شعار قسم ميدان

ألبرت مُحبا.. ثلاثة دروس إنسانية من حياة أينشتاين

ميدان - أينشتاين

لقد أتممت العام السادس عشر على هذا الكوكب بينما قد مرت خمسة أربعون عامًا على وفاة ألبرت آينشتاين في أبريل 1955. في تلك المرحلة، ومع الفارق الزمني الشديد، كان أينشتاين قد تحول لأكثر من فيزيائي بالنسبة لأمثالي الذين يتعرفون عليه للمرة الأولى، بل أصبح أسطورة ضخمة لا تعرف بين سطورها الحقيقي من المزيّف، تحول لعبقري فذ مكتمل السحر لا يخطئ أبدا ولا حاجة له في بذل أي جهد للحصول على ما يريد. في الحقيقة لم يحتج ألبرت لتلك المدة بعد وفاته ليكون في تلك الصورة أمام جمهوره، لقد تعامل معه الناس في حياته على أنه شيء متجاوز للطبيعة، حتى أن طفلة في المدرسة كتبت له خطابًا ذات مرة تقول فيه "هل أنت حقيقي؟".

 

على مدى سنين طويلة مرّت، كان الحديث عن عبقرية ألبرت هو تجارة رائجة، وفي نفس الوقت مدعاة للتأمل وللخروج بدرس جديد من هذا الشخص المميز، كان ألبرت أكثر فيزيائي العالم حظًا، فلقد امتلك ضدين طالما ابتعدا عن بعضهما البعض، العلم والشهرة، لذلك كانت تلك هي المرة الأولى التي تظهر فيها الفيزياء للعالم كشيء مميز، ممتع، يتسبب في الشهرة بالضبط كما يفعل التمثيل والغناء، من هنا فتح ألبرت آينشتاين بابا لمئات الآلاف من الطلبة لاتخاذ الفيزياء كمهنة أو حتى هواية.

 

في الإنترنت العربي تتحدث غالبية الموضوعات الألبرت آينشتانية عن حياة الرجل، وعن أعماله، لكن دعنا نترك ذلك جانبا، لقد تحدثنا بالفعل في عدة مقالات (1،2،3) سابقة عن دور النسبية في إعادة صياغة كل الفيزياء، العلم كله، ونظرتنا للواقع تحت أيدينا. حتى أنك لا تتمكن من دراسة أي شيء متعلق بالسماء في الأعلى أو الذرات في الأسفل إلا حينما تمر على معادلات النظريتين العامة والخاصة. لكن دعنا نترك ذلك كله جانبًا، فحكايات ألبرت آينشتاين كثيرة للغاية، لكننا سوف نختار من بينها ثلاثة فقط.

 

سيدي.. أنا بلا نقود

ألبرت كان على خطأ حينما تصور أنه يمكن لنا جمع كل من النسبية الكوانتم في بوتقة واحدة، وأن لكل منهما نمط مفاهيمي مختلف (مواقع التواصل)
ألبرت كان على خطأ حينما تصور أنه يمكن لنا جمع كل من النسبية الكوانتم في بوتقة واحدة، وأن لكل منهما نمط مفاهيمي مختلف (مواقع التواصل)

ربما يظن البعض أن ألبرت انطلق للشهرة مرة واحدة، لكن بحثه الأول عن الخاصية الشعرية لم يجد أي قبول، في فترة كان فيها عاطلا عن العمل لا يجد حتى ما يكفي لإتمام أوراق الجنسية السويسرية بعد تخليه عن الألمانية، راسل آينشتاين جميع أساتذة الفيزياء في كل أوروبا حتى أنه أخبر "ماريتش" -زوجته- أنه(4) "سرعان ما سأجد أنني قد شرّفت بعرضي كل أساتذة الفيزياء من بحر الشمال حتى الطرف الجنوبي من إيطاليا".

 

هنا تطور الأمر قليلا، فبعد أن كانت تلك الخطابات للبحث عن عمل أصبحت فما بعد حفنة من التوسلات، حيث يذكر أن ألبرت آينشتاين راسل "فيلهلم أوستفالد" أستاذ الكيمياء بجامعة لايبتسيج للعمل معه كفيزيائي رياضي قائلا في خاتمة رسالته بوضوح: "أنا بلا نقود، ولن يساعدني على مواصلة دراستي إلا وظيفة كتلك"، ثم بعد أسبوعين حينما لم يتلق ردا يرسل ألبرت لـ "أوستفالد" نفس الرسالة مضيفا لها أنه "لست متأكدا إن كنت قد كتبت عنواني في الرسالة السابقة"، لكنه لم يتلق أي رد أيضا.

 

هل يتوقف الأمر هنا؟ في الحقيقة لا، بعد كل ذلك الإهمال نصل للمرحلة التي يشفق فيها والده عليه فيقوم هو الآخر دون علم ابنه بإرسال خطاب إلى "أوستفالد" يستعطفه ويطلب منه أن يجد لابنه وظيفة معه قائلا في مقدمة رسالته "أرجو أن تصفح عن أب بلغت به الجرأة أن يستنجد بك أيها الأستاذ المحترم لمصلحة ابنه" مضيفًا أن ألبرت هو شاب مجتهد والجميع يمتدح عمله ويحتاج لتلك الوظيفة للتفريج عنه، لكن "أوستفالد" -للمرة الثالثة- لم يرد.

 

حسنا، كان ذلك لاذعا للغاية، في مواقف كتلك يلجأ الباحث الشاب -ربما- للركون جانبا والارتكاء على الإحباط وإهمال ما كان ينوي له ثم تحميل عبء الفشل إلى القدر وغباء الآخرين، لكن ألبرت آينشتاين لم يفعل ذلك. في الحقيقة تتجلى هنا نقطة أعتقد أنها ركيزة أساسية لعبقرية آينشتاين، نقطة تتلخص في رسالته لصديقه مارسيل جروسمان -الذي سيتمكن من توفير وظيفة في مكتب براءات اختراع لصديقه بعد كل ذلك الإحباط- ليقول فيها: "لم أترك حجرًا إلا وقلبته، ولم أتخل عن روح المرح، فقد خلق الله الحمار وأعطاه القدرة على التحمّل".

 

في الحقيقة لا أجد أفضل من ذلك الاقتباس الأينشتاني البديع لوصف رحلة كتلك، فالأمر لا يتطلب فقط أن تبذل كل ما يمكن من الجهد والوقت والصبر.. إلخ، وكل تلك الكلمات التي تُستخدم في أحاديثنا المعتادة أثناء ظروف كتلك، لكنه يتطلب أيضا أن تفعل ذلك بدرجة من الرضا، الذي يتمثل هنا في جملة آينشتاين -التي تمثل "المكوّن السحري" لرحلته قاطبة- القائلة "لم أتخل عن روح المرح".

 

ألبرت هنا يقبل بالواقع، ويعرف أنه لا سبيل سهل للوصول، فالحياة ليست عادلة، لذلك سوف يتعامل بطبيعته، ويستمر في طريقه، بلا حاجة لتلك الاكتئابات المزمنة التي لا أهمية لها، وكأن "المرح" أصبح شرطا أساسيَا، كأنه يقول في نفسه: "لا يهم، فقط دعنا ننطلق للأمام ونرى..". هنا دعنا نذكر أن "أوستفالد"، ذلك الذي رفض الرد على رسائلنا الثلاثة، سوف يكون هو أوّل من يرشح ألبرت آينشتاين لجائزة نوبل بعدها بسنواتٍ قليلة.

 

من منكم سوف يكون آينشتاين القادم؟

لقد كان ألبرت آينشتاين أقرب ما يكون لشاعر ينسج قصيدة من وحي خياله، بمعنى أنه كان دائما يصر على الزج بما يؤمن به، ما يعتقد أنه الصواب، في كل شيء
لقد كان ألبرت آينشتاين أقرب ما يكون لشاعر ينسج قصيدة من وحي خياله، بمعنى أنه كان دائما يصر على الزج بما يؤمن به، ما يعتقد أنه الصواب، في كل شيء

قبل جملته الشهيرة عن الله والنرد يقول ألبرت "أن(5) ميكانيكا الكم مؤثرة وعميقة جدا، لكن صوتا بداخلي يخبرني بأنها ليست ضالتنا المنشودة، وإن كانت تكشف لنا عن الكثير والكثير فأنا على قناعة تحت كل الظروف أن الرب لا يلعب النرد"، نعم، إنه هذا الصوت الذي طالما حدا بألبرت إلى أعظم أفكاره، وأعظم سقطاته أيضًا، دعنا نتأمل تلك النقطة قليلا فربما نخرج منها بصيد ثمين.

 

لقد كان ألبرت آينشتاين أقرب ما يكون لشاعر ينسج قصيدة من وحي خياله، بمعنى أنه كان دائما يصر على الزج بما يؤمن به، ما يعتقد أنه الصواب، في كل شيء، حتى معادلاته الفيزيائية. لنتأمل -مثًلا- موقف ألبرت آينشتاين من الميكانيك الكمومي، فمبدأ عدم التأكد ينص على أنه لا يمكن قياس زخم وموضوع الإلكترون معا في نفس الوقت، لم تكن تلك مشكلة ذات علاقة بنقص في قدرتنا على القياس، لكن جوهر الكون ذاته يأبى أن يعرّف الإلكترون بموضعه وزخمه في نفس الوقت.

 

هنا يتدخل ألبرت آينشتاين الذي كان يرى أن الله يتمثّل في المعادلات التي تبني الكون ليرفض كل ذلك الهراء، فكيف يمكن أن يكون الإله نفسه -المعادلات المحركة للكون- غير قادر على رؤية المستقبل؟ هنا يدمج ألبرت بأكثر قناعاته قداسة في فزيائه، لكن في النهاية يتضح أن ألبرت كان على خطأ حينما تصور أنه يمكن لنا جمع كل من النسبية الكوانتم في بوتقة واحدة، وأن لكل منهما نمط مفاهيمي مختلف، دعنا -لتحقيق فهم أفضل لتلك النقطة- نتعرف على مشكلة أخرى شهيرة.

العلم العظيم والعلماء العظام شأنهم شأن الشعراء كثيرا ما يستلهمون حدساً غير عقلانيا، وكذلك علماء الرياضيات العظام (مواقع التواصل )
العلم العظيم والعلماء العظام شأنهم شأن الشعراء كثيرا ما يستلهمون حدساً غير عقلانيا، وكذلك علماء الرياضيات العظام (مواقع التواصل )

حينما حاول آينشتاين تطبيق معادلات النسبية العامة لتشمل الكون كله اكتشف أن ذلك يؤدي لكون غير مستقر، أي أن الكون بتلك الطريقة سوف يتمدد أو ينكمش، لكنه لن يبقى على حالة ثابتة، هنا كان تصرفه مميزا ويستحق التأمل، فلقد أهمل آينشتاين نتائج المعادلات وقام بضم ما سوف نسميه فيما بعد "الثابت الكوني" لها بحيث يعكس الجاذبية في الزمكان الكوني فلا ينهار على ذاته أو يتمدد ويبقى مستقرًا، لقد تراجع ألبرت بعد ذلك عن فرضيته تلك سنة 1929 بعدما تأكد لنا أن الكون يتمدد على يد إدوين هابل، لكن ابتكارها كان في المقام الأول هو أفضل ما يمكن أن يعطينا صورة عن كيفية توصل ألبرت لأفكاره في المقال الأول.

 

رغم أن سقطتي ألبرت الأشهر كانتا بسبب زجه لذاته بين المعادلات، إلا أن نسبيتيه كذلك ظهرتا لنفس السبب، حيث يحكي لنا أن النسبية العامة ظلّت قابعة في ذهنه لمدة عشر سنوات "كقصيدة شعر" ثم خرجت للنور بعدما وجد لها فيزياء تناسبها، يعني ذلك أنه يضع إيمانه بخيالاته الخاصة، فلسفته، في المقام الأول، حتى أن دينس براين(6) يحكي عن حوار دار بين آينشتاين والمهندس جوستاف فيررير في أحد المقاهي حينما وضع ألبرت خمسة أعواد كبريت على الطاولة قائلا:

"ما هو الطول الكلّي للأعواد حينما نعلم أن طول الواحد منها هو إنشين ونصف؟" هنا يرد فيررير: "اثنتا عشر ونصف إنش"، فيقول ألبرت: "ذلك هو ما تقوله، لكني أشك فيه بدرجة كبيرة، فأنا لا أؤمن بالرياضيات".

بالطبع لا يقصد ألبرت هنا أن الرياضيات خطأ، لكنه بشكل أكثر عمقا يقول أن العملية الرياضية تتم وفقا لاختيارك -في البداية- لمجموعة من البديهيات الهندسية والتي قد لا تكون بديهيات، هنا نندفع لنفهم بشكل أكثر دقة قناعة ألبرت آينشتاين أن لفلسفتك الشخصية دور في فهم هذا الواقع الذي نعيشه في هذا الكون مترامي الأطراف، رؤيتك الخاصة، حدسك، تأملاتك، ألعابك الفكرية التخيلية الخاصة، لقد أعطى لذلك السلطة -حتى- فوق الرياضيات نفسها، بل لاحظ أنه لا يقول "أنا لا أثق في الرياضيات"، لكنه فقط يقول "أنا لا أؤمن بالرياضيات"، فهو يؤمن بأنه لكي تحقق إنجازًا ما في فهم الواقع يجب أن تتجاوز كل تلك الأدوات المطروحة أمامك فقط لتتأمل العالم بذاتك دون شيء آخر، يتوافق ذلك مع اقتباس شهير لكارل بوبر(7):

"ينبغي أن يتضح أمامنا أنّ موضوعية التقدم العلمي وعقلانيته لا ترجعان إلى الموضوعية الشخصية وعقلانية العالِم. العلم العظيم والعلماء العظام شأنهم شأن الشعراء كثيرا ما يستلهمون حدساً غير عقلانيا، وكذلك علماء الرياضيات العظام. وكما أشار "بوانكاريه وهادامارد"، قد يُكتشف البرهان الرياضي بمحاولات لا واعية، مسترشدة بإلهام ذي طبيعة جمالية حاسمة، بدلا من أن يُكتشف بتفكير عقلاني، هذا حق وعلى قدر من الأهمية. ولكن من الواضح أنه لا يفضي بنا إلى نتيجة مؤداها أن البرهان الرياضي لا عقلاني. وفي كل حال لابد أن يصمد البرهان الرياضي في وجه المناقشة النقدية، يصمد في فحصه من قِبل علماء الرياضيات المنافسين. ولسوف يدفع هذا بالمغامر الرياضياتي أن يخضع النتائج التي توصل إليها بصورة لا واعية أو حدسية لمجهر التمحيص العقلاني".

إذن، حينما نسأل "من سوف يكون آينشتاين القادم؟" فنحن نسأل السؤال الخاطئ، لأن آينشتاين القادم لو تعلّم من آينشتاين أن يتأمل العالم بطريقته الخاصة، بدون الحاجة لاتباع التعاليم المرفقة في الكتب ومقولات الباحثين الآخرين، لن يكون ألبرت آينشتاين، بل سوف يكون شخص آخر يحاول أن يرى الكون كاملا، بطريقته هو، وليس بطريقة ألبرت، مهما كانت ساحرة. الطريق بالفعل غير مضمون، قد تحدث سقطات نتيجة لذلك، لكن، ما المضمون في هذا الكون؟

 

آينشتاين واقعا في الحب

آينشتاين و ميليفيا ماريتش ( مواقع التواصل)
آينشتاين و ميليفيا ماريتش ( مواقع التواصل)

ليس هناك ما هو أكثر من حكايات آينشتاين العاشق، بعد 1919 حينما تأكدت نتائج معادلات في النسبية عبر تجربة "أرثر إيدنجتون" أصبح آينشتاين بين ليلة وضحاها أشهر أهل الكوكب، لم يذهب إلى مكان إلا وأحاطته الفتيات الراغبات في التعرف على هذا الرجل الوقور ذي الشعر الهائج والشنب -الذي كان بمعايير وقتها- الوسيم، يرى الجميع أن حكمة ذلك الرجل لابد أن تتجلى في كل شيء، بالتأكيد هو هذا الفيلسوف المثالي مكتمل الأركان والذي لا يخطئ أبدأ، لكن ذلك غير صحيح.

 

هناك حكايتان بهذا الصدد، تتعلق الأولى(8) بعلاقة آينشتاين الأولى مع ماري فلينتر والتي التقى بها حينما كان يدرس في مدينة آرو، كانت علاقة مشبوبة بالعواطف الجياشة، لكن حينما انتقل ألبرت فيما بعد لزيورخ الجامحة بدأ يشعر بالملل ويتعامل مع تلك العلاقة على أنها أقرب ما يكون لـ "نوبة مراهقة"، هنا لم يكلف ألبرت نفسه بشرح الوضع لماري، لقد كان يرسل لها ملابسه في البريد لكي تقوم بغسلها وإعادتها له مع خطاب منها، وطالما فتشّت بين ملابسه على خطاب لها لكنها لم تجد أي شيء، حاولت قدر الإمكان لفت انتباهه من جديد فما كان منه في النهاية إلا إرسال خطاب أخير أقل حميمية لينهي به العلاقة بينما ترد هي:

 

"حبيبي، أنا لا أفهم مقطعا من خطابك بشكل كامل، لقد كتبت أنك لم تعد ترغب في مراسلتي، ولكن لماذا يا حبيب قلبي؟ لابد أنك مستاء منّي تماما حتى تكتب بهذه الفظاظة" ثم -رغبة منها في أن يتحدثا عن ذلك، وتعود الأمور لطريقتها القديمة أضافت بسخرية "ولكن مهلا، فسوف تلقى بعض التعنيف حينما تعود للبيت"، لكن آينشتاين لم يهتم.. ولم يتجاوب، بل أرسل في نهاية الأمر خطابا -ليس لها- ولكن لوالدتها يخبرها فيه أن الأمر انتهى.

 

الحكاية الأخرى لها علاقة بميليفيا ماريتش، التي التقاها ألبرت في المعهد الفني وكان أهم ما يميزها هو ذلك اللمعان المتوهج لأفكارها وحبها للفيزياء النظرية، وكانت الخطابات بينها وبين ألبرت في البداية ذات علاقة بتبادل فكري على مستوى غاية في الرقي تحول فيما بعد ليصبح الحب الأكبر -ربما- في حياة ألبرت آينشتاين، لكن حينما حملت منه ماريتش سافرت لأهلها حتى لا يعرف أقارب آينشتاين بتلك الفعلة، فقد كان ذلك مشينا بالنسبة لهم.

 

لم يكلف آينشتاين نفسه، طوال فترة الحمل(9)، أن يذهب مرة واحدة لزيارة ميليفيا، وفي كل خطاب كان يدّعي عدم قدرته على الحصول على المال من أجل الزيارة فترد أن يبحث عن حجه أخرى، فيمكن لها أن تبعث له بمبلغ -وقد كان مبلغا تافها يمكن لألبرت بسهولة تأمينه- لكي يزورها، لكنه لم يزورها طوال الأشهر التسعة للحمل، بل لم يشجعها حتى في امتحاناتها وضاعت فرصتها أن تصبح عالمة فيزياء.

 

كانت "ميليفيا" التي خاطبها ألبرت شاكيا من غباء أهله، وضيق أفق البشر من حوله، ومشكلاته الخاصة مع الفيزياء ومع البحث عن عمل، "ميليفيا" التي شاطرها أكثر فترات عمره احتياجا للدعم، هي أيضا التي تركها لتفقد دراستها، وتذهب إلى أهلها بفشل دراسي وحمل خارج إطار الزواج، ثم تلد فلا نجد دليلا على أن آينشتاين قد التقى بابنته منها ولو لمرة واحده، متجنبا الحديث عنها على الملأ، ثم تركها للتبني، إنها مليفيا التي قال عنها لإيلزا -ابنة عمه وزوجته فيما بعد- أنها "كائنة غير ودودة تفتقد لحس المرح والفرحة، خالية من أي معنى للحياة، تقوض فرحة الآخرين.." لينهي حواره بأن لها "قبحًا استثنائيا".

آينشتاين ونيلز بوهر (مواقع التواصل)
آينشتاين ونيلز بوهر (مواقع التواصل)

كون آينشتاين عبقريا لا يعني أنه سوف يكون مثاليا في كل شيء، نحن نميل إلى تقديس الأشخاص المميزين بربط كل الصفات الجيّدة فيهم، فهم دائما ظرفاء، ودودين، حكماء، متفهمين، أقوياء، ويحبوننا رغم كل شيء. لكن ذلك غير صحيح، تلك أحلامك الوردية فقط يا صديقي، وغالبا ما سيتسبب لك في صدمة مع أول انكشاف للحقائق عن شكل تعاملهم مع البشر.

 

إذا كنت تظن أن ألبرت سوف يعاملك برفق حينما تذهب لتعرض عليه فكرة ما خاصة بك فأنت ربما خاطئ، لقد كان آينشتاين لاذعا في ألفاظه، وقحا في تعبيراته، وربما -ربما- بدلا من الرفق الذي تتمناه كان ليتخذ من تلك الأفكار -إن كانت متواضعة- مدعاة للسخرية بين كل الجالسين في المكان، يجب دائما أن نقوم بالتفريق بين إنجازات شخص ما، وشخصه.

 

كان ألبرت عظيما لاشك، كان كل شيء في جسد واحد، ساعده جموحه الفظ، وشجاعته الفكرية منقطعة النظير، على سبر أغوار الكون كاملًا بينما يجلس على مكتبه الخشبي، وكان آخر العباقرة في الفيزياء التصاقا بذاته، اعتدادا بأفكاره الخاصة، جاءت بعده مدرسة "اسكت واحسب" (Shut up and calculate) التي تزعمها روّاد ميكانيكا الكم بداية من نيلز بوهر حتى فاينمن والتي تجبرك على وضع ذاتك جانبا والانحياز -فقط – لنتائج المعادلات التي تقع أمام عينيك، كان ذلك انتقالا ثوريا لفكرة العبقرية في عوالم الفيزياء، لكنه -بشكل أو بآخر- يُفقدنا ذواتنا.

المصدر : الجزيرة