شعار قسم ميدان

كيف نتخيل البُعد الرابع؟

midan - string
(futurism.com)

يخطئ البعض حين يتصور أن نظرية الأوتار تستلزم وجود أبعاد إضافية لكي تستمر معادلاتها في تحقيق إجابات مُرضية، لكن الحقيقة هي أنها فقط "تسمح" بوجود تلك الأبعاد، ولا يحدث أي تعارض مع النظرية بسبب وجودها، لكن قبل الخوض في عوالم نظرية الأوتار دعنا نتعلم بعض الشيء عن فكرة الأبعاد، يمكن القول إن اصطلاحات كـ "بُعد عاشر" تسافر بالقارئ أو السامع إلى أراضٍ فانتازية تتحقق فقط في روايات وأفلام الخيال العلمي، لكن الواقع هو أن تلك الأبعاد هي فقط كيانات رياضياتية.

 

ما نحتاجه لكي نصعد للأعلى في عالم متعدد الأبعاد هو أن نمتلك قيمة لا تتأثر بتغير الأبعاد (Invariant)، ما إن نحصل على تلك القيمة حتى يمكن لنا رفع مستوى معادلاتِنا لأي بعد ممكن من دون أن نخشى النتائج، دعنا في هذا المقال نبدأ حديثنا عن الأبعاد بتوضيح فكرة أينشتاين عنها، كيف يدخل الزمن كبعد رابع؟ وكيف يمكن لنا أن نتخيّله بهذه الطريقة؟

 

فيثاغورس دائما
فيثاغورس
فيثاغورس
 

الأمر بسيط، لن نستخدم أكثر من معادلة واحدة تعلمناها في الصف الأول الإعدادي، فقط أحتاج منك القليل من التركيز وتتبع خطوات المقال البسيطة، والتي سوف ندعمها بعدد كثيف من الأشكال التوضيحية، لنتعرف الآن على نظرية فيثاغورس الشهيرة، تقول النظرية أن مجموع مربعي ضلعي الزاوية القائمة في المثلث يساوي مربع طول الوتر، ماذا؟!

 

لكي نفهم ما يعنيه ذلك سوف نبدأ برياضيات الخامس الابتدائي، المربع هو شكل يتكون من 4 أضلاع متساوية في الطول، نعرّف مساحة هذا الشكل على أنها حاصل ضرب طول الضلع في الضلع المجاور له، وبما أن المربع يحتوي على أربعة أضلاع متساوية فإن الساحة هي طول الضلع في نفسه، فإذا قلنا إن مربعا طول ضلعه A فإن مساحته هي A2.
 
undefined
 
ما تحكيه نظرية فيثاغورس إذًا؛ أنه لو قمنا ببناء مربعات على أضلاع مثلث قائم الزاوية، فإن مساحة المربع المبني على ضلع وتر المثلث (حاصل ضرب طول الضلع A في نفسه) تساوي مجموع مساحتي المربعين المبنيين على الضلعين الآخرين (B مضروبًا في نفسه + C مضروبًا في نفسه)، لا حاجة إلى الآن في إثبات صحة نظرية فيثاغورس، لكننا نود أن نفهم ما تعنيه تلك النظرية، نحن الآن لا زلنا في بُعدين فقط، ويعتبر الأمر مألوفًا بالنسبة لنا.
 
undefined
 
الآن دعنا نعلو قليلا للبعد الثالث، إنه أكثر الأبعاد أُلفةً بالنسبة لنا، نعيش فيه، نتواصل مع الكون من خلاله، حتى أن أفكارنا، صُوَرُنا عن العالم، تتكون بطريقة ثلاثية البعد، وهو ما يمنعنا من تخيّل أبعادٍ أعلى، لكي نفهم فيثاغورس بثلاثة أبعاد دعنا نتخيل أن هناك منزلاً ما، بجانب المنزل يوجد سُلّم على الأرض..
 
undefined
 
لنبدأ ببناء مربع على هذا السلم، ليكن المربع A، كما في الشكل (1)، دعنا الآن نرفع السلم قليلا عن الأرض كما يحدث في الصورة رقم (2) المرفقة، سوف تتكون ثلاثة مربعات فيثاغورسية تظهر كما تعلمناها منذ قليل، الآن لنذهب في خلفية نفس المنزل، في التصميم رقم (3) ستلاحظ أن السُلَّم وهو مرفوع على جدار المنزل؛ صانعا الزاوية القائمة التي قمنا بتوضيحها في الصورة (2)، لكن الآن دعنا نُميل طرف السلم العلوي إلى اليمين قليلًا، هنا سوف نُلاحظ ظهور مربع جديد تماما مبنيٍّ على ضلع جديد ظهر بسبب تحرك السلم ناحية اليمين، إنها المسافة التي قطعها طرف السلّم العلوي ناحية اليمين.
 
undefined
 
عند إمالة السلّم لليمين قليلا يقل طول الضلع B، وبالتالي يتسبب ذلك في نقص المساحة المبنية عليه، تعوّض هندسة الشكل تلك المساحة في ظهور المربع الجديد الأحمر D الذي يبني نفسه على الضلع الإضافي المتكون بسبب المسافة التي قطعها طرف السلّم العلوي ناحية اليمين، هنا تظهر فكرة هامة.

 

حينما كان السلم نائماً على الأرض، وحينما أقمناه على الجدار، وحينما أملناه قليلا ناحية اليمين، تظلُّ المساحة المبنية عليه بنفس القيمة طبعا فهي تُساوي طول السلم وهو لم يتغير، لكن ما يتغير هو زيادة الأبعاد، في الحالة الأولى نجد بُعداً واحداً، ثم بُعدين، ثم ثلاثة، نحتاج إذن أن نضيف مربعا جديدا في كل بُعد جديد نضيفه، وفي كل مرة نطبق نفس القوانين التي لا تتغير بتغير الأبعاد، فمجموع قيم المربعات القائمة على الأضلاع مهما تغير وضع السلم في الفضاء سوف يظل ثابتا، نسمي تلك (قيمة/خاصية ثابتة) (Invariant)، أي لا تتأثر بالتغيرات الحاصلة حولها.

 

أحد الأخطاء الهامة في فهم النظرية النسبية هو أن البعض يتصور أن الزمكان هو النسيج الذي يتكون من ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد زمني، لكنهم لا يتمكنوا حقيقة من فهم أنه حينما يقول أينشتاين ذلك فهو يعني أنه يجب أن نتعامل مع أربعة أبعاد على أنها جميعا من نفس النوع

نخرج من تلك النقطة أيضًا بفكرة التماثل (Symmetry)، بمعنى أنه رغم حدوث تغيرات حول شيء ما لكنها تتركه كما هو، يشبه الأمر أن ننظر إلى كرة ملساء لونها أزرق من أي موضع، من اليمين أو اليسار أو الأعلى أو الأسفل، يمكن أن نقف هنا أو هناك أو في آخر الشارع وننظر ناحيتها فنجد أن شكلها لا يتغير، إنها تبدو نفس الكرة في كل مرة، لا يتغير شكلها بالنسبة لك، هنا يمكن القول إن الكرة تمتلك تماثلاً من نوعٍ ما.

 

هذا هو ما يفعله الفيزيائيون في مكاتبهم، يقومون بدراسة نموذج رياضي ما في الأبعاد التي نعرفها، ثم يقومون بتطبيقه في أبعاد أعلى، مع توضيح أنه لا حاجة لنا في "تخيّل" شكل وجود تلك الأبعاد الأعلى، فالرياضيات لا تهتم لما نراه أو ما لا نراه، لِما نستطيع تخيله في أذهاننا أو لا يمكن لنا تخيّله، ونحن لا نستطيع التواصل مع أبعاد أعلى، ولا نستطيع عمل تجارب هناك، لكن فقط كل ما نحتاجه هو تتبع المعادلات الجبرية وصناعة نماذج، تلك النماذج تمتلك بنية صحيحة تم اختبارها في أبعادنا التي نعرفها، ونعرف أنها لا تتغير بتغير الأبعاد، إذن حينما أسألك عن حجم شكل متساوي الأضلاع في البعد الخامس سوف تتبع نفس خطّ السير قائلاً:

 

في البُعد الأول يوجد الضلع A

في البُعد الثاني نحصل على مربع بضرب A في A

في البُعد الثالث نحصل على مكعب ونحسب حجمه بضرب A في A في A

في الرابع نحصل على الحجم إذا ضربنا A في A في A في A

لا يهم كثيرا أن نتخيل هذا الشكل، فقط نحتاج أن نمد خط النموذج الرياضي على استقامته ونقوم بالحسابات، فيكون حجم الشكل في البُعد الخامس هو ضرب A في A في A في A في A

كذلك بالنسبة لنموذج فيثاغورس، فإذا كانت الحالة الأولى هي: A2 = B2 + C2

وفي الحالة الثانية: A2 = B2 + C2 + D2

 

يمكن إذن رفع الأبعاد بالقول أنه في أربعة أبعاد سوف يساوي A2  مجموع مساحات في البُعد الأول B والثاني C والثالث D والرابع E، وهو الزمن في معادلات النسبية الخاصة، إنها نفس الطريقة التي استخدمها منكوفسكي لشرح ما يعنيه أينشتاين، لفهم ذلك دعنا نتعمق قليلا في النسبية.

 

والآن إلى البعد الرابع
أحد الأخطاء الهامة في فهم النظرية النسبية هو أن البعض يتصور أن الزمكان هو النسيج الذي يتكون من ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد زمني، لكنهم لا يتمكنوا حقيقة من فهم أنه حينما يقول أينشتاين ذلك فهو يعني أنه يجب أن نتعامل مع أربعة أبعاد على أنها جميعا من نفس النوع، هنا تظهر مشكلة في النسبية، كيف يمكن لنا إن اعتبرنا أن الزمن هو بُعد رابع بعد قياس كُلٍّ من الزمن والمسافات المكانية بنفس الطريقة؟

 

جوهر نسبية أينشتاين: كلما ارتفع استثمارنا في المسافة قلَّ استثمارنا في الزمن، والعكس صحيح
جوهر نسبية أينشتاين: كلما ارتفع استثمارنا في المسافة قلَّ استثمارنا في الزمن، والعكس صحيح
 

إذا افترضنا أن هناك بُعداً رابعاً بالفعل، فإن صيغة فيثاغورس سوف تفترض أن مساحة المربع المبني على الوتر تساوي مجموع المساحات على أبعاد أربعة، ثلاثة من تلك الأبعاد تُعرّف بوحدات مكانية لها علاقة بالمساحة (تُقاس بوحدات كالمتر المربع مثلًا)، وبُعدٌ يُعرِّف بوحدات الزمن (الساعة أو الثانية)، وهذا يعني أننا سنحصل على معادلة غير متسقّة مع ذاتها، يجب أن يحصل الجميع على نفس الوحدات.

 

هنا يستخدم أينشتاين حيلة بسيطة لها علاقة بسرعة الضوء، فالسرعة تساوي المسافة على الزمن، حينما يضرب أينشتاين مربع سرعة الضوء في مربع البعد الزمني، بحسبة بسيطة، تزيل الوحدات الزمنية بعضها البعض (واحدة في المقام وأخرى في البسط) وتتبقى فقط وحدة المسافة المربعة، إنها المساحة، هنا نحصل على الزمن كبعد رابع ذا طول في معادلة فيثاغورس لتكون:

A2 = B2 + C2 + D2 + E2

ولكنها تُرسم بالطريقة:

S2 = x2 + y2 + z2 – C2t2

 

قد نحتاج للتخلّي عمّا تحكيه لنا خيالاتنا وتتبع معادلة مجردة، سوف يفيدنا ذلك كثيرًا حينما نتحدث في عدة مقالات قادمة عن نظرية الأوتار، هل يمكن أن يكون الكون كاملا هو نتيجة لأوتار غيتار مشدودة تعزف نغمات مختلفة؟ هل نعيش بالفعل على سطح غشاء كوني ما يقع في أبعاد أعلى؟.. سنرى

أما الإشارة السالبة هنا فتوضع لأننا نتحدث عن "الفارق" بين حدثين في الزمن والمسافة، لا تضع انتباهًا لتلك النقطة الآن، نحن أمام صيغة فيثاغورسية غاية في البساطة لكنها في النسبية العامة تعبر عن معيار غاية في الأهميّة يسمى الفاصل الزماني المكاني (Space-Time interval)، لكي نفهم أكثر دعنا نتصور أننا نقف الآن أمام مصباح يدوي يطلق إشارةً كل 9 ثوان، بما أننا لا نتحرك فإن القِيَم x وy و z المعبرة عن الاتجاهات الثلاثة في الفضاء ثلاثي البُعد سوف تكون صِفراً، فالمسافة لا تتغير، وتكون كل القيمة الزمنية في الخانة (2C2t) ، حيث تمثِّل C سرعة الضوء وt للتعبير عن الزمن (time).

 

أما إذا كنّا نتحرك بتسعة أعشار سرعة الضوء فإن الأمر يختلف، لأننا سنملأ القيم الثلاثة بأرقام تتعلق بموضعهم في الفضاء ثلاثيّ البُعد، فأنت أثناء القياس تحركتَ ربما للأمام x لكنك في أثناء ذلك مالت مركبتك لليسار قليلا y أعلى مستوى المصباح z، هنا تظهر فكرة الانكماش الزمني في النسبية الخاصة، فالقيمة A المربعة يجب أن تظل ثابتة، كما يعلمنا فيثاغورس، يعني ذلك أنه كلما ازدادت القيم x وy وz سوف نضطر للتقليل من القيمة (2C2t)، والتي تتضمن الزمن، بذلك يحدث الانكماش الزمني، ويعني ذلك أنه كلما ارتفع استثمارنا في المسافة قلَّ استثمارنا في الزمن، والعكس صحيح، وهذا هو جوهر نسبية أينشتاين.

 

حسنًا، الأمر ليس يسيرا على الفهم من المرة الأولى، ربما سوف تحتاج لإعادة تأمل الخطوات التي اتبَّعناها مرة أخرى، لكن المهم أننا نعرف الآن أن أفضل تمثيل ممكن لفكرة الأبعاد الأعلى يتعلق فقط بأداة واحدة، إنها الرياضيات، والتي يمكن لها تجتاز إدراكنا البديهي كبشر، والخوض في أبعاد متعددة، دون الحاجة لتخيُّل تلك الأبعاد، التي لا يمكن بالفعل تخيّلها، لكن يمكن للرياضيات الخوض فيها.

 

يعلِّمنا ذلك أن بعض التجريد قد يكون مهمَّاً لنتوصل للحقائق، قد نحتاج للتخلّي عمّا تحكيه لنا خيالاتنا وتتبع معادلة مجردة، سوف يفيدنا ذلك كثيرًا حينما نتحدث في عدة مقالات قادمة عن نظرية الأوتار، هل يمكن أن يكون الكون كاملا هو نتيجة لأوتار غيتار مشدودة تعزف نغمات مختلفة؟ هل نعيش بالفعل على سطح غشاء كوني ما يقع في أبعاد أعلى؟.. سنرى.

 

——————————————————————–

 

 

بني هذا المقال على دروس تلقاها الكاتب في مساق النسبية للدكتور: ليونارد ساسكيند، جامعة ستانفورد، ومساق Superstring Theory: The DNA of Reality  للبروفيسور: جيمس جيتس من سلسلة Great Courses

المصدر : الجزيرة