الركود يضرب الجميع.. فما الأعمال الأكثر صمودا أمام الأزمات الاقتصادية؟
في الظروف العادية، يظل بدء نشاط تجاري أو مشروع صغير مهمة شاقة، حيث التخطيط ووضع الميزانيات وهوامش الربح والخسارة والتشغيل والتوريد والصراع مع المنافسين لجذب العملاء، فما بالك إذن ببدء نشاط تجاري في ظروف غير عادية، وأوقات يمر فيها العالم بركود اقتصادي عميق بدأت بوادره منذ نهاية عام 2021، ومن المتوقع أن يصل في العام الجاري 2023، ولا يوجد توقعات واضحة حول تاريخ نهايته حتى الآن.
ماذا يعني الركود الاقتصادي؟ إنه يعني باختصار ارتفاع الأسعار بسبب التضخم، وبالتالي إحجام العملاء عن الشراء، مما يؤدي إلى خسائر حادة في إيرادات معظم المشاريع، وهو ما ينعكس بالتبعية سلبا على نِسَب تشغيل العمال والموظفين، ويرفع نسبة البطالة سواء عبر تسريح الموظفين أو تجميد عمليات التوظيف في الشركات والمشاريع المختلفة. لذلك، من البديهي أن يعزف أصحاب رؤوس الأموال عن المخاطرة بأموالهم في السوق في أوقات الركود، ويلجأون للحل الأكثر أمانا: ضع أموالك في المصرف حتى تمرّ الأزمة! (1)
ومع ذلك، تبرز مجموعة معينة من الأعمال يسمّيها الاقتصاديون بـ"الأعمال التجارية المُضادة للركود" (Recession Proof Businesses)، وهي المشاريع التي تستمر صامدة أمام الأمواج العاتية من التضخم وارتفاع الأسعار في السلع والخدمات، التي أثبتت على مرّ السنين أنها الأعمال الأكثر رسوخا في مواجهة أية أزمات اقتصادية عالمية بهذا المستوى.
ما بين الرغبات والاحتياجات
لتوضيح المبدأ الذي تقوم عليه "الأعمال التجارية المُضادة للركود" يجب أن نستحضر دائما الفرق بين "الاحتياجات" (Needs) و"الرغبات" (Wants) بالمعايير الاقتصادية. الاحتياجات ببساطة هي السلع والخدمات اللازمة لتسيير حياة الناس اليومية التي من الممكن أن يتضرروا بشدة في غيابها، بينما تُمثِّل الرغبات السلع والخدمات ذات الطابع الترفيهي أو الكمالي التي يمكن الاستغناء عنها بسهولة أو بالقليل من الجهد في أوقات الأزمات. مثال بسيط: شراء الطعام بالتأكيد هو حاجة يومية ضرورية، بينما شراء لوحة فنية أنيقة من أحد المتاجر لتعليقها في صالة المنزل أو تحديث هاتفك الذكي هي رغبات ترفيهية يمكن الاستغناء عنها.
إذن، وفي محيط اقتصادي يتسم بالركود وعزوف الناس عن الشراء، مَن الذي سيصمد بشكل أكبر: المتجر الذي يقدم منتجات غذائية استهلاكية ضرورية، أم المتجر الذي يقدم لوحات فنية أنيقة تُعلق على الجدران؟ بالتأكيد -ومع الإقرار بحقيقة أن الركود يؤثر على جميع القطاعات- فرص نجاة القطاعات الضرورية للاستهلاك الأساسي اليومي أكبر من القطاعات الكمالية التي تلبي "رغبات" يمكن العزوف عنها تماما أو تأجيلها على الأقل.
خلال فترات الركود، أول ما يقوم به الناس عادة هو تقليل الإنفاق على السلع والخدمات غير الضرورية، بهدف توفير المال للإنفاق على الضرورات. لذلك، فإن الأعمال التجارية مثل "المطاعم الفاخرة" ومتاجر الموضة والأزياء وغيرها من الخدمات الاستهلاكية غير الأساسية غالبا تتلقى ضربة قوية في تلك الظروف أكثر من غيرها التي تعتمد على توجيه أعمالها للمجالات الأساسية.
يمكن القول إن كلمة السر التي تحدد مدى صمود مشروع تجاري من عدمه في فترة تراجع الاقتصادات محليا وعالميا هي التركيز على الصناعات "عالية الطلب" بغض النظر عن حالة الركود أو قسوته. في تصريح لخبير التخطيط المالي الأميركي لورانس بون لصحيفة "ذا بالانس"، قال: "أقترح على أصحاب المشاريع أن يختاروا الأعمال التجارية التي تلقى طلبا رائجا على الدوام بغض النظر عن حالة الاقتصاد". (2، 3)
الرعاية الصحية.. الأكثر تحصينا من الركود
بلا منازع، يأتي قطاع الرعاية الصحية (Healthcare) على رأس الصناعات المضادة للركود الاقتصادي والأقل تأثرا به، والسبب في ذلك بسيط ومنطقي وهو أنه بغض النظر عن المشكلات الاقتصادية، فالناس يمرضون، ولا يكفّون عن طلب الرعاية الصحية العاجلة أو الروتينية مهما كانت المشكلات القائمة. بمعنى أوضح، قطاع الرعاية الصحية تحديدا من أكثر القطاعات عالية الطلب (High Demand) طوال الوقت، التي لا تتأثر سلبا بشكل حاد بالانزلاقات الاقتصادية، بل في بعض الأحيان تشهد بعض القطاعات الطبية رواجا في أوقات الأزمات، مثل قطاع "الصحة النفسية" الذي يتزايد الإقبال عليه أثناء فترات الاضطرابات المالية والاجتماعية.
في دراسة حديثة صدرت عام 2021 بواسطة مجموعة من الباحثين في جامعة إلينوي – شيكاغو، ترصد العلاقة بين الظروف الاقتصادية وبين معدلات "التوظيف" في قطاع الرعاية الصحية أثناء فترات الركود الاقتصادي، وُجد أن معدلات التوظيف في هذا القطاع تواجه ثباتا كبيرا مهما كانت حِدَّة الأزمات الاقتصادية، بل وحققت في بعض المراحل نموا بعكس جميع القطاعات الأخرى التي انعكست الظروف الاقتصادية عليها متسببة في ارتفاع معدلات البطالة.
وبلغة الأرقام والإحصاءات، تقول الدراسة إنه في أوقات الركود الاقتصادي، وفي مقابل كل ارتفاع بنسبة 10% في إجمالي معدلات البطالة في مختلف القطاعات، ترتفع نسبة البطالة في قطاع الرعاية الصحية بنسبة 1.27% فقط، وهو معدل منخفض للغاية، مما يدل على استمرار الطلب على هذا القطاع بغض النظر عن الواقع الاقتصادي، بدليل انخفاض البطالة فيه وارتفاع نسبة التشغيل للطواقم الطبية.
ورغم أن العديد من مجالات الرعاية الصحية تشهد ثباتا في وجه العاصفة، فإن بعض الخدمات الصحية تشهد تراجعا في أوقات الركود الاقتصادي، خصوصا قطاع التجميل (Cosmetics) وبعض العلاجات التي لا تُعَدُّ ضرورية ويمكن تأجيلها، لكن قطاع الرعاية الصحية بالمُجمل يُعَدُّ من القطاعات التي أثبتت تاريخيا تجاوزها لأية عواصف اقتصادية بأقل ضرر. (3، 4)
قطاع البقالة والمأكولات والمشروبات
وإذا كان قطاع الرعاية الطبية ضروريا لمعالجة الأمراض، فإن قطاع البقالة والمأكولات والمشروبات (Grocery, food and beverages) لا يقل ضرورة وإلحاحا لأنه مرتبط بنشاط الناس اليومي. فبغض النظر عن وضعك الاقتصادي، أنت تحتاج إلى الطعام والشراب للبقاء على قيد الحياة.
تأتي متاجر البقالة بوصفها أحد أكثر الأنشطة التجارية ثباتا في وجه الركود العالمي، خصوصا تلك التي توفر سلعا استهلاكية متداولة وضرورية للحياة اليومية، مثل الأطعمة المعلبة والمأكولات والمشروبات مقبولة الأسعار. الأمر نفسه ينطبق على الكثير من سلاسل المطاعم السريعة التي تقدم الوجبات السريعة والاقتصادية، ما يتيح الاستمرار أثناء العاصفة، حتى لو ارتفعت أسعار خدماتها نسبيا خلال فترات الركود.
في المقابل، يُتوقع أن المطاعم التي تقدم وجبات فاخرة أو المتاجر التي تقدم أطعمة مرتفعة الثمن ستواجه تراجعا بسبب عزوف العملاء وتحوُّل تفضيلاتهم إلى شراء ما يحتاجون إليه حقا. وقد أثبتت الأزمة المالية العالمية خلال العامين 2008-2010 أن المطاعم من هذا النوع حققت خسائر فادحة. (5)
خدمات التسويق الإلكتروني
خلال عام 2022، تجاوز إجمالي الإنفاق على خدمات التسويق الإلكتروني المختلفة أكثر من 600 مليار دولار، وهو رقم هائل يشير إلى أن التسويق الرقمي يكاد يطيح بأدوات التسويق التقليدي. في الواقع، ومع الركود الذي يعمّ العالم خلال عام 2023، فمن المتوقع أن يزداد توجُّه الشركات إلى أدوات التسويق الرقمي بشكل أكبر، بسبب ارتفاع تكلفة أدوات التسويق التقليدي مثل الإعلان عبر التلفاز أو حملات الإشهار في الشوارع والمُلصقات.
كما هو متوقع، تتجه العديد من الأعمال التجارية إلى خفض ميزانياتها التسويقية العامة بسبب الركود، وسوف تستهدف بشكل خاص أدوات التسويق الرقمي الأرخص والأكثر فعالية، وذلك من خلال التركيز على إستراتيجيات التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنهجيات تطوير محركات البحث (SEO) والتسويق عبر المؤثرين وغيرها، وهي كلها خدمات تندرج تحت التسويق الرقمي وتحقق عوائد كبيرة كونها تستهدف بالضبط الشرائح المهتمة بالمنتجات.
وهناك مزايا أخرى تساعد في انتعاش شركات التسويق الرقمي، منها قدرتها على تقديم حلول للأعمال التجارية بمختلف ميزانياتها، كما أنها تقدم خدمات خارجية متكاملة (Outsource) التي من المتوقع أن تستهدفها الكثير من الشركات التي قد تسرِّع من وتيرة تسريح موظفيها الأساسيين بسبب التقلبات الاقتصادية، وتعتمد في المقابل على شركات التسويق الرقمي لإنجاز أعمالها التسويقية بوصفها بدائل أرخص لأطقمها الوظيفية، خصوصا أن شركات التسويق الرقمي يُدفع لها مقابل إتمام المشروع (Per Project Basis)، ولا يدفع لها راتب ثابت على مدار العام. (5، 6)
التجارة الإلكترونية والشحن والتوصيل
باعتبار أن شعار المرحلة هو: الاحتياجات أولا، فمن المؤكد أن الكثير من متاجر التجزئة (Retail) المتخصصة في جميع المجالات، بما فيها الألعاب والملابس والأجهزة وغيرها، لن تعيش عامها الأفضل في ظل ركود اقتصادي شامل. لكن على الجهة المقابلة، فإن منصات التجارة الإلكترونية (eCommerce)، رغم ارتباطهما الوثيق، لن تعاني درجة السوء نفسها.
ففي الوقت الذي سوف تتأثر فيه متاجر التجزئة بانخفاض إقبال عملائها المباشرين، وبالتالي انخفاض إيراداتها، ويُضاف عليها التزاماتها بنفقات تشمل رواتب العاملين في المتاجر وإيجار المخازن والصيانة والمتابعة وغيرها، فعلى الجهة المقابلة لن تتأثر كثيرا متاجر التجارة الإلكترونية التي تعتمد بالأساس على تلقّي طلبات الشراء من العملاء وتحويلها إلى المتاجر المختلفة، دون نفقات للتخزين أو الصيانة. بمعنى أوضح، منصات التجارة الإلكترونية التي تعمل فقط وسيطا بين العميل والبائع ستكون أقل تضررا من متاجر التجزئة المباشرة، وإن كانت ستتأثر بانخفاض حركة البيع والشراء من خلالها.
الأمر نفسه بالنسبة إلى قطاع الشحن والتوصيل واللوجستيات، الذي سوف يستمر نشطا حتى أثناء الركود الاقتصادي باعتبار أن النقل والتوصيل هو العمود الفقري للأنشطة الاقتصادية حتى وإن تباطأت وتيرتها. (5)
التعليم الرقمي
عندما يأتي الركود الاقتصادي، فإن أول علاماته -وأقساها أيضا- هو ارتفاع معدلات البطالة، سواء بتسريح الموظفين من وظائفهم أو بتجميد عمليات التوظيف. وعندما ترتفع البطالة، فعادة أول ما يلجأ إليه العاطلون عن العمل هو التوجّه لتعلم مهارات جديدة تعزز من سيرتهم الذاتية، وبالتالي إمكانية حصولهم على وظيفة بامتيازات جيدة خلال فترة وجيزة.
بحسب دراسة سوقية أجرتها منصة "Allied Market research"، فإن حجم صناعة التعليم الرقمي (e-learning) من المتوقع أن ينمو من 197 مليار دولار خلال عام 2020 إلى 840 مليار دولار بحلول عام 2030، ليصبح التعليم الإلكتروني واحدا من أضخم القطاعات نموا خلال العقد الحالي. الإحصاءات لا تركز على "التعليم الأكاديمي"، بل جميع أنواع التعليم الرقمي، بما فيه تعليم الرقص واليوغا والحرف اليدوية، وكل شيء يمكن تعلّمه إلكترونيا سواء كان مجالا متخصصا كالفيزياء النظرية، أو هواية حرفية كصناعة الزينة.
لذلك، من المتوقع أن تشهد منصات التعليم الرقمي صعودا ملحوظا خلال فترة الركود الاقتصادي، خصوصا المنصات التي تُقدِّم إمكانية تعلم مهارات ذات صلة مباشرة بالتخصصات الأكثر نشاطا في أسواق العمل المتراجعة حول العالم. (5، 7، 8)
في النهاية، تظل القاعدة الذهبية للصمود أمام عاصفة الركود الاقتصادي هي التركيز على القطاعات التي تلبِّي الاحتياجات الضرورية والابتعاد -ولو مؤقتا- عن الصناعات الكمالية والترفيهية، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام مجالات ضرورية واسعة كصيانة السيارات وترميم البيوت وخدمات التنظيف، وغيرها من السلع والخدمات التي تستهدف تقديم المعادلة السحرية: "حاجة ضرورية + خدمة (قيمة) جيدة + سعر معقول".
____________________________________________
المصادر
- الأيام السعيدة ولَّت.. كيف يؤثر التضخم والحرب على تمويل الشركات الناشئة؟
- The Best Businesses To Start in a Recession
- The 4 most ‘recession-proof’ industries to work in, according to economists
- Study finds healthcare sector largely immune to economic downswings
- Top 10 Recession-Proof Industries & Business Ideas for 2023
- Digital advertising spending worldwide from 2021 to 2026
- E learning Market
- 7 Ways to Recession-Proof Your Business