شعار قسم ميدان

بدأت شركة تصدير أسماك.. كيف تحوّلت سامسونغ إلى إمبراطورية تقنية عالمية؟

في عام 1938، عندما قرر الشاب الكوري الجنوبي "لي بيونغ تشول" أن يخوض مغامرته الأولى في عالم الأعمال، لم تكن كوريا هي ذلك البلد المتحضر المليء بناطحات السحاب الذي نعرفه اليوم، حيث كانت آنذاك تحت الاحتلال الياباني. ولم تكن اليابان هي اليابان التي نعرفها اليوم أيضا، حيث كانت واقعة تحت حكم شمولي ديكتاتوري عسكري. ولم تكن ممارسة التجارة أيضا بسهولة اليوم نفسها في بلاد يسودها الفقر والقبضة الأمنية والتوترات السياسية.

لم يكمل "بيونغ تشول" تعليمه الجامعي، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والعشرين من عمره بعد، لكنه قرر أن يغامر بافتتاح شركة صغيرة في مدينة "تايجو" (Daegu)، إحدى المدن الهامشية في كوريا الجنوبية، متخصصة في تجارة "الأسماك المُجففة" التي تقوم بتصديرها إلى الصين تحديدا، فضلا عن التجارة المحلية في قطاع البقالة والأغذية الأساسية عالية الاستهلاك في البلاد، مثل الأرز والسكر والمعكرونة.

ومع حماسه لشركته الجديدة الصغيرة، قرر "بيونغ تشول" أن يسميها باللغة الكورية "النجوم الثلاثة". كان يعني بتلك النجوم الثلاثة رؤيته للشركة التي أسسها، التي لخّصها في 3 مبادئ: أن تكون شركة كبيرة، وأن تكون شركة قوية، وأن تبقى خالدة للأبد! ومع كون هذه المبادئ تبدو مبالغا فيها للغاية بالنسبة لشركة تصدير أسماك مجففة، ولكن يبدو أن الزمن أتاح لها الفرصة أن تحققها جميعا! (1، 2، 3، 4)

ثلاثة نجوم.. سامسونغ

البداية كانت في هذا المبنى المتواضع، حيث تأسست سامسونغ بوصفها شركة تصدير أسماك مجففة وبعض منتجات البقالة. (مواقع التواصل)

اسم هذه الشركة باللغة الكورية هو "سامسونغ". بالطبع كل شخص حول العالم في قاراته المختلفة يعرف الآن هذا الاسم حتى ولو جهِل معناه، ولكنه آنذاك لم يكن أكثر من مجرد اسم طموح لشركة صغيرة تعمل في قطاع محدود. منذ تأسيسها في ذلك المبنى البسيط، وبعدد موظفين لا يتجاوز الأربعين، استطاعت "سامسونغ" خلال فترة نهاية الثلاثينيات حتى منتصف الأربعينيات تحقيق نجاحات لا بأس بها في مجالها الذي افتُتحت من أجله: تصدير الأسماك المجففة والتجارة المحلية في السلع الاستهلاكية الأساسية.

ومع الازدهار الذي شهدته الشركة، قرر "بيونغ تشول" عام 1947 نقل مقر شركته إلى العاصمة الكورية سيول، ليبدأ مرحلة جديدة في توسيع نشاط الشركة محليا وإقليميا، وشراء بعض المعدات والمخازن. ومع هذه البداية الجديدة الطموح، فإنها لم تستمر كثيرا بسبب اندلاع الحرب بين الكوريتين الشمالية والجنوبية عام 1950 التي استمرت 3 سنوات أهدرت أنهارا من الدماء وأدت إلى إضعاف الاقتصاد، وهو ما اضطر مؤسس سامسونغ أن يتوجه إلى مدينة "بوسان" في أقصى الجنوب، ويبدأ من جديد.

هذه المرة ركَّز "بيونغ تشول" على تأسيس مصنع للسكر، ومع اتجاه البلاد إلى تطوير قطاع التصنيع بعد نهاية الحرب الكورية فإنه أسس مصنعا للأصواف عُدَّ هو الأكبر من نوعه في البلاد آنذاك.

تشايبول

عُدَّ "بيونغ تشول لي" واحدا من أهم أعمدة المال والأعمال الصناعيين الوطنيين في كوريا الجنوبية. (مواقع التواصل)

مع الدعم الحكومي الكبير لرجال الأعمال المهتمين بتطوير الاقتصاد وتأسيس قواعد صناعية كبيرة في البلاد، تولّدت طبقة من رجال الأعمال في المجتمع الكوري آنذاك أُطلق عليها اسم "تشايبول" (Chaebol)، التي تضم مجموعة من الصناعيين والرأسماليين المسؤولين عن تطوير الصناعات والأعمال في البلاد، وعلى رأسهم "بيونغ تشول"، مؤسس سامسونغ، الذي كان قد بدأ اسمه يشتهر بوصفه رائد أعمال وطنيا طموحا.

بنهاية الخمسينيات، كانت سامسونغ بدأت منهجا جديدا في التوسع إلى عدة قطاعات، مع انضمام عدد من الشركاء والمستثمرين للشركة، لتتحول إلى شركة واسعة النمو، استحوذت على 3 بنوك تجارية فضلا عن دخولها إلى قطاع الأسمنت والأسمدة. ومع مطلع الستينيات، استحوذت سامسونغ على عدد من شركات التأمين، وشركة لتكرير البترول، وشركة لتصنيع النايلون، مع توسّعها في افتتاح متاجر تجزئة في جميع أنحاء المدن الكورية.

وفي عام 1969، ظهر هدف جديد أثار اهتمام المجموعة الكورية الواعدة، الذي كان اهتماما استثنائيا آنذاك: التقنية. كانت البلاد تتجه إلى سياسة شاملة لما سمَّته "محو الأمية الإلكترونية" بعد نهاية الحرب الكورية، وتركز على تطوير قواعدها التكنولوجية، وهو ما جعل دخول عالم التقنية أمرا أساسيا بالنسبة لرجال الأعمال والشركات الكبرى، وعلى رأسها مجموعة سامسونغ.

البداية: أبيض وأسود

في مطلع السبعينيات، صدر جهاز التلفاز الأول لسامسونغ بإمكانيات متواضعة، بمقياس 12 بوصة، باللونين الأبيض والأسود فقط. (شترستوك)

في مطلع السبعينيات، ظهر في السوق الكوري أول جهاز تلفاز بمقاس 12 بوصة من صناعة شركة سامسونغ، وهو أول منتج تقني تنتجه الشركة على الإطلاق. كان التلفاز بسيطا متواضعا وبدون ألوان (أبيض وأسود فقط)، وجاء عبر التعاون مع شركة يابانية زوَّدت سامسونغ بالخبرة الفنية اللازمة لافتتاح قسمها الجديد المتخصص في صناعة الأجهزة الإلكترونية.

وعلى الفور، شرعت سامسونع في تصدير جهازها التقني الأول إلى دولة بنما، ثم توسّعت لتصنيع أجهزة إلكترونية أخرى مثل غسالات الأطباق والثلاجات، إلى جانب أجهزة التلفاز الملوّنة. لاحقا، ومع اهتمام الشركة الكورية الطموح بالتوسع في القطاع الإلكتروني، استحوذت على حصة أغلبية في شركة أشباه موصِّلات، وهو ما سيحقق لها قفزة نوعية كبيرة في المنافسة في سوق الإلكترونيات في العقود التالية.

كان عقد السبعينيات نقطة محورية في تحول سامسونغ إلى القطاع الإلكتروني، حيث بدأت بتكثيف صادراتها إلى الخارج، والتحول إلى لاعب عالمي في هذا المجال. بقدوم عام 1978، كانت سامسونغ قد أنتجت أكثر من 4 ملايين جهاز تلفاز، وافتتحت مقرا لها في الولايات المتحدة، وصدَّرت الآلاف من الأجهزة لمختلف الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.

بقدوم الثمانينيات، بدأت سامسونغ في المنافسة في عدد من القطاعات التقنية الأخرى، حيث قامت بتصنيع أول حاسوب آلي شخصي عام 1983 للسوق الكورية فقط، وتوسعت في تصنيع منتجات إلكترونية أخرى تشمل الهواتف وأجهزة التلفاز والمراوح الكهربائية وغيرها، مما جعلها من أكثر العلامات التجارية انتشارا خصوصا في الدول صاحبة الاقتصادات النامية.

بنهاية الثمانينيات، في عام 1987 تحديدا، فارق "بيونغ تشول" الحياة عن عمر يناهز السابعة والسبعين متأثرا بسرطان الرئة، ليصبح رمزا وطنيا بوصفه أحد أهم رواد الأعمال الكوريين الذين ساهموا في نهضة البلاد وتأسيس قاعدتها الصناعية، ولتبدأ سامسونغ مرحلة جديدة تماما في مسيرتها.

غيِّروا كل شيء

لي كُون هي (Lee – kun – hee) تولّى رئاسة الإلكترونيات في سامسونغ خلفا لأبيه، ولعب دورا محوريا في تطوير شركة سامسونغ التقنية العالمية (مواقع التواصل)

عقب وفاة "لي بيونغ تشول"، انقسمت مجموعة سامسونغ الضخمة التي أسسها إلى 5 شركات تجارية، وتولّى ابنه "لي كُن هي" إدارة شركة الإلكترونيات، بينما تولى إدارة الشركات الأخرى بقية أبناء وبنات رجل الأعمال الراحل. ورغم الشهرة الكبيرة لسامسونغ في كوريا باعتبارها الشركة الوطنية الأقوى، فإن المدير الجديد للشركة أدرك أنه يواجه تحديا ليس سهلا فيما يخص تحويل سامسونغ إلى شركة عالمية.

فرغم الانتشار الكبير لمنتجات سامسونغ الإلكترونية، فإنها لم تكن بجودة كافية للمنافسة العالمية، خصوصا في مواجهة الشركات الأميركية واليابانية والألمانية عالية الجودة. كتب أحد المتخصصين الكوريين، ويُدعى "سي جين تشانغ"، في كتابه "سامسونغ في مواجهة سوني" الذي صدر عام 2008 أن "المروحة التي تُنتجها سامسونغ كانت متواضعة للغاية شكلا وتصميما وتصنيعا، لدرجة أن رفعها بيد واحدة كان كفيلا بكسر رقبتها". اشتهرت سامسونغ في تلك الفترة باعتبارها مُصنِّعا لأجهزة إلكترونية رخيصة مناسبة للأسواق النامية. (6)

في منتصف التسعينيات، قرر "لي كُن هي" تأسيس مبدأ إداري جديد كليا في سامسونغ، وتحويلها من شركة تنتج منتجات إلكترونية رخيصة إلى شركة تنافس أضخم الشركات المُنتجة للتقنيات الجديدة شديدة التطور، وتطرح منتجات تتميّز بأعلى مستوى من الجودة. تحكي العديد من المصادر عن واحد من أكثر المواقف تأثيرا في تاريخ الشركة، عندما قامت الشركة بتصنيع نسختها الأولى من الهواتف، التي كانت متواضعة الجودة للغاية، هنا اجتمع مديرها مع عدد من التنفيذيين قائلا عبارته الشهيرة: "غيِّروا كل شيء، باستثناء زوجاتكم وأطفالكم!".

بعدها، توجَّه "لي كُن هي" إلى أحد المصانع التي تقوم بتصنيع المنتجات الرخيصة متواضعة الجودة وتشمل أجهزة فاكس وهواتف ومراوح وثلاجات، وأمر -أمام الأعين الذاهلة لآلاف العمال والموظفين- بتدمير جميع هذه الأجهزة بالمطارق، وإحراق بعضها، مما تسبب بخسائر قُدِّرت بنحو 50 مليون دولار. كانت هذه اللحظة بمنزلة إثبات واضح للجميع على عزم الشركة في التحول إلى مسار مختلف تماما لصناعة منتجات ذات جودة عالية، والتخلي عن مسار المنتجات ضعيفة الجودة رخيصة الثمن. (1)

بداية جديدة

عام 2002، أطلقت شركة سامسونغ هاتفها "SGH T100" الذي كان يُعَدُّ ثوريا آنذاك في عالم الهواتف، وعُدَّ واحدا من أكثر الهواتف مبيعا حول العالم بأكثر من 12 مليون وحدة، (رويترز)

بعد هذا القرار، اتخذت سامسونغ تحولا إستراتيجيا في مسار منتجاتها عُدَّ بالنسبة للكثير من الشركات حول العالم نموذجا على نجاح التحولات الإستراتيجية للشركات وإعادة خلق علامتها التجارية من جديد (Rebranding Strategy). بنهاية التسعينيات، بدأت منتجات سامسونغ ذات الجودة العالية في الظهور، على رأسها أجهزة التلفاز الرقمية عالية الجودة التي ظهرت عام 1998، ثم تلاها ظهور أول هاتف سامسونغ يدعم تشغيل مقاطع الصوت "MP3″، في الوقت الذي كانت شركة نوكيا الفنلندية تهيمن فيه على الأسواق العالمية.

بقدوم عام 2002، ومع ضخ سامسونغ أموالا طائلة في قطاع البحث والتطوير (Research and development)، أطلقت الشركة هاتفها "SGH T100" الذي كان يُعَدُّ ثوريا آنذاك في عالم الهواتف، وعُدَّ واحدا من أكثر الهواتف مبيعا حول العالم بأكثر من 12 مليون وحدة، وهو ما جعل الشركة تكثف من تركيزها على الجودة في عالم الهواتف، جنبا إلى جنب مع التحديثات التقنية في جميع الأجهزة الأخرى التي تنتجها.

وخلال العقد الأول من الألفية، طوّرت سامسونغ تقنيات جديدة لصناعة أجهزة التلفاز ومختلف الأجهزة، لتحتل المركز الأول عالميا بوصفها أكبر مُصنِّع لأجهزة التلفاز في عام 2008، بعد عدة عقود من إنتاجها جهاز التلفاز الأول متواضع الإمكانيات الذي أصدرته عام 1969. وبحلول عام 2009، كثَّفت سامسونغ منافستها الشرسة في سوق الهواتف الذكية بإصدارها أول هاتف ذكي بنظام تشغيل أندرويد، الذي طُوِّر لاحقا ليصبح واحدا من أكثر الهواتف الذكية مبيعا خلال العقد الثاني من القرن الحالي، لتستمر الشركة الكورية الجنوبية بوصفها واحدة من أضخم الشركات العالمية في سوق الهواتف حتى اليوم، إلى جانب نشاطها في عشرات المجالات الأخرى بالعلامة التجارية نفسها.

رغم صعود العديد من المنافسين الكبار في الأسواق العالمية، فإن الأرقام تقول إن شركة سامسونغ ما زالت تستحوذ على الحصة الأكبر من هذا السوق عالميا (الأناضول)

اليوم، تتربع سامسونغ على عرش أكبر الشركات التقنية الأكثر تحقيقا للمبيعات في سوق الهواتف الذكية، في منافسة حامية مع غريمتها الأميركية "أبل"، ورغم صعود العديد من المنافسين الكبار في الأسواق العالمية، فإن الأرقام تقول إن الشركة الكورية ما زالت تستحوذ على الحصة الأكبر من هذا السوق عالميا، بنسبة 22% من إجمالي حجم السوق. بمعنى أوضح، من بين كل خمسة أشخاص يملكون هاتفا ذكيا حول العالم، هناك شخص واحد يحمل هاتفه شعار سامسونغ. (5)

في النهاية، ربما من الصعب تصديق أن عملاقا عالميا يوظف أكثر من 300 ألف شخص وينشط في جميع القطاعات الممكنة تقريبا بدءا من الكيماويات مرورا بالإنشاءات وليس انتهاء بالإلكترونيات والأجهزة الرقمية، بدأ شركة تصدير أسماك مجففة يعمل فيها 40 عاملا. لكن الحقيقة في الكثير من الأحيان قد تكون مدهشة كالخيال، بل يمكن القول إنها في حالة سامسونغ قد تجاوزت الخيال بالفعل.

___________________________

المصادر:

  1. How Samsung Got Big
  2. How Samsung Went From A Dried Fish Exporter To One Of The Top Names In Tech
  3. From Fish Trader to Smartphone Maker
  4. How Samsung Went From A Dried Fish Exporter To One Of The Top Names In Tech
  5. Samsung Electronics
  6. Sony vs Samsung
  7. Samsung world’s largest smartphone brand in 2022: Report
المصدر : الجزيرة