العبث مع الكبار.. هل قررت الصين تدمير إمبراطورية علي بابا؟

في نهاية عام 2020، وبدون سابق إنذار، اختفى رجل الأعمال الصيني الأشهر "جاك ما" عن الساحة العامة. كان اختفاء مؤسس منصة "علي بابا" الشهيرة للتجارة الإلكترونية، وواحد من أغنى أغنياء الصين بثروة تقترب من الخمسين مليار دولار، مفاجئا وغامضا، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الصحافة ودوائر المال والأعمال العالمية في البحث عن إجابة سؤال واحد: أين اختفى "جاك ما"؟
مع مطلع عام 2021، عاد "جاك ما" إلى الظهور في بعض الفعاليات البسيطة، وبشكل رمزي مختصر، وهو الشخص الذي اعتاد الظهور في كل مكان وإلقاء محاضرات مطوَّلة، مما زاد من التكهنات حول الصراعات التي يخوضها رجل الأعمال الصيني الأشهر مع النظام الحاكم في الصين. (1)
للوهلة الأولى، ومع ثروة ونفوذ كبيرين كالذي يملكهما "جاك ما"، قد تظن أنه بدأ رحلته في الحياة في بيت عُرف عنه الثروة والنفوذ، ولكن الحقيقة أن صاحب الخمسين مليار دولار لم تبدأ قصته في قصر، ولم يتخرج في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، لكن البداية كانت أكثر تواضعا بكثير. (2، 3، 4، 5، 6)
البدايات: مراهق مشاغب

لأسرة صينية تقليدية تنتمي إلى طبقة فقيرة، وفي مدينة هانغتشو التي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من الصين، وُلد "ما – يون" (Ma – Yun) عام 1964، ثالثا لإخوته في مدينة هامشية في دولة مترامية الأطراف محكومة بنظام شيوعي حديدي. كانت الستينيات فترة دموية في تاريخ الصين التي كانت أشبه بسجن كبير منعزل تماما عن العالم.
بقدوم السبعينيات، ومع بدء دخول "ما – يون" إلى مرحلة المراهقة التي قضاها بين المدرسة وممارسة بعض الأعمال لمساعدة أسرته الفقيرة، بدا أن هناك بوادر انفتاح صيني على العالم، خصوصا مع زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لمدينة هانغتشو، وهو ما حوَّل المدينة بالتدريج إلى مدينة سياحية. بدأ المراهق المشاغب في التوجُّه إلى الفندق الرئيسي للمدينة، عارضا على السياح اصطحابهم في جولة حول المدينة مقابل أن يُعلِّموه بعض الكلمات الإنجليزية.
وفي إحدى تلك الجولات، شعر أحد السياح الأجانب بالأُلفة مع المراهق الصيني وأصبح صديقا له، لكنه -السائح- كان يجد صعوبة في نُطق اسمه ناهيك بتذكُّره، كعادة الغربيين في التعامل مع الأسماء الصينية، فقرَّر أن يُطلق عليه اسم "جاك" ليتحوَّل اسمه إلى "جاك – ما". ربما لم يكن يتخيل ذلك المراهق الصيني البسيط أن هذا الاسم الذي أطلقه عليه السائح وراق له سيتحوَّل لاحقا إلى واحد من أشهر الأسماء في عالم المال والأعمال داخل الصين وخارجها.
الكثير من (لا)!

بعد انتهاء فترة المدرسة، واجه "جاك ما" صعوبات كبيرة للالتحاق بالكلية، حيث حاول الالتحاق بكلية المُعلمين في المدينة لكنه فشل مرتين في اجتياز الاختبارات، خصوصا اختبار الرياضيات التي كانت نقطة ضعفه دائما. وأخيرا، وفي المحاولة الثالثة، قُبِل "جاك ما" في كلية المعلمين ليتخرج فيها سنة 1988 حاملا درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية، وليبدأ -مثله مثل آلاف الخريجين سنويا- رحلة البحث عن وظيفة مناسبة.
في سيرته الذاتية، يقول "جاك ما" إنه بعد التخرج في الجامعة تقدَّم إلى 31 وظيفة، وكانت النتيجة أنه رُفِض فيها جميعا. ويذكر دائما في محاضراته وندواته أحد أشهر المواقف الطريفة التي مرَّ بها في بداية حياته الوظيفية، إذ ذهب للتقديم للحصول على وظيفة في أحد فروع متجر "كنتاكي" (KFC) الذي كان قد افتُتح حديثا في مدينته، مع بدء اتخاذ الدولة إجراءات انفتاحية على الغرب. يقول إن عدد المتقدمين للعمل كان 24 شخصا، قُبِل منهم 23 شخصا وكان هو الوحيد الذي رُفِض من بينهم جميعا!
خلال الفترة ما بين تخرجه عام 1988 حتى عام 1994، عمل "جاك ما" في عدد من الوظائف الثابتة والمستقلة، حيث عمل مُدرِّسا للغة الإنجليزية في جامعة هانغتشو براتب شهري 12 دولارا فقط، مما اضطره إلى شغل بعض الوظائف المستقلة مثل مترجم للغة الإنجليزية، كما عمل في بعض الوظائف المؤقتة في الفنادق. حاول "جاك ما" التقديم إلى العديد من الوظائف وفرص الدراسة المميزة، كان أبرزها التقدُّم لكلية هارفارد للأعمال، لكنه رُفِض 10 مرات، بحسب تصريحه.
بوصول "جاك ما" إلى سن الثلاثين، كانت حياته الوظيفية متواضعة، وإن كانت مستقرة. كان من الواضح أن المسار الوظيفي للشاب الصيني مرتبط بكونه يُجيد اللغة الإنجليزية ويتحدثها بطلاقة ويعمل مُحاضرا ومترجما بسهولة. ولكن بقدوم عام 1994، تغيَّر كل شيء.
منجم جديد للفرص

مع الخبرة الكبيرة لـ"جاك ما" في اللغة الإنجليزية، قرَّر في عام 1994 افتتاح شركة صغيرة لأعمال الترجمة، وبدأت تتعامل مع الشركات الصينية التي تحتاج إلى خدمات الترجمة من الإنجليزية إلى الصينية والعكس. في بداية عام 1995، سافر برفقة وفد من إحدى الشركات الصينية إلى الولايات المتحدة، ليقوم بمهام الترجمة المعتادة، ليتعرف هناك على أهم فرصة واتته في حياته: شبكة الإنترنت.
منذ اللحظات الأولى، سحرت شبكة الإنترنت "جاك ما"، حيث لم يكن قد مرَّ عليه شيء شبيه في الصين. يقول إنه بدأ بالبحث عن بعض الكلمات المفتاحية عبر محرك البحث "ياهو"، محرك البحث الأساسي وقتئذ قبل صعود غوغل، وكانت أول كلمة مفتاحية كتبها في صندوق البحث هي: البيرة. فوجئ "جاك ما" بعدد من نتائج البحث حول هذه الكلمة المفتاحية، لكنه لم يجد شيئا حول "البيرة الصينية". أعاد "جاك ما" المحاولة باستخدام عدد كبير من الكلمات المفتاحية، ليجد أمامه محتوى متنوِّعا، ولكنه يخلو من ذكر أي معلومات حول الصين.
ورغم أنه لا يملك أية خبرة في "التكويد" (Coding) أو البرمجة، فضلا عن أنه لا يعرف كيفية استخدام الحاسوب جيدا من الأساس، لكن مدرِّس اللغة الإنجليزية تحمَّس للفكرة تماما وقرَّر بالتعاون مع زميل له، وهو مدرِّس حاسب آلي يملك بعض الخبرة المتواضعة في تصميم المواقع، إطلاق موقع إلكتروني رقمي شديد التواضع له علاقة بالصين. لم تمر ساعات على إطلاق الموقع حتى وصلت عدة رسائل عبر البريد الإلكتروني من العديد من الأشخاص من بينهم "مستثمر صيني محتمل" يسألهم عن خدماتهم، وكيف يمكن أن ينضم إليهم.
وقتئذ فقط، تأكد "جاك ما" بشكل قاطع أن الإنترنت يحمل فرصا هائلة لا يمكن أن يتجاهلها، وأن عليه أن يجد موطئ قدم في هذا المجال وهو ما زال في موجته الأولى.
علي بابا
Jack Ma introduces Alibaba to 17 people in his apartment in 1999.pic.twitter.com/rZBFpE6AY3
— Vala Afshar (@ValaAfshar) August 13, 2022
في منتصف عام 1995، قرَّر "جاك ما" وزميله "هي – بينغ" مدرس الحاسب الآلي، بالتعاون مع بعض زملائه في أميركا، أن يطوروا الفكرة أكثر، عبر إطلاق قاعدة بيانات متكاملة للشركات الصينية في الإنترنت عموما وفي أميركا تحديدا، وأطلقوا على المنصة اسم "صفحات الصين" (China pages). استمرت المنصة لمدة 3 سنوات تقريبا، وحققت إيرادات تصل إلى 800 ألف دولار، مما عزَّز من اهتمام "جاك ما" بالمزيد من الأعمال على شبكة الإنترنت.
خلال تلك الفترة، حصل "جاك ما" على وظيفة في شركة تكنولوجيا معلومات تابعة للحكومة الصينية، لكنه قرَّر أن يُقدِّم استقالته في عام 1999، ليبدأ مشروعه الكبير: منصة تجارة إلكترونية شاملة. في هذا الوقت، كانت شركة "أمازون" التي أسسها جيف بيزوس قد حققت نموا هائلا، وأُدرِجت في البورصة الأميركية، مع تصاعد مؤشرات الأرقام التي تقول إن العالم يتجه إلى الشراء الإلكتروني بدلا من الشراء التقليدي.
وفي شقة سكنية صغيرة، جمع "جاك ما" 17 صديقا من أصدقائه ومعارفه الذين يُشكِّلون اللبنة الأولى للمنصة، وشرح لهم بشكل مفصَّل الأسباب الضرورية التي تجعلهم يعملون معه أو يستثمرون في تأسيس منصة تجارة إلكترونية سمَّاها "علي بابا" (Alibaba)، يكون مقرها الأساسي هو الصين، وطريقة عملها هي أن تُتيح للبائعين عرض منتجاتهم في المجالات كافة، وتُتيح للمشترين من الجهة الأخرى طلب المنتجات وتأمين توصيلها إليهم بسرعة وسهولة في الاستلام والدفع.
افتح يا سمسم

"كنت أجلس في مقهى أفكر في اسم "علي بابا" وأظن أنه اسم جيد. جاءت النادلة، فسألتها: هل تعرفين علي بابا؟ فقالت: نعم. سألتها: ماذا تعرفين عنه؟ سكتت مفكرة، ثم قالت: افتح يا سمسم! وقتئذ قلت لنفسي: نعم، إنه الاسم الصحيح! ثم ذهبت إلى الشارع أسأل أشخاصا من أعراق وجنسيات مختلفة عن علي بابا، فكانت إجابتهم جميعا: افتح يا سمسم. أدركت أنه الاسم المناسب لبدء منصتنا الإلكترونية".
(جاك ما، متحدثا عن ظروف اختياره لاسم "علي بابا")
بدأت النسخة الأولية من المنصة الرقمية بتمويل مشترك بين الأصدقاء، ولم يطل الأمر عن عدة شهور حتى جمعت الشركة الرقمية الوليدة "علي بابا" تمويلات ضخمة بقدر 25 مليون دولار من صناديق استثمار جريء عالمية، كان على رأسها صندوق "غولدمان ساكس" الذي ساهم بخمسة ملايين دولار، بينما ساهمت شركة الاتصالات اليابانية المعروفة بتمويل المشاريع التقنية العالمية "سوفت بنك" بقيمة 20 مليون دولار.
مع هذه التمويلات الكبيرة، تحوَّلت المنصة سريعا إلى أكبر منصة تجارة إلكترونية صينية في زمن قياسي، مع إقبال عدد هائل من الشركات والمتاجر الصغيرة والمتوسطة لعرض منتجاتهم من خلالها. وخلال 3 سنوات فقط، بدأت منصة "علي بابا" في تحقيق الأرباح، ومن ثم بدء إطلاق المزيد من المشروعات المنافسة للخدمات العالمية ذات الصلة بقطاع التجارة الإلكترونية آنذاك.
في بداية الألفينيات، أطلقت "علي بابا" خدمة "تاو باو" (Taobao) المنافسة لمتجر "إيباي" (eBay) العالمي، تزامنا مع خدمات مساندة مثل "علي باي" (Alipay)، و"علي ماما" (Alimama)، وغيرها من خدمات الدفع. حاولت شركة "إيباي" التقدم للاستحواذ على "علي بابا"، لكن "جاك ما" قابل عرض الاستحواذ بالرفض. لاحقا، وفي عام 2005، استثمرت شركة "ياهو" مليار دولار في "علي بابا" عبر صفقة تمويل كانت تُعَدُّ شديدة الضخامة بالنسبة للمنصة الناشئة.

منذ عام 2005 حتى عام 2013، تحوَّلت منصة "علي بابا" إلى مجموعة قابضة تضم العديد من الشركات المستقلة جميعها تدور حول التجارة الرقمية وتقنيات الدفع الرقمي والتقنيات السحابية. في عام 2012، تجاوزت التحويلات المالية عبر منصة "علي بابا" حاجز التريليون يوان، وأصبحت المنصة الإلكترونية أكبر منصة تجارة رقمية في الصين، ومن كبار اللاعبين في هذا المجال حول العالم.
في عام 2014، شهد العالم أجمع حدث اكتتاب شركة "علي بابا" (IPO) في البورصة الأميركية ناسداك، لترتفع ثروة "جاك ما" إلى 25 مليار دولار آنذاك، ويصبح أغنى رجل في الصين على الإطلاق. ورغم تقاعد "جاك ما" من منصبه مديرا تنفيذيا لـ"علي بابا"، فإن ثروته استمرت في الازدياد حتى لامست سقف الخمسين مليارا بحسب آخر رصد لفوربس.
ومع الاكتتاب العام لشركة "علي بابا"، ركَّز "جاك ما" على تطوير منصة الدفع الرقمي "علي باي" (Alipay)، التي تحوَّل اسمها لاحقا إلى "Ant Group"، حيث صعدت بسرعة في السوق الصيني وحصدت تمويلات ضخمة، واعتُبرت من أكبر بوابات الدفع الإلكتروني في الصين. في عام 2015، كان عدد مستخدمي خدمات "Ant Group" قد تجاوز 450 مليون مستخدم. في الوقت نفسه، استحوذت المنصة المالية التي يُديرها "جاك ما" على مؤسسات مالية عالمية ضخمة.
في عام 2018، جمعت الشركة تمويلات ضخمة بقيمة 14 مليار دولار فيما وصفته الصحافة العالمية بأنه "أكبر تمويل عالمي حصلت عليه شركة خاصة على الإطلاق"، تزامنا مع التوسع في الهند وجنوب شرق آسيا. قاد هذا النمو الهائل شركة "Ant Group" التي أصبحت تملك مليار مستخدم في الصين بمفردها إلى الاكتتاب العام، وكان من المتوقع أن يكون من أضخم الاكتتابات المالية في تاريخ البورصات العالمية.
مشكلات مع الكبار

ومع تحديد موعد الاكتتاب العام في الربع الأخير من عام 2020، وقبل بدء الاكتتاب بيومين فقط، وجَّه "جاك ما" انتقادات سلبية إلى النظام المالي الحكومي الصيني، وقال إن البنوك الصينية تتعامل بعقلية "مكاتب الرهانات"، وإن الحكومة الصينية تعتمد طريقة إدارة محطات القطارات لإدارة المطارات، ودعا إلى إجراءات جديدة لتنظيم التحويلات المالية خصوصا الإقراض الرقمي.
في اليوم التالي مباشرة، عُقد اجتماع بين "جاك ما" وأعضاء من الحزب الشيوعي الصيني، صدر بعده قرار مفاجئ بوقف "Ant Group"، بقرار قيل إنه جاء مباشرة من الرئيس الصيني شخصيا. وبعدها، اختفى "جاك ما" نفسه من الأنظار تماما لمدة عدة أشهر، ضجت فيها وسائل الإعلام الغربية بالتقارير التي تتحدث عن اختفاء رجل الأعمال الصيني الملياردير، الذي لم يلبث أن عاود الظهور لاحقا في بعض المناسبات الهامشية، مع غياب كامل تقريبا من الظهور في المناسبات الكبيرة التي كان حاضرا فيها دائما.
في النهاية، ومع قصة نجاحه المُلهمة التي بدأها مدرسا للغة الإنجليزية، ليتحوَّل بعدها إلى رائد أعمال ومؤسس إمبراطورية تجارة رقمية عالمية وأحد أغنى أغنياء العالم، يظل "جاك ما" واحدا من أكثر رواد الأعمال إلهاما من خلال محاضراته ونصائحه الصادقة للشباب والرياديين الجدد، رغم أن قصته لا يبدو أنها في طريقها إلى نهاية سعيدة تماما، فهل تُدمِّر بكين إمبراطورية "جاك ما" تماما؟ أم أن ما يحدث مجرد سحابة صيف عابرة؟ الأيام وحدها تحمل الجواب.
______________________________________________________
المصادر:
- تحجيم الإمبراطور.. لماذا اختفى "جاك ما" أغنى رجال الصين في ظروف غامضة؟
- The Inspiring Life Story Of Alibaba Founder Jack Ma, Now The Richest Man In China
- The Inspirational Story Of Jack Ma
- How Jack Ma Went From Being A Poor School Teacher To Turning Alibaba Into A $160 Billion Behemoth
- Alibaba group
- Jack MA