شعار قسم ميدان

في مواجهة العاصفة.. كيف تستطيع شركتك الناشئة الصمود أمام التضخم؟

بغض النظر عن المكان الذي تقرأ فيه هذه السطور، سواء في مدينة عربية أو بلدة أوروبية أو عاصمة آسيوية، فالمؤكَّد أن التضخم قد طالك بالفعل، وأنك لاحظت ارتفاع أسعار السلع والمنتجات والخدمات مع تنوُّعها. صحيح أن هناك دولا ومناطق أكثر تضررا من نتائج التضخم، خصوصا الدول النامية ذات معدلات الفقر المرتفعة، لكن يظل ارتفاع الأسعار الحالي ظاهرة عالمية تمس الجميع في كل مكان وفي القطاعات كافة.

لا أحد يستطيع التنبؤ بالضبط بمدة استمرار هذه الموجة من التضخم، ولكن بحسب استطلاع أجراه مجموعة من الاقتصاديين في نهاية عام 2021، ونقلته "وول ستريت جورنال"، كان هناك شبه اتفاق بأن التضخم الحالي "قد يستمر لعدة سنوات". ثم أكَّد هذا التنبؤ ما أعلن عنه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي رسميا من أن التضخم الحالي ليس عابرا، وأنه سيستمر لفترة من الوقت. (1، 2)

بالتأكيد ليست هذه الأخبار ألطف الأخبار بالنسبة للجميع، ولكنها بالنسبة لملايين الشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة أكثر من مجرد أخبار سيئة، وهي ترقى إلى حد اعتبارها تهديدا وجوديا حقيقيا في مواجهة أزمة كبيرة من غير المتوقع انتهاؤها قريبا.

ما التضخم؟ ولماذا حدث؟

ببساطة، وبدون الدخول في تعقيدات اقتصادية، يعني مصطلح "التضخم" (Inflation) زيادة أسعار المنتجات والسلع والخدمات خلال فترة معينة، أو بمعنى آخر، انخفاض القوة الشرائية للعملة. إذا كان في جيبك ورقة من فئة 100 دولار، واعتدت أن تشتري بها 4 وحدات من منتج معين، فإنك أثناء فترة التضخم سوف تشتري بالورقة نفسها 3 وحدات فقط، لأن قوة العملة الشرائية قد انخفضت. وإذا اعتدت أن تنفق مثلا 3 دولارات صباح كل يوم لشراء كوب القهوة المعتاد، فستضطر أن تدفع 5 دولارات لشراء الكوب نفسه.

السؤال هنا: لماذا حدث هذا التضخم؟ ولماذا ترتفع الأسعار على نطاق عالمي هذه المرة؟ إجابة هذا السؤال تعود إلى جائحة كورونا التي انطلقت في أواخر عام 2019 من الصين، وانتشرت حول العالم في عامَيْ 2020 و2021، وتسبَّبت في إغلاق دول العالم كافة لفترات طويلة. هذا الإغلاق أثَّر بالطبع على نشاط التجارة العالمية، وأدَّى إلى تقليص المعروض من المنتجات والخدمات بشكل كبير بسبب فترات الإغلاق المستمرة لمحاصرة الوباء.

ومع ظهور اللقاحات وبدء توزيعها على مستوى عالمي، وبدء تعافي الاقتصادات العالمية وفتحها بعد إغلاقات طويلة متكررة على مدار عامين، حدث ارتفاع كبير على الطلب في القطاعات كافة، بينما المعروض بالأساس لا يكفي لتلبية هذا الطلب الكبير، مع عدم إمكانية تلبية الطلب سريعا بسبب النقص في سلاسل الإمداد والتوريد (Supply Chains) العالمية.

تسبَّب النقص في سلاسل التوريد العالمية في ارتفاع أسعار السلع والبضائع والمنتجات.

هذه الحالة تسبَّبت في أن المستهلكين والمستثمرين معا أصبح لديهم نهم لإنفاق المال، ولكن في ظل نقص حاد في وجود البضائع والخدمات المُراد إنفاق المال عليها، نشبت "حرب مزايدات" (Bidding – War) لشراء المنتجات والخدمات، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها ارتفاعا حادا مع نهاية عام 2021 واستمرار صعودها خلال عام 2022 على مستوى العالم. طال هذا الارتفاع كل شيء تقريبا، بدءا من النفط والحديد، ومرورا بالسيارات والأجهزة الكهربائية، وليس انتهاء بالمشروبات الغازية والبطاطس المقرمشة.

زاد الطين بلّة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في نهاية فبراير/شباط 2022، التي أدَّت إلى توقيع عقوبات اقتصادية غربية عنيفة على موسكو رفعت أسعار الطاقة والغذاء إلى عنان السماء، على خلفية بوادر نزاع عسكري واقتصادي وسياسي بين أقطاب عالمية لا تُعرَف بالضبط ملامح انتهائه في المستقبل القريب أو البعيد. (3)

التضخم يطول الجميع

في الوقت الذي تبدو فيه مؤشرات انعكاس التضخم على المشاريع الصغيرة والشركات الناشئة حول العالم واضحة، فإن تسليط الضوء على السوق الأميركي بالتحديد يمكنه أن يمنحنا الصورة الكاملة، باعتباره من أضخم أسواق العالم التي تضم المشاريع الناشئة الصغيرة والمتوسطة. بحسب استطلاع شامل أُجري نهاية عام 2021، قال 89% من أصحاب المشاريع الصغيرة إنهم رفعوا أسعار منتجاتهم وخدماتهم بسبب التضخم الذي تلا الجائحة، ومن بين هؤلاء قال 45% إنهم زادوا أسعارهم بنسبة تزيد على 20% خلال عام 2021.

صحيفة فورتشن (Fortune) العالمية قالت، بناء على استطلاع قامت به في الربع الأخير من عام 2021، إن 63% من المشروعات والشركات الصغيرة زادت أسعار منتجاتها وخدماتها، بينما قال 45% من أصحاب الأعمال إنهم اقترضوا في مواجهة غلاء الأسعار، ولضمان استمرار دوراتهم الإنتاجية والخدمية خلال الأزمة.

وبحسب استطلاع آخر أجراه موقع "CNBC" الاقتصادي، توقَّع 75% من أصحاب المشاريع الصغيرة أن تستمر أزمة ارتفاع الأسعار على مستوى النصف الأول عام 2022 على الأقل، بينما قال قرابة 80% منهم إن تكاليف التشغيل والإنتاج الحالية تفوق تكاليف فترة ما قبل الجائحة في القطاعات كافة. (4، 5)

كيف يؤثر التضخم على مشروعك الناشئ؟

إذا كنت صاحب مشروع تجاري، سواء كان مشروعا تقليديا أو ناشئا (ستارت أب)، مهما كان مجاله والسوق الذي يعمل فيه، فأنت غالبا قد طالتك الآثار السلبية للتضخم، التي تتمحور حول أربعة عناصر:

  • زيادة التكاليف 

المقصود بزيادة التكاليف هنا هو كل شيء تشتريه مقابل إدارة مشروعك، بداية من الأجهزة والمعدات وفواتير الكهرباء، مرورا بتأجير العقار والبرامج والخدمات، وليس انتهاء بالأدوات الضرورية والثانوية. إذا كنت تُدير مطعما مثلا، فسوف يقابلك ارتفاع في أسعار اللحوم والخضروات والدجاج وغيرها من العناصر الأساسية بوصفها مدخلات لمطعمك. إذا كنت تعمل في مجال صناعي، فسوف تلاحظ ارتفاعا في أسعار المعادن، وهكذا.

زيادة التكاليف أيضا تشتمل على عنصر آخر مهم، وهو اضطرارك إلى زيادة المرتبات. فمع ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الأسواق، هذه الزيادة ستُقابَل بمطالبات تلقائية من الموظفين والعاملين معك لزيادة مرتباتهم لتعويض فارق الزيادة بين ما يتقاضونه من راتب، وزيادة الأسعار من جهة أخرى. بعض الدول تفرض على أصحاب الأعمال التجارية زيادة الرواتب في حالات التضخم، ومع ذلك، حتى لو لم يُفرَض عليك ذلك، فالبديهي أنك إذا لم تمنح الموظفين هذه الزيادة فسوف يعود عليك ذلك بفقدان الكفاءات وتخلّيهم عن العمل معك والبحث عن أماكن أخرى برواتب أفضل!

  • زيادة الأسعار

ارتفاع تكاليف المواد الأساسية لتشغيل مشروعك، سواء المُدخلات أو الفواتير أو رواتب الموظفين، مع استمرار نقص الإمدادات ومشكلات سلاسل التوريد، سيقود حتما إلى رفع سعر المنتج أو الخدمة التي تُقدِّمها للعميل، ليتحمَّل هو فرق هذه الزيادات.

  • تضييق هامش الربح

عندما ترتفع تكاليف الأدوات والمواد الأساسية التي تستخدمها لإنتاج منتجك أو سلعتك أو خدمتك، ومع رفع سعرها بالنسبة للزبائن، فسوف يؤدي هذا غالبا إلى تضييق هوامش الربح التي تُحقِّقها مقارنة بفترات ما قبل التضخم. بالتأكيد سيقل عدد الزبائن الذين يتعاملون معك، وبالتالي إجمالي الربح المتوقَّع غالبا سيتجه إلى الانخفاض. لذلك، في فترات التضخم، يُنصَح بتعديل التنبؤات بهوامش الأرباح، ووضع خطط تسويقية تتناسب مع ظروف التضخم لتجنب حدوث انهيار كبير غير مُتحمَّل في هامش الربح.

  • تقليل المخزون 

مع التضخم في زيادة التكاليف والأسعار، غالبا سوف تلجأ المشاريع الصغيرة إلى تقليل مستوى المخزون لديها (Inventory) لتقليص النفقات. بعض الشركات الصغيرة تُقرِّر الحفاظ على الحد الأدنى من المخزون لديها، لتقليل النفقات وتقليل عدد الوحدات المخزنة لديها، وتقديم المنتج أو الخدمة وفقا لمستوى طلب السوق، وليس بناء على المختزن لديها. (3)

الحلول التقليدية لم تعد مُجدية

على مدار عقود شهد فيها العالم تضخما كبيرا أدى إلى ارتفاع الأسعار، وأشهرها التضخم الذي حدث في السبعينيات، وأيضا الذي حدث عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008، كانت الاستجابة التقليدية المعتادة لأغلب مؤسسي الشركات ومديريها في مواجهة التضخم تتمحور حول ثلاثة خيارات أفضلها له نتائج سلبية.

فإما أن يُزعجوا عملاءهم برفع الأسعار بشكل غير منضبط، فقط ليتخلَّصوا من عبء ارتفاع التكاليف، وإما أن يُزعجوا المستثمرين والمساهمين في شركاتهم عبر خفض هوامش الأرباح، أو يزعجوا كليهما -العملاء والمستثمرين- عبر تطبيق إستراتيجية تقشُّفية تُقلِّل من وجود وانتشار المنتج أو الخدمة في السوق. وفي الغالب، ينحاز المؤسسون والمديرون إلى الخيار الأول، وهو رفع الأسعار على العميل، ثم وضع الخطط لمحاولة تنشيط المبيعات وفقا للأسعار الجديدة.

ولكن لحسن الحظ هناك بعض الضوء في نهاية النفق. فبحسب مقال نُشر في "هارفارد بزنس ريفيو"، فإن التضخم الحالي قد يتفق في المظاهر والنتائج مع أنواع التضخم التي حدثت سابقا، خصوصا في السبعينيات ومطلع الألفية، لكنه يختلف عنها في عنصر جوهري ظهر للمرة الأولى، وهو مستويات البيانات والتكنولوجيا التي تُتيح للمديرين رؤية أكبر للسوق وخفة الحركة فيه، وقدرة أكبر على تحليل هذه البيانات وتحويلها إلى وسيلة فعالة لاتخاذ القرارات.

بكلمات أخرى، يرى الاقتصاديون أنه من الممكن التعامل مع التضخم الحالي باعتباره فرصة إستراتيجية طويلة المدى، وليس تحديا تكتيكيا قصير المدى لمواجهته، من خلال مجموعة من الوسائل التي تتجاوز أضراره وتُتيح الفرصة لنمو مُستدام لاحقا. (6)

العين تراقب الأرقام

ساعدت نظريات الاقتصاد السلوكي في توفير عدد من الخيارات البديلة أمام الشركات، تجعلهم يُقدِّمون عروضا أكثر إيجابية لعملائهم دون التعرُّض لخسائر كبيرة. عندما يتعلق الأمر بالتسعير في فترات التضخم والركود الاقتصادي، من الضروري أن يستحضر المديرون وأصحاب الشركات فكرة أن العميل -أي عميل- يضع في اعتباره ثلاثة أمور عند شراء أي منتج أو خدمة، وهي: السعر، والكمية، والجودة.

وجدت دراسة أُجريت عام 2004 أن العملاء لديهم حساسية عالية تجاه تغيّرات الأسعار أكثر من تقليل الكميات. بمعنى آخر، يلاحظ المستهلك بسرعة ارتفاع السعر بشكل أكبر بكثير من ملاحظته لتقليل حجم أو كمية السلعة المعروضة أمامه بالسعر القديم نفسه، وهو ما يُعَدُّ من أهم تكتيكات الاقتصاد السلوكي الذي يساعد الشركات في مواجهة ضغوط التضخم أثناء فترات الركود الاقتصادي. (7، 8)

مثلا، إذا كان مطعم ما يبيع طبقا كبير الحجم بخمسة دولارات قبل التضخم، ثم رفع سعر الطبق نفسه إلى سبعة دولارات، فغالبا سيلاحظ العميل هذه الزيادة ويتأثر بها بشكل قد يجعله يتخذ قرارا بالعزوف عن الشراء. أما إذا قام المطعم بتصغير حجم الطبق بشكل محدود -تقليل كمية الطعام- وأبقى على السعر نفسه (5 دولارات)، فحساسية المُستهلك لهذا التخفيض في الكمية ستكون أقل بكثير من حساسيته لزيادة السعر.

الأمر نفسه بالنسبة للجودة، فالعميل لديه حساسية أقل بالنسبة لخفض جودة منتج معين دون المساس بسعره، بمعنى تقليل بعض مزاياه التي لا تؤثر على كفاءته الكُلِّية، في مقابل بقائه بالسعر نفسه دون زيادة. بناء على المثال السابق، سيتقبَّل العميل أن تُقدِّم له الوجبة نفسها لكن بأكياس تغليف أقل جودة من تغليف الوجبات الذي اعتاده، وسيتقبَّل أيضا حذف بعض المكوِّنات الكمالية التي لا تؤثر على تجربة تذوُّقه للطعام كله، ما دام الأمر لم يمسّ السعر بوضوح.

أما بالنسبة لمُقدِّمي الخدمات، مثل الخدمات الصحية والإعلام والألعاب والبرمجيات والخدمات الرقمية والسحابية وغيرها من الخدمات التي يتم الحصول عليها بناء على نموذج اشتراك (Subscription)، فالأمر يستلزم "إعادة تعيين نموذج التسعير" بالكامل، كما وصفته "بيزنس هارفارد ريفيو"، لتحفيز العملاء على الاستمرار في الشراء من جهة، ولتخفيف عبء ارتفاع أسعار هذه الخدمات من ناحية أخرى.

واحد من أشهر الأمثلة على تغيير النموذج السعري ما قامت به شركة "أدوبي" (Adobe) عام 2013

إذا كنت مثلا تُقدِّم خدمة إلكترونية مُتاحة بالاشتراك السنوي فقط، كخدمة إعلامية أو منصة تعليمية أو عيادة طبية أو خدمات استضافة رقمية وغيرها، فمن الضروري أن تبدأ في إتاحة خيارات دفع أكثر مرونة، مثل الدفع ربع السنوي أو الشهري أو حتى الأسبوعي -بحسب طبيعة الخدمة وطبيعة مستخدميها- بدلا من خدمة الدفع السنوي. هذا التنويع في سعر الخدمات سيراه المستهلك مُريحا ومتفقا مع قدرته على الدفع، ومن جهة أخرى سيوفر لك ربحا أعلى بوصفك مُقدِّم الخدمة على المدى الطويل.

تخفيض أسعار الخدمات على المدى القريب ينتج عنه نمو مستمر في الإيرادات على المدى المتوسط والطويل، ويضمن استمرار بقائها لفترة أطول. واحد من أشهر الأمثلة على تغيير النموذج السعري ما قامت به شركة "أدوبي" (Adobe) عام 2013 بتغيير سياستها من منح رخصة دائمة لبرنامجها للعميل من خلال شراء قرص مضغوط بمبلغ كبير نسبيا، واستبدلت بها الشراء عبر خدمات سحابية مقابل اشتراك شهري بسيط.

صحيح أن أدوبي تعرَّضت في البداية لانخفاض الإيرادات على المدى القصير بعد هذا الإجراء، لكنها على المدى المتوسط والبعيد استطاعت أن تُحقِّق نموا ضخما رفع قيمتها السوقية إلى 310 مليار دولار عام 2021 (صعودا من 22 مليار دولار عام 2013). (6)

في النهاية، يُجمِع الاقتصاديون أن التضخم الحالي سيبقى معنا لفترة، اختلفوا في تحديدها ما بين متوسطة وطويلة، ولكنهم اتفقوا أنها لن تكون قصيرة. لذلك فإن تعامل الشركات مع هذه الأزمة يجب أن يكون في نطاق خطة طويلة المدى، أقل نتائجها الصمود أمام الأزمة لأطول فترة ممكنة حتى تهدأ، وأعلاها الاستفادة من هذه الأزمة واستخدام الحلول الإبداعية كافة للخروج ببعض الامتيازات.

____________________________________________________

المصادر:

  1. Higher Inflation Is Here to Stay for Years, Economists Forecast 
  2. Fed Officials See ‘Transitory’ Inflation Lasting Quite a While 
  3. ?What Is Inflation and How DoesIt Affect Small Businesses
  4. Almost half of small-business owners are taking out loans because of inflation
  5. A new inflation reading shows the small business tipping point has been reached
  6. 3 Strategic Options to Deal with Inflation 
  7. Downsizing Price Increases: A Greater Sensitivity to Price than Quantity in Consumer Markets
  8. Objects in store are smaller than they appear 
المصدر : الجزيرة