شعار قسم ميدان

هل حصلنا بالفعل على مادة سالبة الكتلة؟

midan - mass

"مع الكتلة السالبة، إذا دفعت شيئا ما للأمام فسوف يرتد للخلف!"

بهذه الكلمات يحاول مايكل فوربس الأستاذ المساعد في قسم الفيزياء والفلك بجامعة واشنطن1 (Washington State University) أن يشرح طبيعة الاكتشاف الذي توصل له فريق عمله قبل أيام قليلة، فقد أعلنت الجامعة عن تمكن فريق من باحثيها، وباحثي جامعتي شنغهاي -الصين- و معهد أوكيناوا للعلوم والتكنولوجيا (OIST) -اليابان- وبقيادة البروفيسير بيتر إنجلز (Peter Engels) أستاذ الفيزياء والفلك، من التحصّل لأول مرة في التاريخ على مائع فائق سالب الكتلة، نُشرت النتائج بورقة بحثير في دورية (Physical Review Letters) المرموقة2، وتم دعم هذا البحث من قبل جامعة واشنطن والمؤسسة الوطنية للعلوم.

إن إصطلاح "الكتلة السالبة" هو بالفعل عجيب بقدر ما يعطيه من انطباع فور سماعه، فهو كتلة بالفعل، لكنها تتخذ إشارة سالبة، يشبه الأمر -ليس تحديدا لكنه يشبه- أنت تقول أن كتلة شيء ما هي "سالب 5 كيلوجرام"، أعي جيدًا أن ذلك شيء صعب الفهم، فما يعرفه الكثيرون عن الكتلة أنها مقدار ما يحتوي الجسم من مادة، كيف لنا إذن أن نتخيّل وجود مادة سالبة الكتلة؟


الروبيديوم المرتد عن جدار وهمي

قبل اكتشاف فريق جامعة واشنطن، إذا تم تأكيده، كانت "الكتلة السالبة" هي نتاج رياضياتي افتراضي للمعادلات فقط، يُحتمل3 وجودها  فيزيائيًا لكننا لم نرصدها في أي مكان بالكون، يُمكن أن توجد كتلة موجبة وسالبة بالضبط كما أن هناك شحنات موجبة وسالبة، لكن الشحنة السالبة هي شيء نتقبل وجوده ونفهمه بدرجة ما، أما بالنسبة للكتلة السالبة فالأمر يحتاج لبعض التأمل في قانون نيوتن الثاني، والذي يهتم بما نسميه "الكتلة القصورية" (Inertial mass)، لنتعلم الآن بعض الفيزياء الأساسية.

تعني الكتلة القصورية مقاومة الجسم، أي جسم في وضع ما، لتغيير هذا الوضع. لنفهم هذا التعريف المعقد دعنا نفترض مثلا أن هناك مكعب خشبي يزن 70 كيلوجرام موجود الآن على الأرض ونطلب منك تحريكه، سوف تحتاج لبذل بعض من الجهد لكي تنقله من حالة السكون لحالة الحركة، هنا يقال -حينما يتحرك المكعب من السرعة "صفر" في حالة السكون إلى أية سرعه ترغب بها – أنه (تسارع Accelerated). لو كان هذا المكعب ذا كتلة "صفر" لما احتجت أي جهد لجعله يتسارع، كذلك كلما ازدادت كتلة المكعب ازداد احتياجك لبذل طاقة أكبر لجعله يتسارع، من هنا يمكن القول أن الكتلة هي "مقاومة الجسم للتسارع"، أو يمكن القول أنها طريقة الطبيعة في إخبارك أن تقف في مكانك.
 

في حالة الكتلة العادية حينما تبذل ما يكفي للجهد سوف تحركها في اتجاه الدفع (أي لليمين)، أما في حالة الكتلة السالبة فالمفترض إنها ستتحرك ضد اتجاه الدفع (أي لليسار)(مواقع التواصل)
في حالة الكتلة العادية حينما تبذل ما يكفي للجهد سوف تحركها في اتجاه الدفع (أي لليمين)، أما في حالة الكتلة السالبة فالمفترض إنها ستتحرك ضد اتجاه الدفع (أي لليسار)(مواقع التواصل)

دعنا الآن نفترض جدلا أن هذا المكعب "سالب الكتلة"، يقول قانون نيوتن الثاني أن القوة التي تبذلها تساوي الكتلة التي تنوي أن تحركها مضروبة في العجلة -التسارع كما شرحنا منذ قليل-، إذا وضعنا للكتلة في المعادلة قيمة سالبة ثم حاولنا أن نحصل على قيمة التسارع فسوف يكون هو الآخر سالب القيمة، ويعني ذلك أنه سوف يكون في عكس اتجاه الدفع، فإذا قمت بدفع الصندوق سالب الكتلة للأمام فسوف يتحرك للخلف!، كان ذلك السلوك العجيب، هو ما دفع بالبعض لتصور أنه لا توجد كتلبة سالبة في الأساس، إذ كيف يمكن لي حينما أدفع كرة بيلياردو للأمام أن ترجع هي للخلف؟ لكن الفريق البحثي هنا حصل بالفعل على حركة ضد اتجاه الدفع.

تم ذلك عبر استخدام فريق الباحثين حزمة من أشعة ليزر لإبطاء حركة مجموعة من ذرات الروبيديوم (Rubidium) فيتسبب ذلك في درجة برودة غاية في القسوة، جزء طفيف فوق الصفر المطلق أي سالب 273 مئوية، لأن سبب حرارة الذرات هو حركتها. هنا نحصل على حالة من المادة تسمى "تكاثف بوز-أينشتين" (Bose-Einstein condensate)، وكان كل من ساتيندرا بوز وألبرت أينشتاين قد تنبئا4 أنه مع خفض حرارة ذرات الغاز لتلك الدرجة فإن الخواص الكمومية للمادة تصبح واضحة على المستوى الماكروسكوبي، فتتصرف هنا كموجات.

يقوم هذا الشعاع بمحاصرة تلك المجموعة من الذرات في نطاق ضيق للغاية بعرض مائة ميكرون فقط -عُشر ملليمتر- فيتسبب ذلك في خلق ما نسميه "مائع فائق" (Super fluid) تنسجم فيه حركة الذرات كأنما هي أوركسترا تعمل معا. بعد ذلك -ولخلق الكتلة السالبة- يعرّض الباحثون تلك الذرات لمجموعة من حزم الليزر التي تدفعها للأمام وللخلف فيتغير لفّها (Spin)، ويضطرها ذلك للاندفاع بسرعة عالية خارج هذا النطاق المحدد، حينما تُدفع ذرات الروبيديوم بالليزر فإنها ترتد للوراء وليس للأمام كما هو متوقع، فيبدو الأمر -بتعبير فوربس للنشرة التي أصدرتها5 الجامعة على موقعها فور الكشف- كأنها تصطدم بجدار وهمي وتعود للخلف، هنا تتصرف المادة كأنما اكتسبت كتلة سالبة.
 

حركة الهروب للأبد!

undefined

في الحقيقة تمتلئ جعبة تلك الخاصية الغريبة للمادة بالعديد من العجائب، دعنا هنا نتعرف على مفهوم آخر للكتلة، ويسمى الكتلة الجذبوية (Gravitational mass)، وهي ترتبط بقانون نيوتن للجاذبية والذي نعرفه من المرحلة الإعدادية، حيث أن مقدار جذب جسم ما لآخر يتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيا مع مربع المسافة بينهما، لكل جسم ذا كتلة موجبة إذا مجال جذبوي يحيط به ويجذب إليه أي جسم آخر B ويتأثر بجذب هذا الجسم الآخر، لكن ماذا ان كان أحد هذين الجسمين أو كلاهما يحمل كتلة سالبة؟
 

هنا تبدأ الأعاجيب في الظهور، فالجسم سالب الكتلة له مجال جذبوي سالب، أي طارد وليس جاذب، لنتصور مثلًا أن هناك جسمان سالبا الكتلة يقتربان من بعضهما البعض، في حالة جسمين موجبي الكتلة فسوف يتجاذبا لأن كتلتهما لها نفس الإشارة، كذلك من المفترض أن يتجاذب جسمين سالبا الشحنة، لكن المشكلة أن الجذب قوة، وكما قلنا منذ قليل أن الكتلة السالبة تتسارع ضد اتجاه القوة، مما يعني أن الجسمين سوف يتحركا ضد اتجاه تلك القوة الجاذبة، أي أن يتنافرا.
 

لنفترض الآن أن تفاحة نيوتن كانت سالبة الكتلة، هل يعني ذلك أنها سوف تنطلق للفضاء بدلًا من السقوط على الأرض؟ لا، لم تفهم الفكرة بعد، سوف تقع التفاحة على الأرض بالضبط كأية تفاحة عادية، لأن كتلتها السالبة سوف تجعلها تتنافر مع كتلة الأرض الموجبة ويعني ذلك التنافر أنها سوف تتحرك ضد اتجاهه كما قلنا منذ قليل، فتضطر للوقوع إلى الأرض، سوف تدفع التفاحة الأرض للأمام لكن كتلة الأرض الضخمة سوف تمنع ذلك، حتى أنه لو تمكننا بطريقة ما من إطلاق رصاصة سالبة الكتلة إلى جدار ما فالمفترض أنه حينما تصطدم الرصاصة بالجدار ترتد عنه، لكنها سالبة الكتلة، لذلك سوف تتحرك ضد الارتداد لتغوص في الجدار مهما كانت مادته أو سمكه!

أما لو كانت هناك كتلتين بنفس القيمة لكن مع اختلاف الإشارات الموجبة والسالبة فسوف يكون الحال مختلفًا، دعنا نتأمل تلك الحالة فهي أكثر التعبيرات غرابة عما يمكن أن يتسبب فيه وجود كتل سالبة:
 

كتلتين أحدهما سالبة الكتلة والأخرى موجبة (مواقع التواصل)
كتلتين أحدهما سالبة الكتلة والأخرى موجبة (مواقع التواصل)

إذا كانت هناك كرتين متجاورتين بكتلة "5" كجم إلى اليمين و"-5″ كجم إلى اليسار في الفضاء، فإن هناك حالة تنافر بينهما، لكن هذا التنافر من المفترض يدفع الكتلة السالبة جهة اليسار، يعني ذلك أنها سوف تضطر للتسارع عكس اتجاه قوة التنافر، أي جهة اليمين، لكنها بذلك سوف تدفع الكرة الموجبة – عبر مجالها الجذبوي الطارد – للتحرك يمينا، فتتحرك بالفعل لليمين قليلا، فتقترب السالبة أكثر، لتدفع الموجبة لليمين من جديد، ثم تقترب أكثر.. وهكذا تستمر الحركة في التسارع لليمين دون توقف كأنما شخص ما يطارد آخر للأبد، حتى تقترب سرعة الجرمين من سرعة الضوء، فقط لأن أحدهما سالب الكتلة، تسمى تلك الحالة "حركة الهروب6″ (Runway Motion).
 

العلم كروائي واسع الخيال

دعنا هنا نوضح أن تلك الحالة لا تتضمن أي كسر لقانون حفظ الطاقة أو كمية الحركة، فالإشارات السالبة للكتلة تتسبب في إلغاء أثر الموجبة بشكل يصل بنا إلى النتيجة "صفر" فلا تحدث أي مشكلات، نقطة أخرى نحتاج أن نوضحها وهي خطأ شهير في الفهم، فالكتلة السالبة لا علاقة لها بالمادة المضادة (antimatter) والتي تعني مادة لها نفس الخواص عدا الشحنة فقط، فالإلكترون سالب الشحنة يقابله نسخه منه تدعى البوزيترون موجب الشحنة، لكن كلاهما موجب الكتلة، أما المادة التي نتحدث عنها فهي ذات كتلة سالبة.

يمكن أن تمتد تأثير تلك المادة سالبة الكتلة لكل النظريات التي نعرفها، النسبية ثم الكوانتم، فتعطي نتائج على نفس الدرجة من العجب في كل مرة، كأن يتأثر تكافؤ الكتلة والطاقة فيصبح الحصول على كتلة مقابلا للحصول على طاقة وليس العكس، أو كما يتصور جون ماري ساوري الرياضياتي الفرنسي الشهير7 أن عكس كتلة/طاقة المادة هو عكس لسهم الزمن!

الكتلة السالبة إذن هي خاصية للمادة، سلوك لها قد يبدو غريب وغير مألوف بالنسبة لنا في الحياة اليومية العادية حيث أغرب ما يمكن نقابله هو شخص لا يمتلك حسابًا على فيسبوك، لكن بالنسبة لعوالم ميكانيكا الكم فإن المادة تسلك طرقًا تبدو للوهلة الأولى كأنما هي فانتازيا روايات الخيال العلمي، ثم تأتي الفيزياء لتبرر كل ذلك ببُنى رياضياتية صارمة.
 

undefined

لازال باحثونا في حاجة للمزيد من التأكيدات على صحة هذا الادعاء الخطير خلال الفترة القادمة، سوف يتطلب ذلك كالعادة المزيد من التجارب في أماكن مختلفة والمزيد التقصي الشامل لكل الاحتمالات المتاحة، لكن ان تأكد ذلك في أية فرصة قريبة، فنحن أمام نافذة جديدة تماما قد انفتحت على أحد أعجب حقائق الكون، سوف تساعدنا تلك الخاصية العجيبة للمادة على دراسة وفهم ما يحدث في كيانات كونية غاية في التطرف، كالنجوم النيترونية، الثقوب السوداء، أو ربما الطاقة والمادة المظلمتين.
 

بل ربما، في المستقبل البعيد، ونحن هنا ننفصل قليلا عن الواقع، تساعدنا الكتلة السالبة في خلق تكنولوجيا جديدة تماما لكل شيء تقريبا، سوف تغير مفهومنا عن الهندسة المعمارية ككل، وسوف نبني مركبات فضائية تقوم بثني الزمكان أمامها ومده من خلفها فنتنقل بين أطراف المجرات في مدد قصيرة للغاية، أو حتى -ربما- عبر سبر أغوار ثقب دودي ما، نحن هنا أمام حلم أكبر من حجم روايات جول فيرن.
 

بالفعل، إن أجمل ما في العلم يا صديقي هو قدرته الدائمة -بدرجة عالية من الدقة والرصانة والإتقان- على مفاجأة عقولنا بما هو أغرب من الخيال، بشكل يدفعنا دائما للتأمل في ذواتنا قبل الكون الرحب، في معنى وجود كل ذلك، وللتساؤل -ربما- عما لازال يكمن هناك في جعبة ذلك الساحر العجيب!

المصدر : الجزيرة