تقليل ساعات العمل في رمضان يمكن أن يساعد في رفع إنتاجيتك.. إليك الأسباب
في اللحظة التي يُعلَن فيها عن رصد هلال شهر رمضان المبارك، ومع بدء تحضير وجبة السحور لليوم الأول، تتغير الخريطة اليومية لمعظم المسلمين لمدة 30 يوما، وعلى رأسها بالطبع الروتين الوظيفي مهما كان المجال. فخلال شهر رمضان المبارك، يكون الإجراء الأول الذي تتخذه جميع المؤسسات هو تقليص عدد ساعات العمل بشكل ملحوظ، وصولا إلى ثلاث ساعات أو حتى ساعتين في بعض المؤسسات.
ومع ساعات الصيام الطويل وتقليص ساعات العمل والدراسة، وانخفاض التكدسات المرورية المعتادة مقارنة بالأيام التقليدية، يشيع بين الناس أن مستوى الإنتاجية العام خلال شهر رمضان ينخفض بشكل كبير، بسبب ضعف الأداء المهني وتأجيل زخم الأعمال إلى ما بعد عيد الفطر حيث تعود الحياة إلى طبيعتها. هذه الحالة هي ما تجعل جملة "بعد العيد إن شاء الله" من أكثر الكلمات تداولا على ألسنة الناس حتى ولو بشكل ساخر ترسيخا لفكرة الإنتاجية المتدهورة خلال رمضان.
ولكن على النقيض تماما من هذا التصور، تحمل لنا الأرقام والإحصاءات حقائق مختلفة تماما حول العمل والإنتاجية خلال الشهر الكريم.
بعد العيد إن شاء الله
بحسب استطلاع وظيفي صدر عام 2022 غطّى المنطقة العربية بواسطة موقع "بيت دوت كوم" المتخصص في التوظيف، بعنوان "رمضان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، فإن 77% من الشريحة التي أُجري عليها الاستطلاع قالوا إن إنتاجيتهم تزيد خلال شهر رمضان، بينما قالت النسبة نفسها تقريبا إنهم يشعرون بتحسُّن معنوياتهم بشكل ملحوظ خلال الشهر المبارك، بينما رأى 7% فقط من الموظفين أن مستواهم الإنتاجي يتراجع في تلك الفترة، وهو ما يُعَدُّ عكس التوقعات تماما.
الاستطلاع لم يُظهر فقط زيادة الإنتاجية للموظفين خلال شهر رمضان، بل أظهر أيضا تحفيزهم الذاتي للبحث عن مزيد من الوظائف لتطوير حياتهم المهنية، حيث قال 86% من الموظفين إنهم يخصصون المزيد من الوقت للبحث عن فرص وظيفية خلال الشهر، مع اعتقاد 42% من الموظفين أن عمليات التوظيف في الشركات بمختلف مجالاتها تزداد أو تبقى على حالها على الأقل طوال فترة الشهر الفضيل.
الاستطلاع نفسه قال إن 59% من الموظفين شعروا بأن شركاتهم وفّرت لهم خيارات مرنة وساعات عمل أقصر، فضلا عن الاهتمام بالاحتياجات الدينية والروحية التي شعر بها 14% من الموظفين. بالإضافة إلى ذلك، رأى 2% فقط من الموظفين أن شركاتهم قدمت لهم نوعا من التساهل في خفض الإنتاجية وعدم الالتزام بالمواعيد، بينما قال 83% من الموظفين إنهم راضون عن الدعم الذي تقدمه لهم بيئات الأعمال فيما يخص الإنتاجية خلال الشهر.
أما فيما يخص ضغط العمل أثناء شهر رمضان، ففي الوقت الذي يرى فيه 36% من الموظفين أنه لا يوجد اختلاف بين أعباء العمل أثناء رمضان وفي بقية العام، أجاب نحو 34% أن الأعباء تزيد بشكل ملحوظ فعلا خلال رمضان، وهو ما علَّله 60% منهم بسبب انخفاض ساعات العمل. في الوقت نفسه، يرى واحد من كل خمسة موظفين أن عبء العمل يقل بشكل ملحوظ خلال رمضان. (1)
ساعات عمل أقل.. إنتاجية أعلى
بينما يظن معظم المديرين في مختلف المؤسسات أن زيادة ساعات العمل يتناسب طرديا مع الإنتاجية، بمعنى أن إنتاجية بيئة العمل تزداد كلما ارتفعت ساعات الدوام، فإن الأرقام التي تعكس الواقع تؤكد أن هذا الظن خاطئ تماما. مؤخرا، أقرَّ عدد من الدراسات الوظيفية حقيقة أنه كلما انخفض عدد ساعات العمل اليومي، زادت إنتاجية الموظفين وارتفعت قدرتهم على تأدية مهامهم بأعلى قدر من الكفاءة، أي إن تقليل الساعات لا ينعكس فقط على ارتفاع إنتاج الموظفين كمًّا، بل ينعكس على جودة أدائهم كيفًا أيضا.
بحسب دراسة أجرتها "نقابة العمال في بريطانيا" (Trade Union Congress) في عام 2018، كان متوسط مدة الدوام الكامل في بريطانيا نحو 42 ساعة أسبوعيا، وهو ما يزيد ساعتين على متوسط مدة العمل في الاتحاد الأوروبي، بما يعادل أسبوعين ونصفا زيادة سنويا. اللافت للنظر، بحسب الدراسة نفسها، أن بريطانيا كانت في ذيل الدول الأوروبية من حيث إنتاجية الموظف، رغم ارتفاع عدد ساعات العمل.
فعلى سبيل المثال، الدوام الكامل في ألمانيا أقل من بريطانيا بمقدار ساعتين تقريبا أسبوعيا، ومع ذلك فإن معدل إنتاجية الموظف في ألمانيا يزيد على نظيره البريطاني بنسبة 14.6%. بينما تقل فترة العمل في الدنمارك بمتوسط 4 ساعات أسبوعيا عن مثيلتها في بريطانيا، وتحقق في المقابل زيادة في الإنتاجية بنسبة 23.5%. (2)
السر وراء الإنتاجية الزائدة
دراسة أخرى أُجريت عام 2014 بواسطة جامعة ستانفورد وصلت إلى نتيجة مفادها أن معدل إنتاجية الفرد يبدأ في الانحسار بعد تجاوز سقف 50 ساعة عمل أسبوعيا. بينما يقرر خبراء آخرون أن سقف 35 ساعة عمل أسبوعيا هو الخط الفيصل الذي تبدأ من بعده إنتاجية الموظف في التهاوي تدريجيا. أما "هارفارد بزنس ريفيو" فقد نقلت عن دراسة ثالثة أن أفضل عدد لساعات العمل من حيث الإنتاجية هو 6 ساعات يوميا، أي بمعدل 30 ساعة أسبوعيا بحد أقصى. (3، 4)
ورغم أنه لا يمكن تحديد رقم مثالي معين لساعات العمل اليومية، فإن المؤيدين لخفض ساعات العمل لديهم أسباب وجيهة لرؤيتهم. أحد هؤلاء هو البروفيسور جون تروغاكوس من جامعة تورنتو، الذي صرّح لصحيفة "بي بي سي" بسبب تأييده لخفض ساعات العمل دون 40 ساعة أسبوعيا بقوله إن تقليل ساعات العمل يعني بالضرورة زيادة كفاءة الموظف ودفعه إلى أداء المهام الضرورية في وقت محدد، بدلا من تمديد الفترة وجعلها أطول وبالتالي بقاء الموظفين لفترة أطول على مكاتبهم، فيقل مستوى التركيز والإنتاجية.
بعبارة أوضح، تقليل ساعات العمل إلى 6 ساعات مثلا يجعل الموظف أكثر تركيزا على أداء المهام المطلوبة بأقل قدر من التشتيت، أما تمديد الفترة لـ8 ساعات فيُجبر الموظف على تمديد فترة انتباهه على ساعات طويلة تفوق قدرته على فعل ذلك، وهو ما يعني حتمية تراجع المستوى بمرور الوقت. (3)
إذن، بنهاية يوم عمل طويل مكوَّن من ثماني ساعات، ما الذي يفعله الموظف بالفعل؟ بحسب دراسة قامت بها كلية ويسكونسن للأعمال عام 2015، فإن الموظفين يقضون نحو ساعتين ونصف يوميا أثناء دوام العمل في تصفّح الإنترنت والتسوّق الإلكتروني أو إجراء المُحادثات النصيّة، وهو ما يعني أن نسبة كبيرة من وقت الدوام تذهب إلى المُشتتات بالفعل، أي إن وجود الموظف خلال هاتين الساعتين في بيئة العمل لا يقدم أي نواتج ذات علاقة بالعمل بالأساس. (5)
التجربة الآيسلنديّة
آيسلندا، تلك البلاد الساحرة الباردة التي تقع في أقصى شمال أوروبا، لها تجربة من أكثر التجارب اللافتة للنظر عالميا فيما يخص المعضلة الوظيفية في الربط بين ساعات العمل ومستوى الإنتاجية. ظهرت نتائج هذه التجربة في استطلاع شامل أُجري في الفترة ما بين عام 2015 حتى عام 2019، وشارك فيه أكثر من 2500 موظف حكومي، وهو ما يُمثِّل 1% من إجمالي القوة العاملة في آيسلندا، في مجالات مختلفة تشمل مؤسسات حكومية تعليمية وأمنية وأكاديمية وطبية، شهدوا جميعا تقليص ساعات عملهم من 40 ساعة عمل أسبوعيا إلى 35 ساعة، مع الإبقاء على مستوى الأجور نفسه بدون تغيير، ومن ثمّ دراسة نتائج هذا التقليص على مستوى الإنتاجية.
وجد الباحثون أن معظم القطاعات الوظيفية التي أُجريت عليها الدراسة إما شهدت بقاء معدل الإنتاجية كما هو، وإما شهدت زيادة في مستوى الإنتاجية. فعلى سبيل المثال، مع تقليل ساعات العمل في القسم المُحاسبي الحكومي التابع للعاصمة "ريكيافيك"، لوحظ أن الموظفين زادت إنتاجيتهم بنسبة 6.5%، بينما لم يؤثر تقليل عدد ساعات العمل بالنسبة لضباط الشرطة على مستوى أو عدد الأنشطة الأمنية التي كانت تُمارس من قبل.
شملت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الآيسلندية في تلك الفترة لتقليص عدد ساعات العمل اليومية حذف كل الأنشطة التي لا تؤثر تأثيرا مباشرا على إنتاجية العمل، واستبدالها لصالح حلول أسرع وأكثر توفيرا للوقت. فعلى سبيل المثال، تم إحلال رسائل البريد الإلكتروني المفصلة محل الاجتماعات المطولة، بينما ألزم النظام الجديد ألا يتجاوز طول الاجتماع 15 دقيقة. أيضا تم تقليل فترات الراحة في منتصف النهار لتناول القهوة، والسماح للموظفين بالمرونة في تحديد مواعيد دوامهم بما يتناسب مع متطلبات حياتهم الاجتماعية.
وبحسب الموظفين الذين أُجري عليهم الاستطلاع، فإن تقليل ساعات العمل ساعدهم على تحسين ظروفهم الصحية والاجتماعية، وأصبحوا يقضون وقتا أطول مع عائلاتهم وفي ممارسة هواياتهم، إلى جانب ممارسة أعمالهم بمستوى أكبر من الإنتاجية والكفاءة، وهو ما جعل النقابات العُمّالية في البلاد تفرض هذا النظام -تقليل ساعات العمل- حتى أصبح 86% من العمالة في آيسلندا حاليا إما تحت مظلة قانون العمل ساعات أقل بالأجر نفسه، وإما سيحصلون على هذا الحق قريبا. (3، 6)
فرصة رمضانية
تقول الدراسات إذن إن ساعات العمل المحددة المُتاحة لك في دوام رمضان قد تكون سببا في زيادة إنتاجيتك وليس نقصها، وقد تكون سببا في التفرّغ بقية اليوم لممارسة أنشطتك الاجتماعية والدينية. لكن في المقابل، يظل التحدي الأساسي هو تأثير الصيام نفسه على الإنتاجية، مع امتناع الموظفين عن الأكل والشرب طوال فترة النهار، الأمر الذي يؤثر تأثيرا مباشرا على مستوى تركيزهم ونقائهم الذهني والعصبي، مع تراجع مستويات الجلوكوز في الدم والشعور السريع بالإجهاد وما يصاحبه من تشوّش في التركيز. (7)
في النهاية، يظل تنظيم الوقت والتركيز على الأعمال التي تهم حقا هو كلمة السر في مستوى إنتاجية مرتفع أثناء شهر رمضان، ففي الغالب تقل الاجتماعات وتتسع مرونة الأعمال بما يسمح للموظف بتكريس طاقة عمله بالكامل في إنجاز المهام المطلوبة منه، بأعلى تركيز ممكن في أقل وقت متاح، حتى يتمكَّن من الاستمتاع ببقية اليوم أو قضائه في أداء واجباته الدينية أو الاجتماعية.
—————————————————-
المصادر:
1 – رمضان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا [رسم بياني]
2 – British workers putting in longest hours in the EU, TUC analysis finds
3 – The case for a shorter workweek
4 – Long hours at the office could be killing you – the case for a shorter working week
5 – Driven to distraction: What causes cyberloafing at work?