لماذا تسعى الشركات الكبرى للاستحواذ على المشاريع الناشئة بأعلى سعر؟

في العام 2018، صدرت تقارير تتوقع أن صفقات الاستحواذ والاندماج العالمية قد تجاوزت ثلاثة تريليونات دولار، ما جعله من أكثر الأعوام التي تشهد هذا القدر الهائل من الصفقات. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبحسب تقرير ميرجر ماركت، فقد وصلت قيمة عمليات الاندماج والاستحواذ في المنطقة إلى 26.7 مليار دولار مقارنة بـ 15.8 مليار دولار في العام 2017، أي بزيادة كبيرة تُقدّر بـ 68%. (1، 2)
لا شك أن إحدى أهم اللحظات التي ينتظرها رائد الأعمال -أو اللحظة الأهم على الإطلاق أحيانا- هو أن يصله عرض استحواذ من شركة كبرى بمبلغ كبير، يوفر له الحرية المالية من ناحية ويضمن استمرار مشروعه ونجاحه بشكل أكبر بانضمامه إلى مؤسسة عملاقة. ولكي يصلك هذا العرض، يجب أن تكون على علم سابق بالأسباب التي تجعل الشركات الكبيرة تتقدم للاستحواذ على شركتك، وربما تستهدف هذه الأسباب تحديدا. (3)
أحيانا، تراقبك الشركات الكبرى ليس فقط لنشاطك في تأسيس شركات ناجحة، وإنما رغبة في شراء رأسك أيضا. مارك لور يعتبر واحدا من هذه النماذج، فبعد مسيرة وظيفية جيدة في عدة بنوك ومؤسسات مالية، استطاع لور أن يؤسس في 2005 شركته الناشئة الأولى "Diapers.com"، وهي شركة متخصصة في بيع حفّاظات الأطفال رقميا، ثم توسّعت لتشمل أدوات وأجهزة عائلية متخصصة تحت اسم "Quidsi" الذي تفرّع منها عدد من المواقع الإلكترونية. حققت الشركة نجاحا كبيرا في عالم التجارة الرقمية، مما جعل شركة "أمازون" تستحوذ عليها بقيمة 545 مليون دولار في العام 2011.
كان من ضمن العقد، أن ينضم مارك لور للعمل في شركة "أمازون" للاستفادة من خبراته، وهو ما حدث بالفعل لمدة عامين. في العام 2014، أسس مارك لور شركة ناشئة أخرى متخصصة في مجال البيع الرقمي وهي شركة "Jet.com"، واستطاعت الشركة أن تحصد تمويلا هائلا يُقدّر بـ 840 مليون دولار على مدار أربع جولات تمويلية (Venture rounds) يقوده تحالف من الشركات، وذلك بسبب كفاءة لور في هذا المجال وسيرته الذاتية المميزة في تأسيس وإدارة مؤسسات التجارة الرقمية.
هذا النمو السريع دعا عملاق التجارة بالتجزئة "وولمارت" المنافس التقليدي لشركة "أمازون" بأن تهرع للاستحواذ على شركة "Jet.com" بصفقة قُدّرت بـ 3.3 مليار دولار، إلى جانب تعيين مارك لور -الذي سبق له العمل في منافستها أمازون- كقيادي تنفيذي في إدارتها. لم تكن "وولمارت" تسعى فقط لشراء التقنية التي أسسها مارك لور، بل كانت تسعى أيضا لشراء رأسه القيادي الموهوب للاستفادة منه في تطوير شركاتها.
الاستحواذ على الموهبة يُعتبر واحدا من أهم العناصر التي تتقاتل عليها الشركات الكبرى لتطوير كوادرها وأنشطتها، وليس فقط الاستحواذ على شركاتهم الناشئة. في لقاء مع وول ستريت جورنال، قال "مارك لور" إن "وولمارت" تستهدف توظيف قادة الشركات الناشئة الواعدة بهدف إدارة أقسام كاملة في شركتها الضخمة، ولا تستهدف فقط شراء شركاتهم والاستمرار في قيادتها. (4، 5، 6)
في خضم المعركة الهائلة بين شركتي "جيليت" (Gillette) وشركة "يونيلفر" (Unilever) للاستحواذ على أسواق مستحضرات التجميل الرجالية المختلفة، ظهرت في الأسواق شركة ناشئة صغيرة تُدعى "Dollar Shave Club". الشركة الناشئة تقوم بتطوير أمواس حلاقة لا بأس بها، وترسلها عبر البريد إلى المستخدمين في زمن قياسي مقابل اشتراك شهري قيمته دولار واحد.
|
لاحقا، أطلقت الشركة إعلانا ترويجيا إبداعيا بثّته على يوتيوب يحثّ المستهلكين على الشراء، وهو ما رفع عدد عملائها بشكل استثنائي في زمن قياسي، وبدأ للشركة وجود متصاعد في الأسواق على الرغم من أن منتجاتها لم تكن الأفضل مقارنة بالشركات العملاقة في هذا المجال، إلا أن الشركة الناشئة استطاعت أن تجد لها موطئ قدم ممتاز في الانتشار السريع وإيصال الطلبات وكسب رضا وولاء شرائح كبرى من العملاء.
بعد أربع سنوات تقريبا من تأسيس "Dollar shave club"، أقدمت شركة "يونيلفر" على الاستحواذ عليها بصفقة قُدّرت بمليار دولار مستهدفة أن تضم قنوات التوزيع والانتشار الممتازة التي حققتها الشركة الناشئة ومعدلات نمو العملاء الكبيرة التي استطاعت أن توفرها خلال سنوات قليلة؛ مما يجعل "يونيلفر" تحقق استفادة كبرى من وراء معدلات الوصول هذه، وبالتالي تحقيق ميزة تنافسية أكبر أمام منافستها التقليدية "جيليت".
كانت شركة "Dollar Shave Club" الناشئة بمنزلة العنصر السوقي القوي الذي بحثت عنه "يونيلفر" لدعم وجودها في الأسواق، وهو ما أظهرت صحته تماما نتائج العام التالي من صفقة الاستحواذ عندما دفعت وسائل "DSC" وقنواتها في الانتشار والتسويق في تحقيق قفزة بمقدار 47% من المبيعات المباشرة لشركة "يونيلفر" لعملائها. (3، 7)
عملية دخول أسواق جديدة هي عملية مكلّفة ومرهقة وطويلة قطعا، حتى لو كانت شركة عملاقة تقودها. دخول علامة تجارية جديدة إلى أي سوق يعني الكثير من الآليات والخطوات والبناء والتأسيس ووضع نظام للعمليات والإدارة وتوظيف الموظفين وإنشاء قواعد للدعم الفني وعمل دراسات سوقية موسّعة، فضلا عن الدخول في منافسة مع شركات راسخة بالفعل في هذه الأسواق، وهو ما يعني إشعال حرب استنزاف للوقت والمجهود والموارد.
لذلك، تميل الشركات الكبرى إلى عمليات الاستحواذ على الشركات المحلية أو الإقليمية القائمة بالفعل التي تحقق نجاحات جيدة في مستوى أسواق معيّنة، وتقوم بضمّها إليها. هذه الخطوة تحديدا هي أحد أهم أسباب استحواذ الشركات الكبرى على الشركات الناشئة المميزة، وهو دخول أسواق جديدة بشكل لحظي، ولا يستدعي وقتا طويلا. وبالطبع مهما كان مبلغ الصفقة كبيرا، فهو لن يزيد عن الأموال والموارد التي كانت ستُنفق في حالة دخول سوق جديد من الصفر.
في نهاية العام 2016، أقدم عملاق التجزئة والتجارة الرقمية العالمي "أمازون" على شراء موقع "سوق كوم" الذي يستهدف التجارة الرقمية في الشرق الأوسط بنحو 580 مليون دولار، واعتُبرت واحدة من أكبر صفقات المنطقة العربية. صفقة الاستحواذ ساعدت "أمازون" في ولوج أسواق الشرق الأوسط والوصول إلى شرائح هائلة من العملاء والمستخدمين دون الحاجة إلى البناء من الصفر.
لاحقا، وفي صيف عام 2019، أعلنت "أمازون" إغلاقها للعلامة التجارية "سوق كوم" واستبدالها العلامة التجارية الأساسية لها "أمازون" (Amazon.ae) بها، لتظهر بشكل كامل في المنطقة بعلامتها التجارية التقليدية بعد عامين من إتمام الاستحواذ، ولتصبح المزوّد الأساسي لخدمة التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى تأسيس كيان إقليمي من الصفر للمنافسة في هذا السوق مع شركات أخرى موجودة بالفعل وتحقق نموا تصاعديا. (8، 9، 10)
عندما قتلت شركة "أمازون" العلامة التجارية الكبيرة لشركة "سوق كوم"، وأحلّت مكانها علامتها التجارية العالمية، لم يكن فقط استفادة من حيث الحصول على جمهور "سوق كوم" وقاعدته من العملاء والموظفين والانتشار في أسواق الشرق الأوسط، وإنما أيضا لتحييد "سوق كوم" من المنافسة على كعكة المستهلكين العرب ووصولهم المباشر إلى "أمازون". واحد من أهم الأسباب التي تدفع الشركات الكبرى للاستحواذ على الشركات الناشئة هو: قتل المنافسة.
وعند الحديث عن نموذج قتل المنافسة فإنه عادة ما يتبادر للذهن ما فعله فيسبوك تجاه إنستغرام وواتساب. بعد عدة سنوات من انتشار فيسبوك والإقبال العالمي الهائل عليه، ظهر تطبيقان اعتُبِرا كابوسا حقيقيا لفيسبوك: تطبيق إنستغرام لمشاركة الصور، وتطبيق واتساب للرسائل السريعة. كان كلا التطبيقين يمثّلان تهديدا مُباشرا لطبيعة عمل فيسبوك الذي يشارك الصور، والذي يوفّر التراسل السريع لمستخدميه، ما يعني حتما سحب عدد كبير من المستخدمين للفيسبوك إليهما، وبالتالي التأثير بشكل مباشر على عدد مستخدمي الشبكة بشكل سلبي.
ماذا فعل فيسبوك؟ أنفق 20 مليار دولار كاملة للاستحواذ على التطبيقين، مليار دولار لشراء إنستغرام، و19 مليار دولار لشراء واتساب، وهو ما اعتبره الكثيرون صفقات "مجنونة" بأرقام خيالية حينئذ، كونها كانت تطبيقات ناشئة لم تحظَ بشهرة كافية تبرر هذه الأرقام الضخمة للاستحواذ عليها. إلا أن الأيام أثبتت أن الخطوة الاستباقية التي أخذها فيسبوك كانت صحيحة تماما.
باستحواذ فيسبوك على التطبيقين فإنه قد أصاب عصفورين بحجر، فمن ناحية، كل تطوّر يحققه التطبيقان سيصب في مصلحة فيسبوك ويدعم انتشاره باعتباره الجهة المالكة لهما، وفي الوقت نفسه شراء فيسبوك للتطبيقين قام بتحييد منافسين شرسين قد يظهران على المدى القريب ويعرقلان مسار نموه بجذب عدد كبير من شريحة مستخدميه نفسها بالضبط.
الاتجاه نفسه فعلته شركة "أوبر" العالمية للنقل التشاركي عندما قامت بالاستحواذ على شركة "كريم" (Careem) بصفقة كبيرة قُدّرت بأكثر من 3 مليارات دولار، وهي ما اعتُبرت أحد أبرز أمثلة إزاحة الشركات الكبرى للشركات الناشئة المنافسة من طريقها في الأسواق الإقليمية بالسيطرة عليها والاستفادة من نموّها، والأهم: قتل المنافسة معها. (11، 12)
في أواخر يوليو/تموز 2019 أُعلن أخيرا عن إتمام صفقة استحواذ شركة "IBM" العملاقة على شركة "ريد هات" (Red Hat) للبرمجيات مفتوحة المصدر برقم ضخم قُدّر بـ 34 مليار دولار، وهو ما يعتبر أضخم صفقة استحواذ قامت بها شركة "IBM" في تاريخها. الصفقة جاءت بالأساس لتعزيز موقف "IBM" أمام منافسيها التقليديين الكبار في مجال الحوسبة السحابية (Cloud Computing): "أمازون" و"مايكروسوفت".
مع هذا الرقم الهائل، من ضمن شروط الاستحواذ أن ينتقل فريق عمل "ريد هات" (Red Hat) للعمل تحت قسم الحوسبة لشركة "IBM" ويصبحوا موظفين تابعين للشركة ليس فقط على المستوى الفني التقني، بل على المستوى الإداري حيث يتولى المدير التنفيذي لـ "ريد هات" (Red Hat) منصبا إداريا في شركة "IBM". الاستحواذ جاء كنقلة نوعية مهمة تساعد "IBM" في زيادة مستويات أرباحها بشكل كبير، وأيضا الصمود في المنافسة الشرسة ضد خصومها التقليديين.
شركة "أمازون" مثلا، حققت نموا بنسبة 41.5% في الربع الأول من العام 2019 ليصل إلى 7.7 مليار دولار في قطاع الحوسبة السحابية، مما يجعلها خصما شرسا لـ "IBM". من جهة أخرى، شركة "مايكروسوفت" أعلنت أنها حققت نموا هائلا بقيمة 73% في الربع الحالي، بينما تبرز شركة "غوغل" أيضا باعتبارها لاعبا نشطا في سوق الحوسبة السحابية يحقق نموا كبيرا. لذلك، فإن ضمّ "ريد هات" (Red Hat) إلى "IBM" يعتبر بمنزلة السلاح الفعّال لمواجهة الأُسُود الجائعة في هذا السوق المتصاعد الذي يؤثر على عدد كبير من القطاعات التقنية الأخرى، ما يجعله فريسة حقيقية يسعى الكبار لاقتناص أكبر قدر منها. (13، 14)
في النهاية، بالطبع الاستحواذ قد يرسّخ بشكل من الأشكال لمبادئ الاحتكار، باعتبار أن الشركات العملاقة هي التي تستحوذ على الشركات الوسطى والأدنى لتضمن بقاءها وقوتها في السوق واحتكارها للمنتجات والخدمات. ومع ذلك، فهو يبقى إحدى أهم الصفقات التي ينتظرها ويتمناها رائد الأعمال، ليس فقط للحصول على الأموال من ورائها، بل أيضا لضمان استمرار شركته ضمن منظومة ضخمة تحميها من تقلبات الأسواق العنيفة.