إستراتيجية المقعد الفارغ.. هل يجب أن تنفذ رغبات العميل حتى لو كانت سخيفة؟
إذا كنت محظوظا بما فيه الكفاية، وتمكنت من حضور أحد الاجتماعات العليا داخل شركة أمازون العملاقة، فسوف تلاحظ شيئا غريبا: الرجل الأصلع الجالس أمامك على رأس طاولة الاجتماعات هو مؤسس الشركة ورئيس مجلس الإدارة "جيف بيزوس" الذي يملك حاليا ثروة تُقدَّر بـ 125 مليار دولار، وتحيط به مجموعة من كبار الإداريين والتنفيذيين بالشركة. إلى جانب بيزوس مباشرة، ستلاحظ أن هناك مقعدا فارغا، سيظل هكذا حتى نهاية الاجتماع. والأغرب أنك بين الحين والآخر، ستجد الجميع يتحدثون إلى هذا المقعد ويشيرون إليه باهتمام حقيقي غير مفتعل.
هذا المقعد الفارغ يصفه "بيزوس" دوما بأنه أهم شخص في غرفة الاجتماعات، إنه مقعد "العميل". عندما تتعالى الأصوات في الاجتماع، ويزيد الاختلاف في وجهات النظر، عادة ما يُذكِّر بيزوس الجميع بأن "آراءنا جميعا غير مهمة"، المهم أن نعرف بالضبط ما الذي يريده هذا، ويشير بإصبعه إلى المقعد الفارغ الذي يُمثِّل العميل، وهو ما اشتهر بين أوساط المسوِّقين والإداريين بـ"إستراتيجية المقعد الفارغ" التي تشير إلى مبدأ: العميل أولا.
بحسب "فوربس"، تتابع شركة "أمازون" مستويات أدائها في أقسامها العالمية كافة، من خلال مؤشرات أداء تقيس 500 هدف محدد، نحو 80% من هذه الأهداف مرتبطة بمتطلبات العملاء بشكل أساسي، وهو ما يجعل أمازون من أكثر الشركات اهتماما بمبدأ إرضاء العميل ولو جاء على حساب تحقيق الأرباح على المدى القصير. هذا المعنى عبَّر عنه بيزوس مرارا وتكرارا، مؤكدا أن أمازون لا تركز على أرباح الربع القادم من العام، بقدر ما تركز على أساليب زيادة رضا العميل في الربع القادم، وعندما يرضى العميل حتما سوف تزداد الأرباح. (1)
إنهم لا يأكلون اللحوم هنا
في عام 1962، ومن بين كل أفرع مطاعم "ماكدونالدز" للوجبات السريعة التي كانت تنمو بسرعة هائلة في الولايات المتحدة، كان الفرع الكائن في مدينة سينسيناتي التابعة لولاية أوهايو يشهد انخفاضا في المبيعات. استمر الأمر لفترة طويلة، ومع دراسة أسباب هذا الانخفاض الحاد في المبيعات، اكتشف "لو غروين"، المسؤول عن إدارة المطعم في المدينة، أن السبب الأساسي هو أن أغلب سكان هذه المنطقة من المسيحيين المحافظين.
كان سببا غريبا للغاية، ولكنه واقعي ويُشخِّص المشكلة بالضبط. أغلب سكان هذا الحي من المتدينين التابعين لإحدى الطوائف المسيحية المحافظة، وتنخفض المبيعات بشكل حاد بالتحديد يوم الجمعة، وهو آخر أيام العمل الذي يشهد في المعتاد تجمعات الموظفين الذين يتوجهون إلى مطاعم ماكدونالدز لشراء الوجبات الجاهزة ثم الذهاب إلى منازلهم وبدء عطلة نهاية الأسبوع. في هذا اليوم بالتحديد، كان معظم العملاء يتجنبون تماما شراء شطائر "برغر اللحوم" بأصنافها المعتادة، وذلك لأن معتقداتهم تحرم أكل جميع أنواع اللحوم يوم الجمعة باستثناء الأسماك.
May 30, 2011, Lou Groen, creator of McDonald's Filet-O-Fish, dies. He invented the sandwich to appeal to Catholic diners on Fridays. Ray Kroc was initially reluctant, but in 1965 the Filet-O-Fish became @McDonalds first addition to their original menu. #otd pic.twitter.com/i0mzCOP4cu
— This Day In Cincinnati (@TDICincinnati) May 30, 2022
ومع التراجع المستمر لمبيعات الفرع، كان لا بد أن يلتقي مدير الفرع "لو غروين" مع مؤسس ماكدونالدز "راي كروك"، وكلاهما رجل مبيعات مخضرم، لمحاولة البحث عن حلول لتخطّي انهيار المبيعات الحاد الذي يحدث دوريا في أيام الجمعة من كل أسبوع. (2)
المبيعات هي الفيصل
"كلا، أبدا! أنا لا أهتم حتى لو جاء البابا نفسه إلى سينسيناتي، يمكنه أن يأكل شطائر البرغر التي نقدمها مثله مثل أي شخص آخر. لن نلوّث مطاعمنا بتقديم شطائر الأسماك اللعينة!".
كانت هذه الكلمات الغاضبة هي أول ما قاله "راي كروك" لمدير الفرع "لو غروين" عندما اقترح عليه أن يقدم فرعه في سينسيناتي شطائر برغر الأسماك المقلية بدلا من شطائر اللحم التقليدية لرفع المبيعات من جديد. رفض كروك هذا الاقتراح بشدة، ودوّن هذه الكلمات في كتاب سيرته الذاتية الذي حكى فيه قصة نجاح وتطور ماكدونالدز "Grinding it out: the making of McDonald’s".
كانت فكرة راي كروك البديلة هي تقديم شطيرة "برغر هولا" (Hula Burger)، وهي شطيرة مكوّنة من الأناناس المشوي والجبن بدلا من شطائر اللحوم التي يعزف عنها سكان الحيّ المتدينون. ومع ذلك، أصرّ "لو غروين" على اقتراحه بتقديم شطائر الأسماك، وأقنع راي كروك بتجربة الفكرة على الأقل، فما كان منه إلا أن أرسل المسؤول عن تصميم شطائر ماكدونالدز إلى فرع سينسيناتي للبدء في تجهيز شطيرة "أسماك فيليه" جديدة بمواصفات ماكدونالدز.
وبصفته رجل مبيعات مخضرما، كان قرار "راي كروك" النهائي هو: فلنترك كل شيء للعميل وهو الذي يحدد ما يريده. وبناء على ذلك، اتفق الرجلان على عرض كلا المنتجين: شطيرة الأسماك الجديدة التي سُمّيت "Filet – O – Fish"، وشطيرة الأناناس المُفضّلة لكروك "Hula Burger"، على أن تكون المبيعات هي الفيصل النهائي لتحديد الفائز من الشطيرتين.
وبالفعل، قالت المبيعات كلمتها بفوز ساحق لشطيرة الأسماك التي أقبل عليها الجميع، وحققت نموا هائلا، وهو ما جعل كروك -الذي كان معترضا على الفكرة كلها- يقرر أن يعرض الشطيرة الجديدة ليس فقط في فرع سينسيناتي، ولكن في بقية فروع ماكدونالدز حول الولايات المتحدة.
استمرت شطيرة الأسماك التي صنعتها ماكدونالدز حتى يومنا هذا، وأصبحت واحدة من أكثر الشطائر المَبيعة في جميع الأفرع، وكتب "راي كروك" في مذكراته أن "لو غروين" لا يزال يسخر من هزيمة البرغر هولا أمام شطيرة الأسماك التي اقترحها، ولكنه -كروك- ما زال يتناول شطيرة الأناناس المُحببة إلى قلبه حتى لو هُزمت في الرهان! (2)
عندما تعبث مع عميلك الدائم
في منتصف الثمانينيات، ومع اشتداد المنافسة بين شركتَيْ "كوكا كولا" و"بيبسي"، أظهرت الأبحاث السوقية العامة أن المستهلكين يميلون أكثر إلى نكهة المشروبات الغازية ذات الطعم المُحلَّى، وهو ما جعلهم يميلون لمشروب بيبسي بشكل أكبر. هذه الاختبارات جاءت في وقت كانت فيه المنافسة بين بيبسي وكوكاكولا متقاربة للغاية، لكلٍّ منهما عملاؤه الذين تعوّدوا على طبيعة كل مشروب.
هذه الأبحاث السوقية جعلت الإداريين في شركة كوكاكولا يضعون نُصب أعينهم هدفا واحدا، وهو ضرورة تطوير منتجهم ليتماشى مع متطلبات السوق مهما كان الثمن للاستمرار في المنافسة مع بيبسي. في ذلك الوقت، كان قد مضى على مشروب كوكاكولا نحو قرن كامل من الزمن، وكانت تلك مناسبة جيدة للشركة لتعلن "مفاجأة" لعملائها بتغيير نكهة مشروبها بالكامل، وطرح منتج جديد كليا في السوق يميل طعمه إلى المذاق الحلو، وسمَّت المشروب الجديد بـ"الكولا الجديد" (New Coke).
في إبريل/نيسان عام 1985، أعلنت كوكاكولا عن منتجها الجديد، وأطلقت حملة ترويج ضخمة في كل وسائل الإعلام، وتوقع مسؤولو الشركة انفجارا في المبيعات. ولكن ما حدث كان عكس كل التوقعات، حيث تراجعت المبيعات بشكل حاد، وانهالت آلاف الشكاوى الغاضبة من مستهلكي الكوكاكولا تشكو رداءة المنتج الجديد الذي لا علاقة له بالطعم التقليدي لمشروبهم المفضل، وتطالب الشركة بإعادة المشروب الأصلي في أقرب وقت.
بعد ثلاثة أشهر تقريبا، كان عدد المكالمات والشكاوى الغاضبة التي تنهال على الشركة يوميا يزيد على 8 آلاف مكالمة، وهو ما اضطرها إلى عقد مؤتمر صحفي كبير تقدم فيه اعتذارها الشديد لعملائها عن تغيير منتجها، وتعلن الرضوخ لطلبهم بإعادة الوصفة الأصلية لمشروبها الغازي الشهير وسحب المشروب الجديد، ليسجلها التاريخ بوصفها واحدة من أقسى الحالات التي أُجبرت خلالها شركة كبيرة بحجم "كوكاكولا" على الرضوخ أمام المُستهلكين، مهما كانت إغراءات الإبداع والتطوير أو مخاوف المنافسة. (3)
ما يريده العميل.. لا ما تريده أنت
رغم أنه يبدو "بديهيا"، فإن مبدأ "مركزية العميل" (Customer Centricity) لا يزال يُعَدُّ من أكثر العقبات التي تتعثر بها الكثير من الشركات بمختلف مجالاتها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة. المبدأ كما يشير اسمه يعني ببساطة وضع العميل أولوية قصوى، وتلبية متطلباته كما يريدها بالضبط لتحقيق رضاه، ومن ثم ضمان عودته مرة أخرى واستمرار عمليات الشراء.
ولكن على الجهة المقابلة، غالبا ما تندفع معظم الشركات للتركيز على مبدأ "مركزية المنتج" (Product Centricity)، الذي يعني حشد كل قدرات الشركة لتطوير منتج أو منتجات محددة بهدف زيادة الإيرادات والاستحواذ على حصص سوقية أكبر مهما كان الثمن. هذا التركيز المبالغ فيه، رغم أنه ليس خطأ في حد ذاته، فإنه قد يدفع الشركات إلى إغفال ما يريده العميل بالفعل ويحقق رضاه، وتجاوزه إلى ما تظن الشركة أن العميل يريده، دون أخذ رأيه بصورة صحيحة.
بحسب دراسة لمؤسسة "باين آند كومباني" (Bain & Company) نقلتها "فوربس"، فإن 80% من الأعمال التجارية تعتقد أنها تقدم منتجاتها بناء على مبدأ "رضا العميل"، والمدهش أن 8% فقط من العملاء وافقوا أن هذه الأعمال تستهدف رضاهم بأي شكل. هذا الفارق الكبير بين متطلبات العميل الحقيقية من جهة، وما تظن الشركات أنه يحقق هذه المتطلبات من جهة أخرى، يُعَدُّ سببا أساسيا في الصدمات التي تتعرض لها العديد من الأعمال والمنتجات التي كان يُتوقَّع لها أن تسود الأسواق، ثم حققت فشلا ذريعا.
لذلك، تظل الكلمة العليا دائما للعميل مهما كانت متطلباته تقليدية أو بسيطة، أو مهما ظنَّت الشركة أن لديها حلولا أفضل مما يريده العميل. بحسب الإحصاءات، فإن منهجية "مركزية العميل" وتقديم منتجات وخدمات تنال رضاه وتُحوِّله إلى عميل دائم ينتج عنها مشتريات تزيد على 10 أضعاف المشتريات التي يدفعها العميل الجديد الذي يختبر السلعة أو الخدمة. والأهم من ذلك أن السعي للاستحواذ على عملاء جدد يُكلِّف الشركات نفقات ما بين 5-25 ضعف النفقات التي تبذلها لاستبقاء عملائها الحاليين. (4، 5)
في النهاية، لم يكن راي كروك مقتنعا بشطائر برغر الأسماك، وكان يرى أنها سخافة كبيرة لا ينبغي أن تُقدَّم في "ماكدونالدز"، ولكن الكلمة النهائية كانت للعملاء الذين أقبلوا على شراء المنتج، بغض النظر عن رأيه أو رؤيته للسوق. ولم يكن أمام "كوكاكولا" سوى الانصياع لرغبة عملائها بسحب مشروبها الجديد وإعادة القديم، مهما كان المبرر مُغلفا بشعارات التطوير ومواكبة السوق. يظل "المقعد الفارغ" الذي يُمثِّل العميل هو صاحب الكلمة العليا في جميع القرارات التي تتخذها الشركات الناجحة.
__________________________________________
المصادر: