شعار قسم ميدان

"الغش العلمي ممكن".. ليست كل الدراسات العلمية بريئة!

ميدان - العلم
اضغط للاستماع
       

في إحدى قصص* آرثر كونان ديويل يتعجب واتسون ويسخر من صديقه شيرلوك هولمز لأنه لا يعرف شيئا عن النموذج الكوبرنيكي للعالم، لكن هولمز يرد قائلا: "وما أهمية زعمك بأننا ندور حول الشمس؟ حتى لو كنّا ندور حول القمر فلن يؤدي هذا إلى أي فارق في عملي"، يدفعنا ذلك إلى تأمل اقتباس شهير للسير آرثر إيدنجتون حينما كتب مقالا سنة 1938 في مجلة فلسفة العلوم الفيزيائية وقال فيه: "أعتقد أن هناك15747724136275002577605653961181555468044717914527116709366231425076185631031296 بروتونا في الكون، ونفس العدد من الإلكترونات".

   
هل تهتم لذلك؟ هل قرأت الرقم بالأساس؟ هل سوف يؤثر في حياتك إن كانت تلك الـ 6 في النهاية هي 9 أو 5 أو أي رقم آخر؟ بالطبع لا، فقد نعيش كامل حياتنا ونحن لا نعرف أي شيء عن تأثيرات النسبيتين الخاصة والعامة على ساعات المسافرين أو الفارق بين اصطلاحات كالسرعة والقوة وتأثيره على سياراتنا، نحن فقط نهتم بأن تسير الأمور كما يجب من أجل تحقيق أفضل منفعة ممكنة، من تلك الوجهة يمكن أن ننظر إلى الحس البديهي للبشر على أنه حالة من البراغماتية تجاه الطبيعة، ومن تلك النقطة ينبع الفارق بين العلم وإدراكنا البديهي.

    

 كتاب
 كتاب "طبيعة العلم غير الطبيعية" الذي يستعرضه هذا التقرير  (مواقع التواصل)

  

رصاصات ومسدسات وعلم

لفهم ذلك دعنا نتأمل تجربة بسيطة، لدينا الآن رصاصتان، الأولى في المسدس، والثانية في يدينا التي نرفعها بمحاذاة المسدس تماما، في نفس اللحظة التي نطلق فيها الرصاصة الأولى من المسدس سوف نترك الرصاصة الثانية تسقط من يدينا، والسؤال هنا لك: أي الرصاصتين سوف تصل إلى الأرض أولا منهما، تلك التي تركتها لتقع أم التي انطلقت من المسدس؟

 

للوهلة الأولى نظن أن التي تركناها لتقع هي التي سوف تصل إلى الأرض أولا، بينما ستأخذ المنطلقة بعض الوقت قبل أن تقع، لأنها -ببساطة- تنطلق، لكن ذلك غير صحيح، فلا علاقة لسرعة الرصاصة بعجلة الجاذبية الأرضية التي تخضع لها كل الأشياء بنفس الدرجة كانت سرعتها (صفر) أو (1000 كيلومتر في الساعة)، لذلك فإن الرصاصتين سوف تصلان إلى الأرض في نفس اللحظة.

  undefined

 
هناك عدد كبير من الأمثلة المشابهة والتي سوف تثبت قدر اختلاف العلم عمّا نتصور أنه بديهي، بذلك يكون الاقتباس الشهير من ألفريد نورث وايتهيد أن "العلم يتجذر في الجهاز الفكري للإدراك البديهي" هي -على جمالها- خاطئة في الحقيقة، ولهذا السبب يظهر الحاجز الرئيس بين الجمهور والعلم، فحينما مثلا تتحدث مع أحدهم عن قانون يقول إن "الأصل في الأشياء هو الحركة، والسكون هو حالة خاصة منها" -نيوتن- سوف يتعجب بالطبع، سيقول لك: "كيف ذلك؟ أنا أترك هاتفي النقال على الطاولة طوال النهار فأعود بالليل لأجده مكانه".

 
 يدفع ذلك بالناس إلى اتخاذ مواقف متناقضة تجاه العلم، فبين المخاوف من هذا الشيء الغريب، غير المفهوم، والمرتبط بكوارث قد حدثت بالفعل مثل هيروشيما وناجازاكي، أو أخرى متوقعة كهواجس سيطرة الآلة وخلق وحوش بشرية عبر التكنولوجيا الحيوية وتقنيات كريسبر لتحرير الحمض النووي، يمتزج هذا الموقف مع شعور بالهيبة والثقة الشديدة تجاه العلم، فأنت مثلا تثق في أن ما يصفه لك الطبيب هو الدواء المناسب لك، رغم علمك أن ذلك القرص يحتوي على مادة كيميائية قد تكون قاتلة.

 
ورغم أن العلماء يحاولون نقل العلم إلى العامة، بل إن هذا النشاط أصبح -في الكثير من المؤسسات العلمية- جزءا من "الواجب الوظيفي" للباحث، لكن تبسيط العلوم تجاوز نقطتين هما بالأساس مركز مخاوف الناس وتوترهم تجاه العلم، الأولى هي طبيعة العلم غير الطبيعية، والتي يُفترض معها أن للعلم منهجا يختلف عما يمكن أن نتصوره، وأن للطبيعة آليات عمل متناقضة تماما مع ما يمكن أن نتصوره، وهنا نقصد في العموم أن نعرّف المواطن العادي بما يعنيه العلم.

 
والثانية هي أن العلم لا يحل كل المشكلات، ولا يمكنه توقع المستقبل بدقة، وبإطلالة خفيفة على أسس نظرية الفوضى أو الميكانيك الكمومي يمكن أن تتعلم أن هناك دائما حدودا للتنبؤ والرصد، وتأتي المشكلة دائما حينما يحاول بعض العلماء عرض العلم على الجمهور وكأنه يمكن أن يتدخل لفض قضايا أخلاقية أو سياسية، لكن للأسف ما يحدث هو أن يُستغل العلم لدعم قضية ضد أخرى بينما لا يوجد "علم" بالأساس في نقاشاتنا تلك.

 

العلم والأخلاق

undefined

يفتح ذلك الباب لنا لتناول قضايا خلافية كثيرة بهذا الصدد، لنعد مثلا إلى كارثة هيروشيما وناجازاكي، حيث إن المتهم الأول فيها بالنسبة للكثيرين هو "العلم"، لكن في الحقيقة هناك ثلاثة أسباب لا تجعل من العلم طرفا مركزيا في نقاشات أخلاقية كتلك، أولها هو أن هناك فارقا بين النظرية والتطبيق، فالقارئ للتاريخ النظري لتطور أفكار الانشطار النووي يعرف أنه كانت هناك فجوة عميقة بين الأبحاث النظرية لفكرة الانشطار النووي وإمكانية أن يطبق ذلك بالفعل في شكل قنبلة، وأن العلماء الأوائل في هذه الفكرة قد تطرقوا بالفعل إلى نقاط كتلك.

 
وثانيها هو أن القرار كان سياسيا بالأساس، لا يمكن أن تلوم -مثلا- ألبرت أينشتاين لأن نسبيته الخاصة كان لها علاقة بالأمر، وإلا فأنت تلوم نيوتن أيضا على تطويرنا لقوانين المقذوفات من خلال أفكاره، يقول أوبنهايمر: "إن رجل العلم غير مسؤول عن قوى الطبيعة، ولكن مسؤوليته هي الكشف عن طريقة عمل تلك القوى، وقوانينها، وكيف يمكن تسخيرها لخدمة البشرية، أما تحديد جدوى صناعة قنبلة ذرية فلا يمكن أن يكون مسؤولية العالِم، إنما هو مسؤولية الشعب الأميركي وممثليه لمختارين"، رغم ذلك لا يسلم العلماء من المسؤولية الأخلاقية في كثير من المواضع، تأمل مثلا التكنولوجيا الحيوية وتقنيات التحرير الجيني.

 
ثم ننتقل إلى ثالثا، وهي نقطة مهمة تتسبب في الكثير من المشكلات، حيث كما تطرقنا منذ قليل فلا يمكن إقامة علاقة واضحة بين الفكرة وتطبيقها، لكن الأهم من ذلك هو أن الكثيرين يتصورون أن العلم هو التكنولوجيا أو أنهما فرعان لنفس الشيء أو أن أحدهما ابن الآخر، وذلك أيضا يتعلق بالفهم الخاطئ للطبيعة غير الطبيعية للعلم، فالتكنولوجيا تنتج أشياء أما العلم فينتج أفكارا، ويتضح هذا الفارق تاريخيا وإن لم يكن ظاهرا الآن، فالتكنولوجيا أقدم من العلم كثيرا (تأمل السفن الأولى، التلسكوبات الأولى، أدوات الإنسان البدائي قبل أكثر من مليوني سنة).

 
تأمل صناعة المعادن، الزراعة، ابتكار البوصلة، الآلات البخارية، بدراسة تاريخ التقدم التكنولوجي سوف تجد أن هناك فارقا واضحا بين العلم (التصور، والحاجة إلى التجريد لصناعة أفكار نظرية) والتكنولوجيا (الحس، الانطلاق عبر التجربة والخطأ في تطوير أدوات مادية تستخدم في الصناعة والتجارة)، لكن هذا الفارق تلاشى مع ظهور الاتصالات اللاسلكية، حيث بنت نظرية ماكسويل أفكار مايكل فاراداي في صورة رياضياتية، وهكذا تم وضع ما هو معلوم في ذلك الوقت بقالب رياضي.

 

أينشتاين ضد فان جوخ

undefined
 
في الحقيقة يحيلنا حديثنا عن الطبيعة غير الطبيعية للعلم إلى الحديث حول عدة ملاحظات مهمة، أولها يتعلق بالعلاقة بين العلم والإبداع، حيث إن أحد مظاهر وقوع الناس في الخطأ هنا هو ظنهم أن الإبداع العلمي يتشابه مثلا مع الإبداع الفنّي أو الأدبي، لكن ذلك -ربما- غير صحيح، وأكبر دلائل عدم صحته هي أننا نهتم حقا بمعرفة رسّام الموناليزا ومؤلف قصيدة "شيء يحترق"، بل إن دراسة اللوحة أو القصيدة تعتمد بشكل ما -حسب بعض المدارس الأدبية- على دراسة خلفية مبدعها، في المقابل لا يفيد كثيرا، إلا إن أردت ذلك، أن نتحدث عن علاقة ألبرت أينشتين بالنسبية الخاصة، فقد تدرسها بالكامل دون معرفة اسم واضع معادلاتها، ورغم أن هناك تيارا حديثا نسبويا يتحدث في أن النظريات العلمية ابنة تأثر منتجيها لكن ذلك لا يمكن أبدا مقارنته بالأعمال الفنّية والأدبية.

 
لذلك فإن الإبداع في العلم، وإن كان يعتمد على حدس افتراضي يبدأ عند العالم كما يبدأ عند الشاعر لكن داروين وألفريد راسل والاس -مثلا- قد توصلا إلى نفس الفكرة، كذلك لايبنتز ونيوتن بالنسبة للتفاضل، ويحدث كثيرا أن يصل عالم ما إلى نفس الفكرة قبل أو مع آخر، لكن هناك "الأطلال" واحدة، هناك "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" واحدة، هناك لوحة "زهرة الخشخاش" واحدة، ويصل الأمر إلى الدرجة التي يقول فيها الحاصل على نوبل في الاقتصاد هيربرت سيمبسون إن "الخلق العلمي عمل شاق، بل ويمكن أن يُنتج ببرنامج على حاسوب" وإن "الإبداع" في العلم هو فكرة خرافية، بل هو "اكتشاف".

 
دعنا الآن نعيد النظر في حكاية الاكتشافات المتزامنة (نيوتن ولايبنتز للتفاضل مثلا)، هنا يقع الكثيرون في خطأ رئيس أثناء محاولاتهم فهم طبيعة العلم، فرغم أنها تضفي على العلماء جانبا من الموضوعية والتي تحول دون المصلحة الخاصة بتعبير السوسيولوجي الكبير روبرت ميرتون حتى إنه يقول إن "الغياب الفعلي للغش في السجلات العلمية، والذي يبدو استثنائيا بالمقارنة مع سجل مجالات النشاط المعرفي الأخرى، يُعزى في بعض الأحيان إلى الصفات الشخصية للعلماء"، لكن هناك جانب آخر مهم وهو أن العلماء يتعايشون في مجتمع غير متوازن القوى تحكمه الصراعات بين أطراف متعددة المصالح، في تلك النقطة سوف يكون من المفيد أن تطلع على مقال للكاتب بعنوان "بين السمعة والحقيقة: ما الذي يبحث عنه العلماء؟".

لكن رغم كل ما أشرنا إليه حتى الآن عن طبيعة العلم غير الطبيعية، فإنه ما زالت هناك بقعة غامضة في خلفية ذلك كله، إذ ما زلنا نسأل عن طبيعته، إن كانت غير طبيعية، فما هي إذن؟ وهنا نصل إلى مركز الجدل الفلسفي والسوسيولوجي الأساسي حول العلم، حيث للوهلة الأولى تظن أن العلم هو كيان منتظم في خط سيره، لكن هنا يمكن أن نتأمل قليلا قول بيتر مدوّر إن الأبحاث العلمية هي "نوع من الغش"!

 

ما العلم؟

undefined
 
بالطبع لا يقصد مدوّر الغش الذي تفهمه، وإنما يقصد أنها تظهر لنا في صورة نهائية أنيقة ومرتبة (مقدمة، آليات، نتائج، مناقشة، استنتاج، مراجع) لكن الطريقة الحقيقية التي يعمل بها العلماء هي -بتعبير مدوّر- الخيال، الارتباك، التصحيح المستمر، العواطف.. إلخ، بذلك فالورقة العلمية أيا كانت تخلو من خواص الإبداع العلمي، في النهاية فإن تحديد طبيعة العلم ليست وظيفة، ولا حتى محط اهتمام العلماء، فمتخصص في ميكانيكا الكم ربما لا يعرف عن فلسفة العلم أكثر من ميكانيكي سيّارات.

 
هنا ربما يجب توضيح أن نجاح العلم لا علاقة له بعدم قدرتنا على فهم طبيعته، عندما اكتشفنا التلسكوبات الأولى -مثلا- وبدأنا في استخدامها لم نكن نعرف آلة عملها ورغم ذلك فقد كانت مفيدة و"تعمل"، "أنها تعمل" تلك هي سر حيرة الفلاسفة وبعض العلماء، حتى هيلاري بوتنام يصوغ حجة شهيرة نسميها "لا وجود للمعجزات" (No Miracle Argumment) وتعني أن الواقعية العلمية هي "الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل من نجاح العلم معجزة"، تبدأ الحجة بوضوح من الدقة العلمية الرهيبة والقدرة التنبؤية للعلم والتي نواجهها يوما بعد يوم، ماذا غير ذلك يمكن له أن يشرح نجاح العلم؟ حيث إذا كانت تلك النظريات التي تضع تلك التنبؤات القوية غير صحيحة فهناك إذن معجزة ما هي ما يمكنها أن تشرح نجاح العلم.

  undefined
 
لكن في النهاية تتنافس وجهات نظر عدة حول محاولاتنا لفهم طبيعة العلم، فهناك مثلا الوضعية المنطقية التي اعتمدت على مبدأ الاستقراء، ثم تظهر بعد ذلك فلسفة كارل بوبر والتي تشرح تطور العلم بأسس قادمة من عالم البيولوجيا التطورية لكنها مبنية على اصطلاح القابلية للتكذيب، ويعني أن التجربة الحاسمة في العلم هي التجربة التي يمكن تكذيبها، ويتعارض ذلك مع ما نسميه بنموذج "دوهيم – كواين" والذي يفترض أن المعارف العلمية، والعامة، هي شبكة متصلة لا يمكن الحكم على أي من نقاطها بمعزل عن الآخر.

 
من جهة أخرى يفتح توماس كون الباب للفلسفات النسبوية، والنسوية، وعلم الاجتماع لأن تتساءل جميعها حول كيفية اختيار العلماء بين النظريات المتنافسة، لتصبح اصطلاحات كالعقلانية والموضوعية والحقيقة محل إعادة نظر، وبعد أن كان مجتمع العلماء منفصلا عن إنتاجه العلمي الموضوعي (معايير روبرت ميرتون الأربعة) أصبح الإنتاج المعرفي للعلماء هو جزء من الطبيعة الاجتماعية للعلم (ديفيد بلور، باري بارينز والبرنامج القوي لعلم اجتماع العلم)، بينما في الفلسفة العلمية تتوج آراء باول فييرآبند الوجهة الشكوكية تجاه سلطات المعرفة العلمية.

 
على الجانب الآخر تستمر قضايا ذات علاقة بالفصل بين العلم واللاعلم إلى الآن في الطرق على سندان المعرفة العلمية، وتظل تلك الحالة من الجدل هي فقط إشارة إلى عدم فهمنا بالضبط للطريقة التي يعمل بها العلم. لكن في النهاية، كما تقول د. يمنى الخولي في كتابها "فلسفة العلم في القرن العشرين"، فإن العلم -رغم ذلك كله- هو "أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية، وأكثرها تمثيلا لحضور الإنسان، الموجود العاقل، في هذا الكون".

_________________________________________________

هوامش:

*هذا التقرير هو عرض للكتاب المهم "الطبيعة غير الطبيعية للعلم" (The Unmatural Nature Of Science) لمؤلفه د. لويس ولبرت: أستاذ فخري بقسم علم الأحياء الخلوي والنمائي في كلية لندن الجامعية، والحاصل كذلك على درجة الزمالة في الآداب من الجمعية الملكية عام ١٩٩٩، لذلك فإن المصادر المرفقة هي فقط لدعم القارئ في التوسع إن أراد المزيد من البحث.

المصدر : الجزيرة