شعار قسم ميدان

القابلية للتكذيب

midan - reality
يرتكز "كارل ريموند بوبر" على وجهة نظر تطورية1 حينما يصوغ فلسفته العلمية، فالمقاربة البيولوجية هنا تزودنا بطريقة مناسبة لتقديم فكرتين أساسيتين عن تطور العلم وهما: التوجيه من داخل البنية، والانتخاب بين النظريات أو الفروض.

من وجهة النظر تلك، لا نستطيع توقع مستقبل محدد أو هدف نهائي للعلم، كما أن الحديث عن "حقيقة" ما؛ يصبح أشبه ما يكون للإمساك بالماء، فالمعرفة كلها فرضيات متتالية، وذلك لأن العلم يتقدم للأمام عبر عملية مستمرة من تفنيد الادعاءات؛ سواء كانت حدوساً جديدة أو نظريات قائمة بالفعل، بالضبط كما يتقدم التطور للأمام عبر الانتخاب: نبذ التكيفات الرديئة واستمرار الجيدة.

في البيولوجيا يبدأ التطور من مشكلة تتعلق بتغير بيئي أو نقص في الموارد أو شيء آخر، يدفع ذلك لنوع من التنافس بين الأفراد ثم ينجح الأفضل بينهم في إقامة عملية تزاوج آمنة، فيتمكن هو -دون غيره- من تمرير صفاته الجينية، ثم تواجه الأفراد الجديدة مشكلات جديدة كنتيجة لعلاقاتها الجديدة مع البيئة الجديدة، فتظهر ضغوط جديدة، وهكذا. يمكن النظر ناحية تقدم العلم بنفس الطريقة؛ حيث نبدأ من مشكلة ما، ثم -عبر المحاولة والخطأ- نبدأ في حلها، نفترض حدوسا، ثم نفندها، وتظهر بعض النظريات أقدر من الأخرى على تحمل التمحيص العقلاني، هنا تظهر مشكلات جديدة من وراء تلك المعارف الجديدة، وتستمر العملية.

هنا يرى "بوبر" أن أفضل طريقة لتقييم مدى تقدمنا هي مقارنة مشكلاتنا القديمة بالجديدة، فإذا كان التقدم الذي أحرزناه عظيما سوف نجد مشكلات من نوعية جديدة أكثر عمقا، أي أننا كلما ازددنا علما.. ازددنا جهلا، هنا يظهر "سقراط" ملوحا لنا من شرفة "بوبر". فلسفة "بوبر" -إذن- تتمحور حول أداة الانتخاب بين الفروض المتنافسة، والتي هي السبب الرئيس في الانتقال من نقطة إلى التي تليها على خط تطور العلم، تلك الأداة هي معيار القابلية للتكذيب "Falsifiability".

يرتكز البروفيسور النمساوي البريطاني الراحل
يرتكز البروفيسور النمساوي البريطاني الراحل "كارل بوبر" على وجهة نظر تطورية عندما يصوغ فلسفته العلمية. (مواقع التواصل الإجتماعي)


يبدأ "بوبر" بأن يطلب منك مهمة بسيطة: "هل يمكن أن تلاحظ؟"، الآن سوف يكون أول الطارقين لباب دماغك هو أن تسأله: "ماذا ألاحظ؟"، هنا يكسب "كارل بوبر" رهانه ضد "فرانسيس بيكون"؛ حيث افترض "بيكون" أن المعرفة تبدأ بالملاحظة، بينما رأى "بوبر" أنها تبدأ من النظرية، فحينما طلب منك أن "تلاحظ" منذ قليل تعجبت من سؤاله وطلبت منه أن يحدد لك ما يمكن أن تلاحظه أولا، لم تستطع -إذن- أن تبدأ فورا في الملاحظة من دون فكرة سابقة للملاحظة. إذن، إن كانت ملاحظتنا محملة مسبقا بالنظرية؛ فهذا يعني أن تجاربنا -مهما بدت للوهلة الأولى مصممة بشكل مثالي- يمكن أن تكون هي الأخرى محملة بنظرياتنا.

كان ذلك -بشكل أو بآخر- هو ما شغل2 بال "كارل بوبر"؛ حيث لم يكن ما شغل باله هو "متى نقبل بنظرية ما؟" أو "متى يمكن أن تكون النظرية صحيحة؟"، ولكن "متى نقول إن نظرية ما علمية؟"، بالطبع كان المجتمع العلمي والفلسفي متفقا وقتها على أن قابلية نظرية ما للتجريب هو المعيار الأساسي للتفريق بين العلم واللاعلم، متخذا منهجا استقرائيا، يبدأ بالتجربة، ثم يصعد منها لبناء النظرية، لكن "بوبر" لم يقتنع بذلك، فنحن نتمكن دائما من بناء تجارب، ملاحظات، يمكن لها أن تؤكد أن التنجيم -مثلا- على صواب، فهناك العمليات الحسابية وتاريخ المشاهير وأشخاص يمكنهم أن يخبروك أن ما يقوله المنجم يحدث معهم يوميا، أنت نفسك قد تجد في أخبار الأبراج ما يؤكد انطباق توقعاتها على حالك.

خذ مثلا نظريتي "ألفريد أدلر" و"سيجموند فرويد" في تفسير انفعالاتنا كبشر وحالاتنا العصابية، أونظريتي "كارل ماركس" و"ماكس فيبر" في تفسير تطور المجتمعات، كلها نظريات ناجحة وتحقق قدرا لا بأس به من التحقق التجريبي، في نفس الوقت لا نستطيع أن نجد ما يميز ذلك عن النجاح التجريبي الذي حققته نسبية "أينشتين" العامة على يد "أرثر إيدنجتون" سنة 1919؛ حيث كانت مهمة "إيدنجتون" هي التأكد من مواقع النجوم في نفس الكوكبة قبل وأثناء مرور الشمس بها خلال كسوف كلي، هنا يمكن أن نسأل سؤال "كارل بوبر" الهام: ما الذي كنّا لنتوقعه كنتيجة لتجربة كتلك قبل ظهور النسبية العامة؟

لو كانت النسبية العامة على خطأ، لما تغيرت أماكن النجوم قبل وبعد وجود الشمس بينها.
لو كانت النسبية العامة على خطأ، لما تغيرت أماكن النجوم قبل وبعد وجود الشمس بينها.


بالضبط، لا شيء، كان من المفترض ألا تتغير مواقع النجوم بوجود الشمس في ذلك المكان، كان ذلك هو "الطبيعي"، وهذا ما يعني أن نظرية "أينشتين" جازفت بوضع توقعات يمكن تكذيبها بتجربة محددة، ليس ذلك فقط، كانت النسبية العامة لأينشتين بالنسبة لـ "كارل بوبر" هي النموذج المثالي للقابيلة للتكذيب، فنحن أمام تجربة تضمنت توقعات محفوفة بالمخاطر، ما الذي يمكن له أن يختلف بين تجربة كتلك ونظريتي "أدلر" و"فرويد" في علم النفس؟

لنفترض أن لدينا حالتين عصابيتين3 غاية في الاختلاف عن بعضهما البعض، نريد تحليلهما بآليات "فرويد" و"يونج" لنقل مثلا إن رجلا ما قرر الإلقاء بطفل في الماء وقتله، وآخر قرر التضحية بذاته من أجل إنقاذ هذا الطفل من الغرق، هنا سوف ينطلق "فرويد" قائلا في الحالة الأولى إن هذا الرجل يعاني من كبت تسببت فيه -ربما- عقدة "أوديب" في طفولته فدفعته لقتل الطفل، أما الرجل الثاني فهو نفس الرجل ذي نفس المشكلات في الطفولة؛ لكنه تعامل مع المشكلة بطريقة التعلية النفسية، أي أنه احتال على ذاته فعبر عن رغباته  بأسلوب يقبله المجتمع كأن يعمل ذو الميول العدوانية ملاكما أو جنديا.

أما "أدلر" فسوف يقول في الحالة الأولى إن هذا الرجل يعاني من مركب نقص يدفعه لأن يثبت لنفسه أنه قادر على ارتكاب جريمة كتلك، أما الآخر فقد عانى من نفس مركب النقص؛ لكنه يحاول أن يثبت لنفسه أنه قادر على إنقاذ الطفل. أينما وكيفما كانت الحالة موضع الدراسة، فكل من "أدلر" و"فرويد" يستطيعان دائما تحليلها؛ يستطيعان أن يكونا دائما على صواب.

يجري نفس المثال على "ماركس" و"فيبر" فكل منهما يمتلك من الأدوات ما يمكنه من تحليل التاريخ بطريقة مختلفة، فـ"ماركس" يراه صراعا بين الطبقات و"فيبر" يراه تطورا لآليات الهيمنة، ويمكن لكل منهما جمع كل التأييد الممكن من بين آلاف الأدلة التاريخية؛ بينما لم يحاول أي منهما البحث عن دليل واحد يكذب تلك الافتراضات، أو حتى صياغة جملة مبدئية تقول: "إن ظهر هذا الدليل.. فأنا على خطأ"، هذا ما فعله "أيدنجتون" حينما صاغ تجربة تقول: "إذا لم تتغير مواقع النجوم.. فــ"أينشتين "على خطأ".

يستطيع المنجم أن يقول إن الحَمَل قاس، وأن العقرب مخادع، وأن العذراء لا تنسى أخطاءك.. كلها جمل غاية في الضبابية والاتساع بحيث يمكن لها أن تحتوي كل الإجابات الممكنة، ما يلي هو دور تحيزك4 لتأكيد "Conformational bias" مقولة المنجم. لكن، هل يستطيع المنجم أن يقول لك إنك في صباح الثلاثاء 24-9-2019 ستلتقي صدفة بـ"ماثيو ماكوناهي" فيطلب الأخير منك مشاركته بطولة فيلم جديد؟.. بالطبع لا؛ لأنه سيخسر مهنته بهذه الطريقة (المُنجِّم أقصد).

يقول
يقول "كلود برنار": "أولئك المزودون بإيمان مفرط بأفكارهم غير مهيئين لإحراز كشوفات"، فهم -دائما- متحيزون لأفكارهم وقادرون في كل مرة على جمع الدلائل لتأكيدها.
إن الحصول على تأكيدات هو أسهل شيء يمكن أن تقوم به بينما تؤسس لنظريتك عن شيء ما، يقول "كلود برنار" "أولئك المزودون بإيمان مفرط بأفكارهم غير مهيئين لإحراز كشوفات"، فهم -دائما- متحيزون لأفكارهم وقادرون في كل مرة على جمع الدلائل لتأكيدها، هنا يضيف "بوبر": "من السهل أن تجد تأكيدات لأي نظرية تريدها إذا كنت تبحث عن تأكيدات"، أي شخص منا (اشتراكي، رأسمالي، ليبرالي.. الخ) سوف يفتح الجورنال أو "الويب" الآن ثم يحضر لك دوزينة من الدلائل التي تؤكد صحة نظريته؛ لكنه لن يستطيع صياغة جملة تقول: "أما لو حدث كذا وكذا وكذا.. فأنا على خطأ"، من هنا نصل لنتيجة مفادها أن هذه المناهج ليست صحيحة ولا -بتعبير "فولفجانج باولي" الشهير- حتّى خاطئة "Not Even Wrong".


لنحاول الآن التعمق قليلا، دعنا ندرس الفرضيتين العلميتين الآتيتين:

1- الكواكب تتخذ مسارات مغلقة حول الشمس.

2- الكواكب تتخذ مسارات إهليلجية حول الشمس.

كل منهما هو ادعاء قابل للتكذيب؛ لكن الادعاء الأول أكثر اتساعا وضبابية من الثاني، فالأول يتحمل أن يكون المسار مثلا دائريا أو بيضاويا، أو ربما مربعا أو مثلثا، فالمهم هنا هو أنه مغلق. أما الثاني فهو أكثر تحديدا؛ لأنه يعطينا فرصة أكثر وضوحا لتكذيبه، هنا يمكن القول إن هناك درجات من القابلية للتكذيب في كل جملة علمية، كلما ازدادت الدرجة ازداد اقتراب الجملة من كونها علما، كذلك كلما احتوت النظرية على حالات خاصة كلما كان تكذيبها أصعب، وبالتالي كانت أبعد عن العلم.

لنحاول -مثلا- دراسة فرضية علمية تقول إن: "شرب اللبن يفيد كل الأطفال"، وهو ادعاء يمكن تفنيده، لكن لو حدث واستطعنا اكتشاف أن شرب اللبن -لسبب ما- يتسبب في مرض الأطفال في مدينة الذهب؛ هنا يمكن للبعض أن يضيف تخصيصا كحل للمشكلة "Ad hoc" أو اقتراحا أو تفسيرا إضافيا لادعائه قائلا إن: "شرب اللبن يفيد كل الأطفال، عدا أطفال مدينة الذهب"، هنا تضعف درجة قابلية تلك الجملة العلمية للتكذيب. دعنا الآن نلخص فلسفة "بوبر" عن القابلية للتكذيب في خمس نقاط رئيسية:

1- الجملة العلمية هي فقط الجملة التي يمكن تكذيبها.

2- القابلية للاختبار هي القابلية للتكذيب "Testability is falsifiability".

3- النظرية العلمية الجيدة هي التي تحظر حدوث شيء ما، هي التي تضمنت توقعات محفوفة بالمخاطر.

4- هناك درجات من القابلية للتكذيب.

5- لا تقف النظرية عند اجتيازها لتجربة تكذيبية واحدة، التكذيب هو هدف العلم، خط سيره الممتد.

تدفعنا -إذن- عقلانية "بوبر"5 العلمية عبر القابلية للتكذيب؛ لنكون أكثر وضوحا ودقة، ربما مع ذواتنا قبل العالم، فهي تستطيع كمنهج وكمعيار أن تمسك بأولئك المتلاعبين بالألفاظ وأهازيج اللغة التي تسحر العقول فتميزهم عن ذوي التوجهات الواضحة الذين يلقون بنظرياتهم في أرض المخاطر؛ حيث -ربما- تصمد في مواجهة التمحيص العقلاني الشديد أو ربما لا.

بعيدا عن أرض الحدوس العلمية؛ إن ما نحتاجه حقا -من أجل عقلانية تستطيع أن تخدم مجتمعاتنا ذات المشكلات الكبيرة- هو قدرة على تحمل الوضوح والدقة في ادعاءاتنا القائلة إن ما نحمله هو حل للمشكلات التي تواجهنا، قدرة على تحمل كونها خاطئة؛ على تحمل مسؤولية البحث عن حلول دقيقة جديدة، هكذا يكون للمثقف دورٌ ممكن.

المصدر : الجزيرة