شعار قسم ميدان

نوبل للطب 2017.. ساعاتنا البيولوجية بلا عقارب

ميدان - نوبل

"وهناك دائما هدفان في أثناء حديثنا مع الطلبة عن عمل الساعات البيولوجية، الأول هو أن ننقل لهم آخر ما توصلنا إليه، لكن الثاني، وهو الأكثر قيمة، هو أن ننقل لهم حماسنا لفعل ما نفعل، وكيف هو الحال أن تكون عالما، كيف يؤثر ذلك في شخصيتك، ولماذا نستمتع به إلى هذا الحد"
( مايكل روزباش(1) – نوبل 2017)

  

كان ميتشل سيفر(2) متخصص دراسة الكهوف الفرنسي بصدد البحث خلف جريان أنهار جليدية تحت الأرض، في الستّينيات، حينما قرر فجأة أن يضيف إلى هذا العمل تجربة خاصة من نوع جديد، حيث سيظل في تلك المنطقة تحت الأرض بالكهوف منقطعا تماما عن معرفة الوقت، وعن معرفة إن كنّا بالليل أو النهار، وكذلك عن روتينه اليومي، وكل ما سيحدث هو أنه سوف يوثق بطريقة ما نشاطه خلال كل تلك الفترة التي امتدت إلى أكثر من 60 يوما، ثم يخرج سيفر ليجد أنه -برغم فقدانه التام للشعور بالوقت- فإن جسده ظلت وظائفه تعمل بنمط منتظم.
  

تاريخ موجز للساعات

تتكرر تلك التجربة الشهيرة في البرامج الوثائقية للحديث عما نسميه بالساعة البيولوجية، لكن الفكرة القائلة إن الكائنات تقوم بتكييف الفسيولوجيا والسلوك الخاص بها مع النظام اليومي لتتابع الليل والنهار تم توثيقها قبل زمن طويل، وربما تُعد أشهر التجارب الموثقة في هذا الصدد هي تلك الخاصة بالفلكي الفرنسي جون جاك دورتوو(3) (Jean Jacques d’Ortous) في القرن الثامن عشر، حينما وضع نبات الميموزا (Mimosa)، وهو نبات تتفتح أوراقه باتجاه الشمس في النهار وتنغلق على نفسها في الليل، في غرفة مظلمة تماما لعدة أيّام ثم لاحظ حركة الأوراق.

 
كان من المفترض أن تظل أوراق نبات الميموزا منغلقة على نفسها طوال الوقت، لكن دورتوو لاحظ أن الأوراق تتفتح وتنغلق بنمط ثابت سواء بوجود تتابع الليل والنهار، أو من دونه، ويعني ذلك أن تلك الساعة البيولوجية التي تنظم وظائف الجسم مبنية في الكائن وليست مجرد رد فعل للظرف الخارجي، في القرن التاسع عشر كذلك حينما قام إيروين بانينغ(4) (Erwing Bunning) متخصص علم وظائف الأعضاء الألماني بربط ورقات نبات الفول بعناية شديدة بلوح للرسم ثم سجل حركاتها في الأيام العادية، ثم في أوقات داخل غرف مظلمة، ليجد أنه يحصل على نفس الرسم البياني تقريبا في الحالتين.

 

نبات الميموزا (جائزة نوبل)
نبات الميموزا (جائزة نوبل)

الآن نعرف أن ذلك النظام/النمط/الإيقاع الذي نسميه بالنظام اليومي(5) (Circadian Rhythm) الذي ينظم وظائف الجسم مبني بداخل الكائنات الحية بشكل طبيعي، كانت تلك نقلة نوعية، لكن اللافت للانتباه هنا كان ملاحظات بانينغ بأن تلك الصفات يمكن توريثها للأجيال القادمة، بمعنى أن النباتات الطبيعية التي تم عزلها بالظلام هي الأخرى كلاهما ورّث هذا النظام إلى أطفاله، بل والأكثر لفتا للانتباه هنا هو أنه حينما نقوم بعملية تزاوج بين نباتات تأخذ فيها هذه الدورة مدة أطول، وأخرى تأخذ فيها الدورة مدة أقصر، فإن الناتج من النباتات سوف يكون دورة متوسطة بين الدورتين، ما الذي يحدث هنا؟

 
الآن تمر مئة عام أخرى بعد بانينغ، نحن في القرن العشرين، كان السائد وقتها هو أن ذلك الإيقاع اليومي المنتظم هو ظاهرة سلوكية، لكن كل من سينور بينزر(6) (Seymour Benzer) ورونالد كونوبكا (Ronald Konopka) من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتيك) كان لهما رأي آخر، فقد اعتقدا أن لتلك الصفة في نظامنا البيولوجي قاعدة جينية، هنا لجآ إلى حبيبة رجال البيولوجيا وحاصدة أكبر عدد من جوائز نوبل، إنها ذبابة الفاكهة، فهي -رغم الاختلاف الشاسع في الشبه معنا نحن البشر- من أقرب الكائنات لنا جينيا، بل إن 75% من الجينات التي تسبب الأمراض لنا تصيبها أيضا، بجانب طبعا أن لها دورة حياة قصيرة تمكننا من دراسة أجيال طويلة في وقت أقل، كذلك هي أرخص، أسهل، وأصغر كائن يمكن أن يؤدي تلك الوظيفة.

  
قام كل من بينزر وكونوبكا بعزل ثلاثة أنواع من ذبابة الفاكهة تحتوي على اضطرابات في نظامها اليومي، الأولى لا إيقاع لها، والثانية ذات إيقاع أقصر من 24 ساعة (19 ساعة)، والثالثة ذات إيقاع أطول (28 ساعة)، هناك إذن جين ما خاص بتلك الصفة، وقد تنبأ كل من بينزر وكونوبكا بأن ذلك يعني أيضا أن الفئة الأولى من الذبّان قد تم تعطيل الجين عندها فلم يعد يعمل، أما الفئتان الأخيرتان فإن الطفرة قد عدلت من نمط عمله لكنها لم توقفه، صدقت توقعات الفريق، وقد تمكنا من تحديد موضع هذا الجين، لكن عزله واستكشاف الآلية الجزيئية التي يعمل بها كان مهمة رفاق نوبل 2017.

  

عقارب من نوع خاص

جميل جدا، الآن نحن نقف وجها لوجه أمام الاكتشاف الذي حصل على نوبل 2017، لكن قبل البدء دعنا نعود قليلا إلى المرحلة الثانوية لأجل أن نتعلم بشكل مبسط للغاية عن بعض البيولوجيا الجزيئية(7) التي سوف تؤثر كثيرا في فهمنا لما هو قادم بهذا التقرير، حيث -مثلا- ما الجين؟ نحن نعرف أن الحمض النووي (DNA) الخاص بكل كائن حي يحتوي على كل صفاته الظاهرة، طول الجسم، شكل الأذن، لون العينين، شكل الأنف، لون الشعر، وظائف الخلايا وتشكلها… إلخ، كل شيء، والحمض النووي هو مركب كيميائي ضخم للغاية يتخذ شكل شريط مزدوج، لكنه يتكون بالأساس من تتابع لأربع وحدات، نسميهم بالحروف الإنجليزية "C" و"T" و"G" و"A".
 

تتكرر هذه الوحدات على طول الشريط الطويل للحمض النووي، تتكرر حوالي 3 مليارات مرّة، وتعبر كل مجموعة منها عن صفة ما، بمعنى أن التتابع "UUCCGCATACGAA" يعبّر مثلا عن صفة ما، ولتكن لون العين، أما التتابع "UUUCATGGACTAU" فرغم أنه يحتوي على نفس العدد من الوحدات فإنه يعبّر عن صفة أخرى لأنه تتابع مختلف، هذا التتابع من الوحدات الكيميائية الذي يعبّر عن صفة ما هو ما نسميه "الجين"، وقد تستلزم الصفة -أية صفة كطول الأصابع مثلا- جينا واحدا في الكائنات البسيطة، أو أكثر من جين في الكائنات المعقدة كالإنسان.
 

يشبه الأمر أن تكتب برنامجا ما بلغة الحاسوب، فقد يكون هذا البرنامج عبارة عن لعبة سيارات تجري في شوارع كاليفورنيا أو بغداد، لكنه بالأساس هو مجموعة حروف مكتوبة بطريقة ما ومسجلة في ذاكرة الجهاز، ما يحدث هنا هو أن هذا التتابع من الوحدات -الجين- يتواجد فقط في نواة كل خلية من خلايا أجسامنا، لكنه لا يستطيع الخروج منها، هنا يقوم بنسخ نفسه على مركب آخر ندعوه الـ "RNA" الذي بدوره يخرج من النواة ثم يقوم بترجمة كل جين إلى البروتين الخاص به خارج النواة، البروتين الذي بدوره يكوّن صفة ما من صفاتنا، نحن إذن تلك اللعبة التي تدور أحداثها في كاليفورنيا، بينما كل شفراتنا مسجلة بالحروف في أنوية خلايانا.

 
حسنا، انتهى درس البيولوجيا الجزيئية، كانت أول انتصارات فريق نوبل خاصتنا(8) هذا العام في الثمانينيات، وهم: جيفري هال (Jeffrey C. Hall) جامعة ماين، مايكل روزباش (Michael Rosbash) جامعة برانديز، ومايكل يونج (Michael W. Young) من جامعة روكفيللر، الثلاثة بالولايات المتحدة، حينما تمكنوا من عزل الجين الأول المسؤول عن الساعة البيولوجية الذي سمّي الجين بيريود (Period Gene) والذي يصنع بروتينا يسمى "PER"، وهو ما يتراكم بالخلية نهارا ثم يتكسّر أثناء الليل في دورة مدتها 24 ساعة، لكن في تلك الفترة لم تكن الآلية التي تعمل بها الساعة البيولوجية واضحة، حيث لم يتوقف الجين "بيريود" عن العمل في فترات محددة حتّى يتكسر البروتين ولم يعمل في فترات أخرى؟

 

هنا افترض كل من هال وروزباش أن الآلية هي أن يدخل البروتين المتكون "PER" إلى النواة مرة أخرى لكي يمنع تكون المزيد منه، تسمى تلك الآلية بحلقات التغذية الراجعة المانعة (Inhibitory Feedback Loop)، ويشبه الأمر أن تمتلك مصنع حلوى ينتج ثلاثة أطنان في الشهر، لكن يحدث في أحد المرات أن ينتج مصنعك كما أكبر من الحلوى، سبعة أطنان مثلا، هنا يمتلئ السوق بالحلوى، فيمر شهر كامل لكنها لا تنفد من السوق، بذلك لا تحصل على المال المناسب للبدء من جديد، فتضطر لإيقاف الإنتاج حتى ينفد من السوق، وما إن ينفد سوف تبدأ بإنتاجها من جديد.

 

آلية عمل ساعاتنا البيولوجية (الجزيرة)
آلية عمل ساعاتنا البيولوجية (الجزيرة)

 
وبنفس الطريقة، حينما يرتفع كم الـ "PER" في الخلية يعطي إشارة إلى الجين المسؤول أن يتوقف عن إنتاجه حتى ينفد البروتين من الخلية، فيبدأ الجين في العمل من جديد، لكن المشكلة هنا كانت احتياجنا إلى بروتين آخر لكي يمسك بالبروتين "PER" ويساعده على الدخول إلى النواة وإعلام الجين بالإشارة، هنا يكتشف مايكل يونج سنة 1994 جينا آخر من جينات الساعة البيولوجية، ونسميه الجين تايمليس (Timeless Gene) الذي يكوّن بروتينا نسميه "TIM"، هذا الأخير يرتبط بالبروتين الأول "PER" ليدخله إلى النواة كي يبلغ الجين الأول "بيريود" قائلا: "توقف عن العمل، لدينا الكثير من البروتينات في الخارج".
 

 undefined

 
ينتظر الجين بالفعل حتى ينفد البروتين "بيريود"، بالتالي تتوقف الإشارات لأن البروتين لم يعد موجودا، ثم يبدأ الجين من جديد في إنتاج البروتين، وهكذا تدور دورة الـ 24 ساعة، لكن هنا يظهر سؤال جديد، فنحن الآن نعرف آلية عمل الساعة البيولوجية، ولكننا لا نعرف سبب ترددها خلال تلك الفترة تحديدا -التي هي 24 ساعة-، يتسبب ذلك في أن يكتشف مايكل يونج جينا إضافيا يُدعى دوبل تايم (Doubletime Gene) الذي يتدخل مع جينات أخرى الجين "سايكل" (Cycle) والجين "كلوك" (Clock) لضبط مدة هذه الدورة على 24 ساعة، وهي مدة اليوم العادي المتبادل بين الليل والنهار، لكن هنا يجب أن نضيف أن ما نشرحه هو تبسيط لعمليات معقدة للغاية استمر فهمها على مدى حوالي 20 سنة من العمل المضني.

 

فيمَ يفيد ذلك كله؟

الآن نعرف أن هذا الإيقاع البيولوجي اليومي موجود في كل الكائنات تقريبا، وينظم وظائف أجسامها وخلاياها على مستوى طرفي ومركزي، في الثدييات توجد أداة التنظيم الرئيسة في منطقة نسميها النواة الفوق تصالبية(9) (Suprachiasmatic Nucleus SCN) في منطقة الوطاء (Hypothalamus) من المخ، وهي ما ينظم الإيقاع اليومي لوظائف الجسم، حيث تلتقط الشبكية المحتوى الضوئي وترسل المعلومات إلى تلك النواة فتُزامن بدورها الوظائف الخلوية بشكل يومي عبر الهرمونات والجهاز العصبي الطرفي، لكن هنا يجب توضيح أن بعض المناطق في الجسم لها ساعات مختلفة عن المناطق الأخرى بحسب درجة تأثير النواة الرئيسة فيها مقارنة بالعوامل البيئية، لذلك، بتعبير لجنة نوبل، يمكن لنا تشبيه نظام الساعة البيولوجية ليس كساعة واحدة، ولكن كمتجر ساعات.

 undefined

 
تتدخل تلك الساعات البيولوجية في كل شيء، نمط نومنا، درجات حرارة أجسامنا في أوقات متعددة من اليوم، إفراز الهرمونات، سلوكنا الغذائي، آليات حرق الغذاء، الدهون، الطاقة في العضلات، سلوكنا ودرجات انتباهنا، إفراز الكورتيزول، الميلاتونين، الإنسولين، بذلك فإن فهمنا للآليات الدقيقة لتلك العملية سوف يفتح بابا واسعا لفهم العديد من الأمراض التي تصيبنا، كاضطرابات الشهية، ضغط الدم، السكري، اضطرابات النوم، الاضطرابات المزاجية والعقلية كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب واضطرابات الذاكرة، كذلك يمكن أن تعتبر الطفرات في تلك الجينات عامل خطورة أساسي في بعض أمراض انتكاس الخلايا العصبية، السرطان، وغيرها، ما يعني أن هذه الاكتشافات تفتح لنا نافذة جديدة تماما على فسيولوجيا لم نكن نعرفها بدقة، وعلوم أدوية جديدة سيتم تطويرها لعلاج أمراض كانت يوما ما مستعصية.

 
لكن ما يدعو إلى التأمل حقا حول نوبل للطب والفسيولوجيا 2017 هو حينما تكتشف كيف أن هذا الكيان الذي ندعوه "الحياة" قد استطاع منذ اللحظة التي وُجِد فيها على سطح الأرض أن يسجل شيئا فشيئا كل الظروف البيئية بدقة شديدة في الفسيولوجيا الخاصة به، أن يسجل حتّى تتابع الليل والنهار بشكل دقيق للغاية عبر لغة حروفها هي جزيئات كيميائية غاية في الصغر والدقة، لكي يحقق أفضل تكيّف ممكن له على سطح هذا الكوكب الذي أصبح جزءا من تكويننا كما نحن جزء من تكوينه، نعم، لقد ابتكرنا الساعات الذرية وساعات السيزيوم الدقيقة، لكننا نحن، نحن أفضل وأقدم وأعجب الساعات، يقول كارل سايغن: "نحن الكون وهو يحاول استكشاف ذاته".

_______________________________________________


تم الاعتماد على موقع "جائزة نوبل" كمصدر رئيسي للتقرير.

المصدر : الجزيرة