الكارثة على الأبواب.. هل يمكن أن نوقف التغير المناخي؟

يرتدي ملابسه بسرعة، خلال صباح صيفي حار، أحد أطباء مستشفى الطوارئ بمنطقة ما في وسط مصر، ويهرع حتّى يلحق بحالة طوارئ قصوى جديدة تضمنت إنهاكا حراريا شديدا لعدد كبير من العمال بأحد المباني، يا له من يوم، في نفس الساعة تُكتشف عدة حالات جديدة من داء لايم في مستشفى بنيويورك – الولايات المتحدة، وأخرى بأونتاريو – كندا، لم يتوقع أحد ذلك، ثم لا تمر ثلاث ساعات حتّى نسمع بخبر إضافي عن امتلاء أحد مستشفيات الأطفال بنيوديلهي بحالات شديدة الخطورة من الربو حتى أصبح من غير الممكن لكل الأطباء أن ينقذوا كل ذلك العدد، العالم يمر بظرف كارثي، نحن في (أغسطس/آب) سنة 2045.
قد يبدو ذلك بالنسبة لك مشهدا من فيلم أبوكاليبسي مرعب، قد تظن أنني أحاول -عبر تضخيم الأمر- بث بعض الرعب في النفوس حتّى نتنبّه إلى الأزمة، لكن ما ذكرته قبل قليل هو فقط جزء صغير من تقرير منظمة الصحة العالمية(1) لأثر التغير المناخي على صحة البشر قبل حلول سنة 2050، حيث يتوقع البيان أن يرتفع عدد الوفيات من أمراض كالإسهال ونقص التغذية بمعدل 250 ألف حالة سنويا، بتكلفة سنوية لعلاج الحالات ستصل إلى أربعة بلايين من الدولارات الإضافية سنويا بحلول 2030، وارتفاع مجنون في نسب الأمراض المعدية.
نعم، في الحقيقة، هو ليس كذلك بالمعنى المفهوم، ولتوضيح ما أقصد هنا دعنا نبدأ بنقطة تحول كارثية سوف نضطر معها أن نغير من كتب التاريخ الخاصة بنا، حيث سوف نسجل أن (سبتمبر/أيلول) 2016 هو الشهر الذي تخطّت فيه نسب غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2) في الغلاف الجوي حاجز(2) الـ 400 جزء من المليون (ppm) لأول مرّة في تاريخنا كبشر، فخلال أربعمئة ألف سنة مضت تراقص الرقم بين 160 – 300 جزء من المليون فقط، الجميع كان يعرف أن ذلك سوف يحدث، الأرض تتغير ولا مناط من الاعتراف بغير ذلك، كانت المشكلة فقط هي "متى؟"، وكالعادة يجيء رد الطبيعة مبكرا عمّا كنّا نظن، لكن، لماذا يعد هذا الخبر عن ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون بتلك الخطورة التي تدعونا إلى الفزع حينما نسمعه؟
أولا لأنه (سبتمبر/أيلول)، وهو الشهر الذي تكون فيه نسبة ثاني أكسيد الكربون العالمية أقل ما يمكن، حيث مر الصيف وتفتحت الزهور وأصبحت النباتات أكثر نشاطا في امتصاص ثاني أكسيد الكربون، نحن الآن نقف عند أقل نقطة ممكنة من نسبه، بذلك فإن قياساتنا تُعبّر عن الحد الأدنى السنوي الممكن، ويعني ذلك أنه حد ربما لا رجعة فيه(3)، وإن تأملت قليلا نتائج (سبتمبر/أيلول) 2017 ستجد(4) أن الرقم لا يزال فوق 400 جزء من المليون، يعني ذلك أن الحدود الدنيا سوف تبقى عند هذا الرقم، يقودنا ذلك إلى "ثانيا"، وهي الأخطر، حيث إن ما حدث هنا هو ما نسميه بـ "نقطة التحوّل"(5) (Tipping Point)، أو ما نسميه في المثل العربي بـ "القشة التي قصمت ظهر البعير".
قد تضع على ظهر البعير قشّة فلا يتأثر، ثم اثنتين، ثم ثلاث، فألف، فمئة ألف، يزداد الحِمل على ظهر البعير شيئا فشيئا وتُنهك قواه بنفس التدريج، لكن هناك قشّة أخيرة، لا تعبر عن وزنها كقشّة ولكن عن الحد الذي ستتخذ معه الأمور عند البعير منحى كارثيا، تتسبب في أن ينهار مرة واحدة وتتطور الكوارث بصورة أكثر تسارعا، هذا هو ما تعبر عنه نقطة الـ 400 جزء من المليون، إنها النقطة التي يمكن بعدها لاضطراب صغير أن يُحدث نتائج مهولة في نظام ما.
المشكلة هنا هي أن النظم المتعقدة (Complex Systems) التي تتطور بتلك الطريقة تتوقف عند نقطة التحوّل كحد أدنى جديد لمستوى مختلف، أضف إلى ذلك أن ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي كان يتسارع(6) خلال السنوات السبعة عشرة السابقة، ويتوقع العلماء أنه بسبب ذلك تنشأ عدة نقاط تحول أخرى في كل الجوانب(7) ذات العلاقة بالتغير المناخي، وأنها جميعا سوف يتم تخطّي حاجزها خلال هذا القرن، وتتضمن موضوعات ذات علاقة بذوبان الجليد الخاص بجرينلاند، والقارة القطبية الجنوبية، كذلك تتضمن الدورة الحرارية الملحية بالأطلنطي (Atlantic Thermohaline Circulation)، توترات ظاهرة النينو، والمشكلات المتوقعة بالرياح الموسمية في كل من الهند ووسط وجنوب أفريقيا، وهي مناطق بالفعل عانت تأثرا شديدا بارتفاع درجات الحرارة في السنين القليلة الماضية.
يتضح لنا الآن السر في مشكلة الجمهور العام مع التغيرات المناخية، وهو أنك تتصور أن ارتفاع درجات الحرارة بمعدل درجة ونصف في مئة عام سابقة يعني أنك تحتاج إلى مئة عام أخرى كي ترتفع درجة ونصف إضافية، بينما ذلك غير صحيح، لأن المنظومة تتطور بشكل متزايد، ما يعني أنك تحتاج أقل من نصف تلك المدة لتتخطى حاجز الدرجات الثلاثة، وهنا يصبح الوضع بالفعل كارثيا، فكما قلنا من قبل، إن ارتفاع درجة في مناخ الأرض قد يبدو للوهلة الأولى بسيطا، حيث يظن البعض أنه فقط يتسبب في انتقال درجة الحرارة بالصيف من 35 مثلا إلى 36، بينما في الحقيقة الأمر أعقد من ذلك.
حيث يرتفع مستوى سطح البحر شيئا فشيئا، ويرفع ذلك من خطر مشكلات عدة تبدأ بغرق(10) مدن بأكملها وتصل إلى حد منع المياه الصالحة للشرب عن أخرى، كذلك فإن معدلات التطرف والحالات الطارئة الكارثية يرتفع شيئا فشيئا، فتضرب الموجات الحارة(11) والباردة مناطق متفرقة من العالم وتقتل آلاف البشر، وتأتي الأعاصير المدمرة في كل مرة أقوى من ذي قبل، مثل إيرما وهارفي(12) أواخر الصيف الماضي، أضف إلى ذلك كم الخلل المهول الذي تسببه درجتان فقط في الأنظمة البيئية(13)، فتنقرض أنواع بأكملها، وتهاجر أخرى إلى أماكن شمالية أكثر برودة، وتظهر نباتات الصيف في الخريف، ونباتات الشتاء في الربيع، درجة حرارة الغلاف الجوّي هي الساعة الدقيقة التي تضبط كل شيء على الكوكب، والآن هذه الساعة تختل.
لكن، إلى الآن لم نصل إلى إجابة واضحة عن سؤالنا في أول التقرير، هل، إن حصل وتوقفنا الآن عن بث الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، سوف يعود كل شيء كما كان؟ الإجابة هنا ليست بسيطة، فأولا يجب أن نعرف أن كل جزيء ثاني أكسيد الكربون نطلقه للغلاف الجوي عبر الوقود الأحفوري يظل هناك، يشارك فقط في الدورة السنوية بثاني أكسيد الكربون، حيث يأخذ النبات كمًّا محددا ويترك الباقي لنا، ولا مكان آخر ليذهب إليه ثاني أكسيد الكربون غير التحول إلى كربونات كالسيوم في أغلفة بعض الكائنات البحرية، لكن ذلك يحتاج إلى عدة آلاف من السنين لكي يتحقق، ثاني أكسيد الكربون باقٍ معنا.
أضف إلى ذلك أن سطح البحر، في كل العالم، قد أخذ وقتا طويلا لتتم تدفئته، ما يعني أننا سوف نحتاج كذلك وقتا أطول لكي نبرّده، كذلك فإن انخفاض درجة الحرارة لكي يحدث نحتاج أن ننتظر أربعين(14) عاما كاملة، ما يعني أننا بالفعل قد أنجزنا من الكوارث ما سوف ننتظره أربعين سنة كاملة لكي يتحقق بوتيرة متصاعدة، يقول(15) د. ريتشارد ب. رود أستاذ علوم المناخ والفضاء بجامعة ميتشجين إنه حينما يطلب من طلبة القسم أن يضعوا نماذج لتطور نظام بيئي ما فإنه يضع ارتفاعا قدره أربع درجات مئوية كمعيار مسلم به، علما أن ذلك هو فقط المتوقع إذا توقفنا الآن عن بث ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، لكن هل سوف يحدث ذلك؟

في الحقيقة لا، هناك عدد ضخم من الدراسات المنشورة في مجلات علمية مرموقة عن الموضوعات المتفرقة للتغير المناخي وعلاقة البشر بها، 97% أو أكثر(18) من هذا النشاط البحثي يتفق مع القول إن التغيرات المناخية خلال القرن المنصرم لها علاقة مباشرة بتدخل البشر واستخدامهم للغازات المسببة لظاهرة الصوبة الزجاجية، لكن المشكلة هي أن العلوم التي تدرس التغيرات المناخية لا يمكن فيها تأكيد شيء ما بدرجة 100%، هناك دائما احتمالات وكلمات كـ "نرجح" و"ما نظن أننا نعرفه"، وفي الإعلام يتم استخدام جمل كتلك للتشكيك في المؤسسات العلمية لذلك السبب، ومن هنا تتدخل السياسة لخدمة مصالح خاصة.
بالضبط، إنها كما سمعت، المصالح الخاصة، ما يبدو لنا الآن هو أننا نعيش في ما هو أشبه بمسرحية هزلية غاية في البؤس، فبينما يؤكد العلماء يوما بعد يوم على تضاعف المشكلات وحدود الكوارث المناخية، وبينما نتأكد أننا أتلفنا بالفعل ما لا يمكن تعويضه، وأننا لم نر بعد نتائج ما فعلناه إلى الآن، فإن توقفنا فسيظل الأثر حتّى أربعين سنة قادمة، ولذلك فنحن نسير على طريق سيوصلنا إلى مراحل كارثية، لتتحول مهمتنا حينها للعمل على التخفيف من أثر ما سيحدث، لكننا -رغم ذلك كله- نستمر في الجدل والتعارك على أشياء تافهة، الأمر شبيه هنا بمسلسل "صراع العروش"، فبينما تتقاتل الممالك السبعة من أجل الحصول على العرش الحديدي القائم بعد وفاة الملك روبرت براثيون، إذ بالـ "نايت كينج" يجد طريقة لاختراق الجدار، نعم هذا ما أقصده، الشتاء هنا!