بضعة ملايين مقابل 10 ثوانٍ.. لماذا تنفق الشركات أموالها على إعلانات التلفاز في رمضان؟
مع انطلاق مدفع الإفطار قبيل لحظات من أذان المغرب، مُعلنا نهاية صوم يوم رمضاني آخر، تجتمع العائلات حول شاشات التلفاز لتناول الإفطار الذي يكون في الأغلب متزامنا مع مشاهدة بعض البرامج المخصصة للشهر المبارك. وبالتأكيد أصبح من المتوقَّع دائما أنه مهما كان البرنامج المُذاع على الشاشة، فإنه لن تنقضي سوى عدة دقائق قبل أن تنهال كمية هائلة من الإعلانات التجارية التي قد تتجاوز مُدتها البرنامج نفسه.
الفاصل الإعلاني الذي لا تتجاوز مدته عادة 30 ثانية في الحد الأقصى، ويُطلق عليه بلغة الإعلانات مُصطلح "سبوت" (SPOT)، تختلف قيمته من إعلان إلى آخر ومن قناة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر أيضا. فبحسب تقرير لصحيفة "المال" المصرية رصد خريطة الإعلانات الرمضانية في عام 2022، فإن الإعلانات التي تُبث في بعض القنوات الفضائية خلال توقيت مدفع الإفطار -التوقيت الذي تتحقق فيه أعلى نسبة مشاهدة يوميا- تُكلِّف ما بين 1.5-2.5 مليون جنيه لكل إعلان مدته 10 ثوانٍ فقط. (1)
هذه الأرقام الضخمة تعيد إلى الأذهان السؤال: هل يستحق التسويق عبر وسائل الإعلام التقليدية، وعلى رأسها التلفزيون، إنفاق كل هذه المبالغ في الوقت الذي تتصاعد فيه وسائل التسويق الرقمي -الأرخص سعرا بالتأكيد- بشكل كبير في السنوات الأخيرة؟ هل ما زال التسويق عبر الوسائل التقليدية مُربحا حقا وله عائد استثمار موازٍ للنفقات؟
هيمنة التسويق الرقمي
خلال العقد الماضي، هيمنت وسائل التسويق الإلكتروني بشكل متصاعد على سوق الإعلانات مع تزايد الاستخدام العالمي لشبكة الإنترنت وأجهزة الهواتف الذكية. جعل هذا التحول ميزانيات التسويق الرقمي وآلياته تتقدم بوصفها أولوية لدى الشركات، مع عزوف المزيد من المستهلكين عن قضاء وقت أطول أمام وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفاز والراديو والصحف، والاعتماد بشكل كامل على شبكة الإنترنت طوال اليوم.
بحسب تقرير للنسخة الثامنة والعشرين من استطلاع "CMO" العالمي للمعايير التسويقية، الذي نقلته مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو"، فإن المسوِّقين خلال السنوات العشر التقليدية سجّلوا تراجعا تدريجيا في إنتاج الإعلانات عبر وسائل الإعلام التقليدية (التلفاز والصحف والراديو) بنسبة 1.4% في الفترة ما بين 2012-2022، مع تزايد سنوي في ميزانيات التسويق الرقمي خلال الفترة نفسها وصل إلى 7.8%. (2)
ورغم الاندفاع الكبير إلى آليات التسويق الرقمي، خاصة التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدءا من إعلانات يوتيوب مرورا بفيسبوك وتويتر، وليس انتهاء بإعلانات تيك توك، فإن الفترة الماضية أيضا قد شهدت اتجاها لعودة المسوِّقين مرة أخرى إلى وسائل التسويق التقليدية، حتى إن بعض الشركات والمنتجات التي خصصت كامل مواردها فيما سبق للتسويق الرقمي عادت -بحسب "هارفارد بيزنس ريفيو"- لتخصيص ميزانيات معتبرة للتسويق عبر الوسائل التقليدية، وهو ما يطرح السؤال: لماذا عادت إعلانات التلفزيون إلى الظهور إلى الواجهة مرة أخرى رغم ضعف إقبال المستخدمين؟
الضيف الدائم على الموائد
في دراسة مطوّلة نُشرت نتائجها في فرنسا خلال عام 2015 وشملت شرائح المُستطلعة آراؤهم 88 بلدا حول العالم، كشفت النتائج تراجعا واضحا في أوقات مشاهدة التلفاز بين عدة شرائح، وفي مقدمتها شريحة الشباب الذين يعزفون باستمرار عن متابعة البرامج التلفزيونية في مقابل قضاء وقت أطول عبر الإنترنت. الأرقام قالت إن معدل مشاهدة التلفاز يتراوح ما بين 3-4 ساعات يوميا بالنسبة للشخص العادي، ونحو ساعتين بالنسبة لفئة الشباب.
لكن اللافت هنا أن الدراسة رغم أنها أظهرت عزوفا للشباب عن مشاهدة التلفاز، فإنها أظهرت في المقابل زيادة في مشاهدة "برامج التلفاز" عبر الإنترنت. ففي أميركا على سبيل المثال، تستحوذ برامج التلفزيون على 47% من المشاهدات عبر الإنترنت، حيث يميل المشاهدون إلى مشاهدة هذه البرامج في وقت لاحق لوقت عرضها الأول، بما يتناسب مع أوقاتهم.
هذه الأرقام تقول إنه رغم الانتشار الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن التلفزيون لا يزال هو الضيف الدائم في المنازل والمؤسسات والمستشفيات والمقاهي، والمحتوى الذي يُعرَض -أو يُعلَن- من خلاله يكون له السبق والشهرة، حتى ولو شوهدت هذه البرامج والإعلانات عبر وسيلة أخرى مثل الإنترنت. (3)
الإعلان التلفزيوني يظل في المقدمة
أضف إلى ذلك أنه رغم أن المستهلكين المُحتملين لمختلف المنتجات والخدمات أصبحوا يقضون معظم ساعات استيقاظهم في تصفح الإنترنت، ويتعرضون للمحتوى الإعلاني الكثيف عبر الشبكة الرقمية، فإنهم في المقابل أصبحوا أقل اهتماما بمحتوى هذه الإعلانات. فبحسب استطلاع أجرته منصة "هَبْ سبوت" (HubSpot) للتسويق والإعلان، فإن 57% من المشاركين في الاستطلاع أعلنوا أنهم لا يُعجبون بالإعلانات التي تظهر أثناء تشغيل الفيديو عبر الإنترنت، بينما قال 43% منهم إنهم لا يشاهدونها بالأساس.
هذه الأرقام التي تُشير إلى تجاهل أعداد كبيرة من المستهلكين للإعلانات عبر الإنترنت، ناهيك بشعورهم بانطباعات سلبية تجاه الإعلانات التي تعترض شاشات الهواتف أو تقطع مشاهدة فيديو أو تملأ صفحات المواقع وتمنع من إكمال القراءة أو المشاهدة في سلام. في المقابل، وبحسب تقرير لمؤسسة "Marketing Sherpa" التسويقية، فإن أكثر من نصف المستهلكين الذين يشاهدون الإعلانات عبر وسائل الإعلان التقليدية كالتلفاز والصحف والراديو قد أظهروا زيادة في التفاعل معها.
الاستطلاع نفسه الذي أجرته "Marketingsherpa" وجد أن المراكز الخمسة الأولى كسبا لثقة المستهلكين من جميع وسائل الإعلان هي وسائل الإعلان التقليدية. تقدمت الصحف المطبوعة القائمة، حيث نالت ثقة 82% من المستهلكين، ثم الإعلانات التلفزيونية بنسبة 80%، ثم البريد التقليدي والإعلانات عبر الراديو. هذه الوسائل كانت هي الأكثر تأثيرا في قرارات الشراء من قِبل المُستهلكين بشكل أكبر من وسائل الإعلان عبر أدوات التواصل الاجتماعي التي يعتبرها الكثيرون مُضللة وغير واقعية، وهو ما يجعل وسائل الإعلان التقليدية تعود إلى دائرة اهتمام المسوِّقين. (5، 6)
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمع الاتجاه إلى تقييد "ملفات تعريف الارتباط" (Cookies) في المواقع الإلكترونية، وهي الملفات المسؤولة بالأساس عن تحديد تفضيلات مُتصفحي الإنترنت وعلى إثرها يُستهدف المستهلكون بالإعلانات التي تناسبهم، يفقد التسويق الرقمي المزيد من بريقه. هذه الملفات بدأت في التراجع بشكل حاد وفقا لسياسات غوغل وأبل، وقد جعل نحو 20% من الشركات -بحسب استطلاع أجرته "CMO"- يعودون مرة أخرى للاستثمار في وسائل الإعلان التقليدية، بعد التغيرات الكبرى التي تشهدها ساحة الإعلانات الرقمية. (2)
الجانب المضيء والجانب المُظلم
حسنا، مهما كان الإعلان الذي تشاهده على شاشة التلفاز، في أي وقت، سواء كان إعلانا لشبكة اتصالات أو مشروب غازي أو إعلانا يعجّ بالمساكين والأطفال المرضى طلبا للتبرعات، فإن جميع الإعلانات تمرّ بالمعايير نفسها مهما اختلف محتوى الإعلان نفسه. باختصار، الإعلان التلفزيوني عبارة عن "قطع" لبرنامج تلفزيوني أو مسلسل أو فيلم يتابعه المشاهدون، وتحويلهم إلى محتوى سريع متخصص يعرض عددا من المنتجات والخدمات، ومن ثم العودة إلى البرامج مرة أخرى.
رغم أن هذا القطع لسياق البرامج والمسلسلات والأعمال التلفزيونية والتحول إلى فاصل إعلاني يُعَدُّ من أكثر الممارسات المثيرة لضيق المشاهدين، فإنه يظل الأساس الذي تربح من خلاله القنوات التلفزيونية. لذلك تظل معايير الإعلانات ومزاياها الفنية أحد أهم شروط عرض الإعلانات عبر قنوات التلفاز لضمان توفير الشيء الوحيد الذي يُبقي المشاهد، وهو جذب الانتباه والتسلية.
تُنتج الشركة إعلانها الخاص، أو تتعاون مع وكالات إعلانية متخصصة تُنتج الإعلانات بشكل إبداعي، ومن ثم جدولة الإعلانات في توقيتات يُتفَق عليها مع القناة التلفزيونية. تتراوح تكاليف الإعلان بناء على عدد كبير من المعايير مثل موعد عرض الإعلان، وطول الإعلان، وقوة القناة التلفزيونية ومستوى مشاهداتها، قوة البرنامج أو المسلسل الذي يُبث الإعلان في أثنائه، وعدد آخر من المعايير التي تتحكم في قيمة هذه الإعلانات التي عادة لا تتجاوز 20 ثانية. (7)
يمكن القول إن كل إعلان تلفزيوني، مهما كان مجاله، يدور حول فكرتين تسويقيتين رئيسيتين: إما زيادة وعي المشاهدين بعلامة تجارية معينة (Brand Awareness)، وإما تحقيق زيادة في المبيعات أو التبرعات (Generate Sale). لذلك، فإن الإعلان عبر التلفاز يُعَدُّ وسيلة ممتازة استمرت عبر عقود للوصول إلى أكبر وصول للمستهلكين المُحتملين بشكل جماهيري واسع (Mass Mediu).
تتميز الإعلانات التلفزيونية -أو المُصممة للعرض التلفزيوني حتى لو عُرضت في وسائل التواصل الاجتماعي لاحقا- أنها احترافية، وتستخدم أدوات فنية وبصرية وموسيقية وحركية، بل وحتى حبكات قصصية، بهدف إمتاع المُشاهد وتسليته وبالتالي التأثير على قراراته الشرائية، خصوصا لو عُرض الإعلان عبر قنوات تنال ثقته بالأساس.
على الجانب الآخر، تظهر العديد من العيوب والمعوّقات في الإعلانات التلفزيونية، أولها بالتأكيد ارتفاع التكلفة، حيث تُعَدُّ القناة التسويقية الأغلى سعرا ضمن بقية القنوات التسويقية الأخرى. السبب في ذلك أن الإعلان التلفزيوني يُصنع بأدوات متقدمة ومكلّفة عبر التعاون مع وكالات إعلان غالبا ما تكون باهظة الثمن، فضلا عن ارتفاع سعر عرض الإعلانات في القنوات المختلفة.
ثم تأتي مشكلة أخرى وهي أن الإعلانات التلفزيونية ليس لديها القدرة على استهداف شرائح العملاء المهتمين (Target Audience)، وتقدم محتوى إعلانيا واسعا قد لا يهم شريحة كبيرة من المشاهدين، وهو ما نراه شائعا في الإعلانات التي تستعرض المنازل الفارهة، بينما مُعظم المشاهدين من ذوي الدخل المحدود. كما أن الإعلانات التلفزيونية تكون بالأساس غير تفاعلية وأقل مرونة. وبالتأكيد يظل أحد أبرز عيوب الإعلانات عبر التلفاز هو استعراض الإعلان بين عشرات الإعلانات الأخرى بشكل متتابع، مما قد يؤثر على تركيز المشاهد ونسيان المُنتج أو الهدف من الإعلان، وبالتالي ضرورة إعادة عرضه مرارا وتكرارا لتحقيق هدفه. (7)
في النهاية، بالتأكيد لم يعد التسويق عبر الوسائل التقليدية، وأولها التلفزيون، هو الحل الأول للوصول إلى شرائح العملاء وإقناعهم بالشراء، ولكنه بالتأكيد أيضا لا يزال أداة تسويقية فعالة وبارزة، خصوصا بالنسبة للشركات التي تملك ميزانيات تسويقية كبيرة، وتستهدف شرائح كبيرة من الجمهور لعرض منتجاتها أو خدماتها. لا يزال الوقت مُبكرا للحكم على نهاية عصر التلفاز واندثاره أمام الإنترنت، على الأقل فيما يخص الإعلانات واسعة التأثير التي تُعرض على شاشات التلفاز أولا قبل شاشات الهواتف.
—————————————————————————————————-
المصادر:
1 – «المال» تنفرد بأسعار إعلانات رمضان 2022 على شاشات التلفزيون
2 – Why Marketers Are Returning to Traditional Advertising
3 – التلفزيون لا يزال مسيطرا.. هكذا اخترق عالم السوشيال ميديا
4 – Why People Block Ads (And What It Means for Marketers and Advertisers)
5 – Marketing Charts: Why the value chain matters to the marketer
6 – Marketing Chart: Which advertising channels consumers trust most and least when making purchases
7 – What Is Television Advertising? – Importance, Types, Examples