء الفعاليّة وتوزيع الجوائز المادّيّة والعينيّة أو تبنّي بعض هذه المشاريع لتصبح حقيقة مطبّقة.
وعادة ما تَتَكوّن الفرق المشاركة من مجموعة متنوّعة من ذوي التوجهات العلميّة التطبيقيّة والنظريّة، والمهندسين، والمبرمجين ومطوّري التطبيقات والمواقع، والمهتمّين في المشاريع الرياديّة وإدارة الأعمال والتمويل، ممّا يجعل الفريق قادرا على الخروج بأفكار إبداعيّة قابلة للتطبيق والطرح كمشاريع حقيقيّة وخلّاقة.
من اللافت حضور المشاركين العرب والمسلمين من غير العرب من طلّاب ومهاجرين ومواطنين ضمن المنظّمين والمشاركين على السواء، واهتمامهم بالمشاريع التنمويّة والرياديّة ومنافستهم مع نخبة من الطلبة والخبراء، الأمر الّذي يدلّ على أنّ الطاقات الشبابيّة العربيّة متوفّرة ومميّزة ولكنّهم يبحثون عن البيئة المناسبة ليجودوا فيها بما لديهم من أفكار وقدرات. وقد فاز بعضهم بالفعل بمشاريع تنموية إبداعية في أمام مشاريع أخرى قام عليها طلبة ومحترفون من أفضل المعاهد في العالم، وكان منها فوز طبيبة الأسنان السعوديّة آلاء قاري بمشروعها التوعويّ عن رعاية الأسنان في الفعاليّة الأخيرة.
الهاكثونات تمنح فرصا ذهبيّة للتعرّف على أناس مميّزين يملكون اهتمامات وخلفيّات علميّة وثقافيّة مشتركة بطبيعة الحال. محمد أبو راوي، طبيب ليبيّ تخرّج من جامعات ليبيا وتدرّب في مصر ويعمل الآن زميلا بحثيا في مستشفى ماساتشوستس التابع لكليّة الطبّ بهارفارد ببوسطن. محمّد شارك مع زملائه من العرب في الهاكَثون الطبّيّ الكبير في (MIT) قبل سنة، وقاموا من خلاله بتطوير تطبيق وفكرة لمشروع رعاية طبيّة عن بعد في المناطق المنكوبة والمتضررة أو النائيّة من خلال ربط المرضى والمصابين بأطباء عرب في أيّ مكان في العالم على أسس علميّة وتقنيات سليمة وسهلة التطبيق، وأسموا مشروعهم هذا "سبيتار" (Speetar)(6)، أي المستشفى باللهجة المحلّيّة.
فريق سبيتار فاز بإحدى جوائز الفعالية، وفاز بمسابقات وهاكَثونات أخرى بعد ذلك، وهو الآن يبصر النور كشركة مبتدئة "start-up" خرجت من رحم الهاكَثون. تحدث محمّد ل"ميدان" كيف أنّ مفهوم الهاكَثون أصبح رائجا في المجتمعات المتقدمة، وأنّ هناك فِرقا مخصّصة لتنظيم الهاكَثونات في أميركا كلّ أسبوع(7)، فضلا عن أنّ أغلب الشركات الكبيرة والناجحة مثل فيسبوك وغوغل وغيرها تعتمد على الهاكَثونات الدوريّة بين موظفيها لتطوير خدماتهم أوّلا بأوّل، وهو بلا شكّ نشاط مكثّف قادر على إنتاج أفكار وخطط مشاريع إبداعيّة قد لا تكون تخطر على بال أصحابها خارج هذه البيئة. ثمّ تحّدثنا عن أهمّيّة انتشار ثقافة الهاكَثون في الوطن العربيّ وسهولة تحقيقها:
"المنظور الّذي أريد أن أركز عليه هو أهمية الهاكَثون كوسيلة لحلّ المشكلات في عالمنا العربيّ. هناك العديد من المشكلات في مجتمعاتنا على كافة الأصعدة، والأساس الّذي تبنى عليه أيّ حلول إبداعيّة هو وجود المشكلة في المقام الأوّل، وثمّ تصبح هذه الحلول دوافع للتقدّم أكثر وتجاوز المشكلة الأساسيّة. بلادنا ملأى بالمشكلات الّتي تتطلّب حلولا، بدءا من الصحة والتعليم واقتصاديّات الدول، وانتهاء بطوابير الخبز. والحلّ الوحيد لمثل هذه المشكلات في ظلّ انعدام الموارد وعدم مواءمة الظروف هو الإبداع والابتكار" يقول محمّد.
ونحن أولى بإيجاد الحلول لمشكلاتنا، فأهل مكّة أدرى بشعابها، "…خذ ليبيا مثالا على ذلك: لو اجتمع مجموعة من الشباب المتعلّمين من مختلف التخصصات في طرابلس أو بنغازي ليومين أو ثلاثة ليبحثوا عن طرق تساعد في الحد من مشكلات التعليم والعزوف عنه إثر الحروب والصراعات الجارية. أنا متأكد من أنّ لديهم القدرة على إيجاد حلول أفضل من أي حلول حكوميّة في ظلّ هذه الظروف غير المستقرّة." كثير من هذه الحلول يمكن لها أن تقوم بذاتها، بحيث تكون ذات جدوى اقتصاديّة على هيئة مشاريع تجارية ذات أثر اجتماعيّ "social impact enterprises" قادرة على جلب المستثمرين والاستدامة على المدى البعيد على غرار تطبيقات التوصيل مثل "كريم" و"أوبر"، والمشاريع التعاونيّة مثل خدمات توفير الطعام وتوصيله بالاستفادة من خبرات ربات البيوت من اللاجئين وذوي الدخل المحدود، والمشاريع التعليميّة غير الأكاديميّة مثل "يوريكا" وغيرها.
بدأت بعض فعاليات الهاكَثون بالانتشار في عالمنا العربي كالّتي أقيمت في السعوديّة(8) ومصر(9) والجزائر(10) ودول عربيّة أخرى في السنوات الأخيرة، وهذه الفعاليّات لا تحتاج إلى كثير مال أو إلى طاقات غير متوفّرة، كلّ ما يحتاجه الهاكَثون هو التنظيم الحسن، وتوفير المكان والأجواء المناسبة للقاء والعصف الذهنيّ والتخطيط، ووجود مشرفين من ذوي الخبرة لتقديم الإرشادات، وجهات داعمة مهتمّة في المجالات المطروحة لدعم المشاريع الناجحة والاستفادة منها، والأهمّ من كلّ ذلك الطاقات الشبابيّة المتعطشة للإبداع والتغيير، وكلّ ذلك وفير في بلادنا وممكن لو حسن استغلاله.
في (مارس/آذار) الماضي من هذا العام قامت جمعية خريجي هارفارد العرب ومجتمع الطلاب العرب في هارفارد بتنظيم أوّل هاكَثون في هارفارد يُعنى بإيجاد حلول للمشكلات الّتي يعاني منها الشرق الأوسط(11) على المستوى الاجتماعيّ والإنسانيّ، وخرج المنظّمون المشاركون بنماذج وأفكار قادرة على صناعة التغيير وربط الشباب العربيّ بالموارد اللازمة للإبداع والتقدّم دون الخضوع للظروف السياسية أو الاقتصاديّة الّتي تحيط بدول المنطقة. كانت هذه الفعاليّة منطلق اهتمامي بالهاكثون وإدراكي لأهمّيّته كنشاط شبابيّ ثقافيّ وعلميّ وتقنيّ قادر على إخراج أفضل ما فينا ومنبع لتتغير الشعبيّ والنخبويّ.
هذه الفعاليات يمكن أن تنتقل بسهولة إلى الوطن العربيّ وأن تتكرّر بشكل دوريّ لتناقش المشكلات المختلفة، وتقوم بإيجاد حلول تقنيّة إبداعيّة باستخدام الموارد المتاحة لتتحول بعد ذلك إلى مشاريع اقتصاديّة ناجحة وذات أثر تنمويّ، ومع انتشار عدوى الهاكَثون إلى بعض البلدان العربيّة فإنّ الأمل معقود أن تنتشر هذه الثقافة في عالمنا العربيّ وتكون إحدى القواعد الشعبيّة والنخبويّة المؤثّرة على مستقبل العلوم والصحّة والتقنية في الشرق الأوسط.