شعار قسم ميدان

هدف رائع لكن في مرمانا.. لماذا تفشل بعض المنتجات الجديدة المميزة عند طرحها في السوق؟

Apple lisa

في الخمسينيات، عرف السوق الأميركي والعالمي حملة ترويجية ضخمة أطلقتها شركة صناعة السيارات الأشهر "فورد" تُروِّج فيها لسيارة جديدة على وشك الإصدار، تحت شعار "سيارة المُستقبل". كان هذا الشعار رهانا من شركة فورد أن السيارة الجديدة ليس لها شبيه في إصداراتها السابقة، وبالتأكيد ليس لها نِدٌّ بين منافسيها الحاليين.

 

عام كامل استمرت فيه فورد في الترويج لسيارتها الجديدة وتشويق عملائها، حتى جاء اليوم الذي كشفت فيه عن سيارتها الأسطورية التي حملت اسم "إيدزيل" (Edsel)، وهو اسم ابن هنري فورد مؤسس الشركة، التي أنفقت عليها الشركة مبلغ 400 مليون دولار، وهو مبلغ فاحش في ذلك التوقيت يساوي عدة مليارات من الدولارات بأسعار اليوم، لكن الشركة كانت تزهو بهذا الإنفاق الهائل باعتبارها السيارة الجديدة التي ستُغيِّر قواعد اللعبة بالكامل.

سيارتها الأسطورية التي حملت اسم "إيدزيل" (Edsel)
سيارة فورد الأسطورية التي حملت اسم "إيدزيل" (Edsel)

انتهى حفل الإعلان عن السيارة "إيدزيل" عام 1957، وجلس موظفو الشركة في انتظار إقبال العملاء الجدد لحجز سيارتهم الجديدة والبدء في حصد نهر من الأموال. ولكن المفاجأة -أو قُل الصدمة- أن العملاء تعاملوا مع سيارة المستقبل ببرود واستخفاف شديد. ثم بدأت تظهر ردود الأفعال، ولكن معظمها كان سلبيا، حيث تعالت احتجاجات العملاء بأن السيارة الجديدة تصميمها غريب وقبيح، وأنها لا تُلبِّي الحاجة الأساسية الأولى للعملاء في توفير سيارة سريعة وصغيرة وأقل استهلاكا للوقود.

 

بعد مرور شهور من الانتقادات المستمرة للسيارة الجديدة، ذهبت السَّكْرة وجاءت الفكرة. حاولت فورد ضخ المزيد من الحملات التسويقية والإعلانية لإقناع العملاء بجودة سيارتها وتميُّزها، لكنها لم تكن تُقابَل إلا بالمزيد من الاحتجاجات والسخرية.

 

وبعد 3 سنوات فقط، أعلنت فورد توقُّف خط إنتاج السيارة "إدزيل" التي وصفتها بأنها سيارة المستقبل يوما ما، وإحالتها إلى التقاعد بعد أن تسبَّبت لها بخسائر هائلة. ولا تزال السيارة "فورد إدزيل" تُعَدُّ مثالا تاريخيا للمنتجات "الرائعة" التي تُحقِّق نتائج عكسية، ويستشهد بها دائما رجل الأعمال ومؤسس مايكروسوفت "بيل غيتس" في محاضراته عن الأعمال. (1)

 

لماذا تفشل الكثير من المنتجات الجديدة "الجيدة"؟

في عام 2015، أُجريت دراسة واسعة على أكثر من 9 آلاف منتج جديد طُرح في الأسواق على مستوى متاجر التجزئة المحلية في السوق الأميركي. كشفت الدراسة أن 40% فقط من هذه المنتجات استمر في الوجود في السوق بعد 3 سنوات، بينما اختفى 60% من المنتجات خلال تلك الفترة.

 

بحسب الدراسة التي حلَّلت القيمة المُقدَّمة لهذه المنتجات وكفاءتها، فإن بعض المنتجات التي اختفت من الأسواق كانت تستحق الفشل بالفعل، لكن المثير للانتباه هو اختفاء العديد من المنتجات التي كانت تُقدِّم قيمة حقيقية وكان ينبغي لها الاستمرار، ولكن العملاء لم يكتشفوا قيمتها على الإطلاق.

 

يظل السؤال: لماذا فشل هذا المنتج (أي منتج) رغم كل مزاياه، ولماذا لم تلقَ هذه الخدمة المميزة الإقبال المتوقَّع؟ في الغالب، تكون الإجابة الجاهزة عن هذا السؤال: "ضعف البحوث السوقية" (Market Research)، وأن الشركات لم تبذل جهدا كافيا لمعرفة مُتطلبات العملاء. ومع مصداقية هذه الإجابة في معظم الحالات، فإنها لا تغطيها بالكامل بالتأكيد، فالعديد من الشركات التي أجرت بحوثا سوقية موسَّعة قبل طرح مُنتجها الإبداعي فوجئت بفشله الذريع أيضا.

 

تكمن صعوبة هذا السؤال في أنه يقترن دائما بالتوقعات الإيجابية العالية للشركات عندما تطرح منتجا إبداعيا، ثم تأتي لحظة الصدمة حين لا يلقى الرواج المطلوب، أو حين تكتشف الشركة أن في منتجها خطأ قاتلا يُتيح فرصة أكبر للمنافسين لتلقُّف الفكرة وتطويرها، أو بشن هجوم على الشركة المُنتجة. (2، 3)

 

الإبداع أكثر مما يحتمله السوق.. أبل نموذجا

الإبداع أكثر مما يحتمله السوق.. أبل نموذجا

بعد عقدين تقريبا على صدمة فورد في سيارتها المستقبلية، كان عملاق التقنية العالمي "أبل" على موعد مع صدمة مشابهة. ففي نهاية السبعينيات، صمَّمت أبل حاسوبا شديد التطور، مُخصَّصا بالأساس لفئة الأعمال والشركات، ورأت أنه سيكون بمنزلة منتجها الأساسي الذي سيعود عليها بأكبر قدر من الأرباح، خصوصا أن السوق الأميركي والعالمي كان قد بدأ يعتمد على الحواسيب بشكل كبير.

 

ومع ترويج استمر 3 سنوات، ونفقات تجاوزت الخمسين مليون دولار، أعلنت أبل أخيرا عن إطلاق حاسوبها الجديد المميز الذي جاء باسم "أبل ليزا" (Apple lisa). والحقيقة أن الجهاز كان ثوريا بمعايير ذلك الوقت، ولاقى إقبالا كبيرا من الأفراد والشركات الذين ذُهلوا من جودة تصنيعه وخصائصه المتقدمة، لكن فيما يبدو، كان معظم الإقبال لمشاهدة المنتج وأخذ فكرة عنه، دون أن يتبع هذا الإقبال قرار الشراء.

 

كان الحاسوب -مع إمكانياته المتطورة- مرتفع الثمن بشكل لا يُطيقه الأفراد ولا الشركات، حيث طُرح في الأسواق بسعر 10 آلاف دولار -نحو 25 ألف دولار بأسعار اليوم-، وهو ما تسبَّب في عزوف كبير عن شرائه. وعلى مدار عامين من إطلاقه، بيع منه 100 ألف نسخة فقط، وهو ما اضطر شركة أبل للتوقف عن تصنيعه عام 1985، على الرغم من كل إمكانياته وخصائصه الثورية.

"أبل ليزا" (Apple lisa)

لم يكن "أبل ليزا" هو آخر موعد لـ "أبل" مع فشل منتج رائع تأمَّلت خيرا كبيرا من ورائه، حيث تكرَّرت الواقعة بعد عدة سنوات بشكل أكثر غرابة. في عام 1993، أعلنت الشركة الأميركية عن جهازها الإبداعي الجديد وغير المسبوق "نيوتن" (Newton Message pad)، وهو جهاز لوحي يعمل باللمس يمكن اعتباره نسخة بدائية من جهازها الشهير الذي طوَّرته لاحقا "آيباد".

 

كان الجهاز غريبا وغير مألوف على الإطلاق في تلك الفترة من بداية التسعينيات، طوله 8 إنش وعرضه 4.5 إنش، ويحمل مجموعة من البرامج التي تُعَدُّ ممتازة بمعايير ذلك الوقت. ومع ذلك، بدا واضحا أن السوق لم يكن جاهزا لهذه النوعية من الأجهزة بعد، حيث اعتبره الكثيرون صعب الاستعمال وضعيف الإمكانيات، كما كان سعره مرتفعا نسبيا بالنسبة للفائدة التي يُقدِّمها آنذاك، حيث بدأ بسعر 700 دولار.

 

لم يصمد جهاز نيوتن كثيرا، وأعلن عن فشله بعد وقت يسير من ظهوره، خصوصا عندما تحوَّل إلى مادة للسخرية بعد ظهوره في مسلسل "Simpsons" الكوميدي الذي كان يسخر من إمكانياته. ومع ذلك، كان هذا الجهاز الفاشل هو خطوة في مشوار أبل لبدء ثورة الأجهزة اللوحية اللمسية بعدها بفترة ليست بعيدة. (4)

 

العميل لا يفهم

شامبو جديد باسم "Touch of yogurt shampoo"
إعلان شامبو "Touch of yogurt shampoo" من شركة "كليرول" (Clairol) العالمية المتخصصة في مستحضرات التجميل

يُعَدُّ قطاع منتجات التجميل والنظافة من أكثر القطاعات تنافسية حول العالم، وكل شركة تسعى لأن تُطوِّر منتجا مختلفا ولافتا لأنظار المستخدمين للسيطرة على أكبر حصة سوقية ممكنة، أو على الأقل حماية نفسها من التآكل في سوق تنافسي لا يرحم. وهذا ما حاولت شركة "كليرول" (Clairol) العالمية المتخصصة في مستحضرات التجميل أن تفعله في نهاية السبعينيات.

 

في تلك الفترة، بدأت الشركات في الإعلان عن احتواء منتجاتها على عناصر مغذية للشعر، بوصفها ميزة تنافسية تجذب العملاء. هذا الاتجاه جعل "كليرول" تُكثِّف أبحاثها لصناعة وتطوير منتج جديد يعتمد على إضافة مقويات للشعر، من خلال إضافة الزبادي، مما أدى إلى إطلاقها لشامبو جديد باسم "Touch of yogurt shampoo". لاحقا، أطلقت الشركة حملة إعلانية كبيرة للمنتج -الذي كان يشبه الزبادي تماما في شكله وقوامه أيضا- تحث عملاءها على الاستفادة من مزاياه.

 

ورغم الجهد الابتكاري المبذول في هذا المنتج، فقد فشل فشلا ذريعا. تعالت احتجاجات الكثيرين أنهم ليسوا مرتاحين لوضع سائل مُطابق للزبادي تماما على شعورهم، حيث لم يكن الأمر مألوفا إطلاقا آنذاك. كما حدثت بعض الحوادث الطريفة، عندما سُجِّلت حالات إعياء لبعض العملاء الذين تناولوا الشامبو (عبر الفم) ظنًّا أنه "زبادي" طبيعي مُخصَّص للشرب، وليس للاستخدام على الشعر.

 

سُحب المنتج من الأسواق، وما زال حتى الآن واحدا من أكثر النماذج التي يُضرب بها المثل بضرورة مراعاة السوق أولا قبل طرح منتجات غريبة على المستهلكين، حتى لو كان هذا المنتج يحمل سِمَات إبداعية كبيرة ويُقدِّم قيمة مُضافة حقيقية. (5)

 

التأخير في علاج الأخطاء

في عام 1998، طرحت شركة "فريتو لاي" للأغذية واحدا من أهم منتجاتها على الإطلاق، الذي كان مرشَّحا لتغيير قواعد اللعبة في عالم المقرمشات، وهو منتج "واو شيبس" (Wow chips): بطاطس مقرمشة عادية شبيهة بالأنواع الأخرى التي تمتلئ بها الأسواق، ولكن بميزة إضافية لفتت أنظار الجميع، وهي أنها لا تزيد الوزن. كان الأساس الترويجي لهذه البطاطس المقرمشة هو أنك يمكنك أن تأكل كما تريد، دون أن تخشى أن يزداد وزنك من التهام أي عدد من هذه الرقائق.

 

ومع نكهاته اللذيذة، كان من الطبيعي أن يُحقِّق المنتج نجاحا هائلا، حيث قُدِّرت مبيعاته في العام الأول من طرحه فقط بنحو 400 مليون دولار. إقبال جماهيري هائل لاستهلاك المنتج، الذي قالت الشركة إنها تستخدم مُركبات الأوليسترا في مكوِّناته مما يُقلِّل من امتصاص الدهون للحد الأدنى، وهي مكونات غير ضارة صحيا. كان هذا صحيحا، ولكن يبدو أن الشركة أغفلت شيئا آخر أكثر أهمية مع تركيزها على تطوير منتجها.

 

لم يستمر النجاح الهائل لـ "واو شيبس" أكثر من عام، حيث ظهرت أزمة كبيرة لم تتوقعها الشركة، عندما انهالت آلاف الشكاوى من العملاء التي تتهم الشركة بأنها السبب في حالة الإسهال المزمن الذي أُصيب به مُستهلكو منتجاتها. كانت البطاطس لا تُسبِّب السمنة بالفعل، ولكنها في المقابل لها تأثير يُماثل المُليِّنات الشديدة، مما جعل الآلاف من الشباب والأطفال يعانون من إسهال شديد مستمر.

انهارت المبيعات، وانهالت الشكاوى القانونية على رأس الشركة، وتحوَّلت منتجاتها إلى مادة للسخرية في المسلسلات الكوميدية مثل مسلسل "Family Guy"، وتحت وطأة الهجوم بدأت الشركة في سحبه من الأسواق وإعادة تعديله وطرحه بأسماء جديدة، لكنها لم تنجح في العودة أبدا بعد أن أصبح مرتبطا في عقول العملاء بأنه البطاطس الذي يُسبِّب الإسهال. (6)

 

الاستعجال في طرح المنتج قبل إنهاء اختباره

في منتصف التسعينيات، وبينما يزدحم سوق المنظفات والأدوات الصحية بالمنافسة، أعلنت شركة "يونيليفر" عن منتج إبداعي جديد يحتوي على تركيبة كيميائية خاصة تزيل البقع بشكل سريع للغاية مقارنة بمثيلاتها في السوق. خصَّصت الشركة ميزانية ضخمة للترويج لمنتجها الجديد، بحملة إنفاق تسويق عالمية قُدِّرت بنحو 300 مليون دولار.

 

حمل المنتج اسم "برسيل باور" مع اسم فرعي "أكسيليريتور" أي المُسرِّع. وعند طرحه في الأسواق، حقَّق إقبالا مُكثَّفا من العملاء كما هو متوقَّع، وبدا واضحا أن يونيليفر قد أحرزت تقدُّما مهما في أسواق المنظفات في تلك الفترة. لكن بعد طرح المنتج بفترة، بدأت الغيوم تتجمع والشكاوى تنهال على الشركة بآخر ما كانت تتوقعه: المنظف الجديد يؤدي إلى تلف الملابس أثناء استخدامه في غسيل الملابس عند درجة حرارة مرتفعة.

 

تحوَّل المشهد تماما، من النجاح إلى الفشل. فمع ارتباك الشركة في مواجهة الاتهامات بأنها لم تُجرِ القدر الكافي من التجارب على منتجها الجديد، تلقَّفت الفرصة الشركات المنافسة وبدأت في إنتاج المنتج نفسه بأخطاء أقل، في الوقت الذي اضطرت فيه يونيليفر لسحب منتجها بعد طرحه بثمانية أشهر. (7)

 

في النهاية، يزخر أرشيف الشركات والمنتجات بحالة دائمة مما يمكن وصفه بـ"هدف رائع لكن في مرمانا". معظم الشركات، بما فيها الشركات الكبرى، قدَّمت منتجات وخدمات رائعة بكل المعايير، ولكنها لم تُحقِّق النجاح المطلوب، أو ربما أتت بنتيجة عكسية تماما في تكوين انطباعات سلبية عميقة لدى العملاء تستغرق وقتا طويلا لمعالجتها. بالتأكيد من المهم حشد كل الأدوات التي تضمن نجاح المنتج الجديد قبل طرحه في الأسواق، ولكن في لعبة السوق، يبدو أن النتائج لا تأتي دائما كما تشتهي توقعات المُسوِّقين ورجال المبيعات!

—————————————————————————————————–

المصادر:

1 – 4 lessons from the failure of the Ford Edsel, one of Bill Gates’ favorite case studies

2 – السوق هو الملك.. كيف تستكشف متطلبات السوق قبل العمل على منتج جديد؟

3 – Why Great New Products Fail

4 – From the Newton to Lisa: Failed Apple products – CNBC

5 – Failed Products: Clairol’s Touch of Yogurt Shampoo

6 – What Were They Thinking? The Chips That Sent Us Running To The Loo

7 – Detergents War of Persil Power: ‘Persil Power caused holes in clothing’

المصدر : الجزيرة