دقائق ثمينة.. لماذا توفر الشركات الكبرى مكانا للقيلولة في العمل؟

"فكر في القيلولة كحقٍّ أساسي، لا كشيء كماليٍّ تافه"
(ماليا ولن)(1)
في كل مكان حول العالم، تشهد بيئة الأعمال تحديات تفرض على قادة الأعمال مواجهتها بطرق وسياسات مرنة للمحافظة على قوة مؤسساتهم وازدهارها. والوقائع تقول إن أحد هذه التحديات ليس مرتبطا بالعوامل السياسية أو المالية، بل بأهم مورد تقوم عليه هذه المؤسسات، وهو الموظفون، الأمر مرتبط بصحتهم وانعكاس ما يؤثر عليها سلبا على بيئة عملهم، فالعديد من المُسوح والاستطلاعات تشير إلى استمرار انخفاض معدل ساعات النوم التي يحصل عليها الأشخاص اليوم مقارنة بسنوات قليلة مضت، ما وضع العالم في مواجهة "وباء عالمي" يُعرف باسم "فقدان النوم"(2)، ترافقه مخاطر صحية واقتصادية، دفعت العديد من الشركات والمؤسسات الأكاديمية إلى خلق بيئة ملائمة للنوم داخلها، ومحاولة تعويض ما فقده الموظفون من نوم خلال الليل بإدراج القيلولة ضمن سياساتها، بل وتشجيعهم للحصول عليها خلال ساعات العمل، فما الذي دفع الشركات للسماح بالقيلولة؟ وهل يمكن الحصول على قيلولة سريعة خلال ساعات الدوام؟
موظفون منهكون، والقيلولة درع الحماية
يرى د. ماثيو وكر، أحد أطباء الأعصاب، أن "الساعات الطويلة التي يقضيها الشخص في العمل وفي وسائل المواصلات خلال ذهابه وإيابه تُقلّص فترات النوم كما لو وقع النوم بين فكّي كماشة"، وهذا ينال من صحة الشخص، "فليس هناك أي جانب من جوانب الصحة أو العقل أو الرفاه لا يعتمد على نوم كافٍ"(3)، ويشير مختصون إلى أن الحصول على نوم غير كافٍ يؤدي إلى تدهور أنظمة الجسم الخلوية، ويُسرِّع الشيخوخة، ويُسبّب انتكاسة لدى المصابين بمرض "ألزهايمر"، ويزيد احتمالية الإصابة بالسمنة، والقلق والاكتئاب، والأمراض القلبية الوعائية، ويساهم في ظهور أعراض تشبه أعراض الذهان كالهلاوس والأوهام، ويُضعف القدرة على اتخاذ القرارات اليومية، ويُسبّب انخفاض الإنتاجية في العمل(4).
هذه الأعراض وغيرها لا ينحصر تأثيرها على الأشخاص، كلٌّ داخل دائرة حياته فقط، بل تمتد لتطال البيئات المحيطة بهم حيثما عملوا، على اختلاف مهامهم ووظائفهم، فهم ركيزة الاقتصاد، ومحرك نجاح مؤسساته، وبالتالي فإن إصابتهم بـ "فقدان النوم" وعدم قدرتهم على تعويض ما فقدوا من نوم ليلا بالقيلولة خلال النهار ينعكس سلبا على أدائهم المهني، بل ويهدد حتى الشركات والاقتصادات الكبرى، ويتسبّب في خسارة دول متقدمة كالمملكة المتحدة ما يعادل 40 بليون جنيه إسترليني من إجمالي ناتجها المحلي، فيما يصل حجم الخسائر التي يتكبّدها اقتصاد الولايات المتحدة -للسبب نفسه- إلى 411 بليون دولار أميركي، و 1.23 مليون يوم عمل سنويا(5).
لكن قيلولة لبضع دقائق يغنمها الأشخاص خلال ساعات العمل نهارا أو ليلا ستساعد في تفادي تلك الخسائر، وستمكّنهم من استعادة نشاطهم، وستُشكّل فارقا كبيرا في أدائهم الوظيفي. وللتحقق من هذا الاستنتاج الذي أشرنا إليه، فقد عمل عدة باحثين على تحليل أثر الحصول على قيلولة خلال العمل أو الدراسة على الموظفين والطلبة، فما الذي وصلوا إليه؟
|
"إن حصول أطباء الطوارئ على قيلولة، لن يجعلهم يؤدون وظائفهم بشكل أفضل فحسب، بل سيجعلهم أكثر لطفا في تعاملهم معك"، هذه النتيجة أظهرها بحث قام به المركز الطبي لجامعة ستانفورد، وتتبّعت تجاربه فعالية القيلولة في مواجهة الحرمان من النوم. حيث اختار الباحثون 49 طبيبا وممرضا، سيتعيّن عليهم القيام بمهامهم في غرفة الطوارئ خلال نوبة ليلية مدتها 12 ساعة، وقسمت المجموعة إلى قسمين، أحدهما استمر في تأدية مهامه بشكل متواصل خلال تلك الفترة، بينما حصل القسم الآخر على استراحة نوم مدتها 40 دقيقة بعد انقضاء نصف مدة العمل، ثم عُرضت على المجموعة كاملة نماذج اختبارات محاكاة لمهام كقيادة السيارة، وحقن إبر الوريد، إضافة لاختبار مصمم بواسطة وكالة ناسا لتحديد الحالات المزاجية المختلفة كالغضب والتعب والتشوّش والاكتئاب.
وأظهرت نتائج الاختبارات أنه عند مقارنة نتائج الفريقين، فقد حقق الفريق الذي حصل على قسط من النوم خلال فترة العمل درجات أعلى في القوة والأداء، وأظهر معدلات أقل في التعب والنعاس، بل كانوا أسرع في أداء مهمة حقن إبر الوريد، وقادوا السيارات بطريقة أكثر أمانا، وقدّم القائمون على البحث توصياتهم بضرورة تنفيذ "برامج القيلولة" داخل المؤسسات، مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة مواجهة المفهوم الاجتماعي الذي ينظر إلى الأشخاص الذين يطلبون قيلولة على أنهم كُسالى ومتراخون.
وانضم إلى هذه الدراسة بحث آخر نفّذه الأطباء النفسيون بجامعة سارلاند (University Saarland) بألمانيا وأظهر أن الحصول على قيلولة لمدة تقل عن ساعة يُسبّب تحسّنا ملحوظا في أداء الذاكرة، أما في كلية "أليغني" (Allegheny College) الأميركية فقد أعلنت دراسة نُفّذت بواسطة أحد باحثيها أن القيلولة لأقل من 45 دقيقة خلال اليوم تخفِّض ضغط الدم بعد التعرض لإجهاد نفسي(6)، وفيما يخص التعلم ومعالجة المعلومات فقد أوضحت مجموعة من التجارب التي قام بها فريق من جامعة هارفارد أن الحصول على قيلولة في منتصف اليوم له تأثير النوم نفسه في تحسين معالجة المعلومات، فهو يخفف الإنهاك الناتج عن توارد كميات كبيرة من المعلومات للدماغ، ويعزز القدرة على تعلم المهارات الحركية كالرياضات واستخدام الأدوات الموسيقية(7)، كما أوضحت إحدى دراسات وكالة ناسا أن الطيارين العسكريين وعلماء الفضاء الذين يحصلون على قيلولة مدتها 40 دقيقة يتحسّن أداؤهم بنسبة 34%، ويقظتهم بنسبة 100%.
شركات رحبت بالقيلولة
صمّمت شركة "مترونابس" (MetroNaps) كرسي "إنرجي بود" (EnergyPod) الأول من نوعه في العالم للحصول على قيلولة في مكان العمل، وراعت الشركة في تصميمها مواءمة الكرسي للسمات الجمالية في مكان العمل، ووفّرته باللونين الأبيض والرمادي، وزوّدته بتقنية تسمح بالنوم لمدة 20 دقيقة في وضعية أفقية، والاستيقاظ بدون تنبيه، بل بواسطة مجموعة من الأنوار والاهتزازات الخفيفة(8).
استخدمت الكرسي عدة شركات حول العالم داخل مقرّاتها، وتم توفيره في شركة غوغل (Google) لأكثر من 72 ألف موظف، وفي شركة "وايت آند كيز" (White & Case) لأكثر من ألفي موظف، وفي مكتب الخدمات المالية لشركة "مرسيدس بينز" (Mercedes-Benz Financial Services) لنحو 600 موظف، وفي فرع وكالة ناسا بـمدينة "بالمديل" للقائمين على بحوث الفضاء ولروّاد الفضاء.
لم يقتصر الأمر على الشركات، فهناك جامعات وفّرت الكرسي أيضا مثل "كلية سافانا للتصميم والفنون" (Savannah College of Art and Design) وجامعة "تكساس إيه آند إم" (Texas A&M University)، بينما حاولت جامعات أخرى تطبيق فكرة "قسط من النوم" خلال النهار عبر تخصيص أماكن مناسبة لذلك، ففي جامعة "وك فورست" (Wake Forest University) احتلت غرفة النوم جزءا من مكتبتها ابتداء من العام 2014، وعُرفت الغرفة باسم "زيستا روم" (ZieSta Room) وحُررت من أي أدوات تواصل تكنولوجي، فلا سبيل لوصول المكالمات أو رسائل البريد، وزودت بكراسي ملائمة للاسترخاء والنوم، أما جامعة "ميشيغان" (University of Michigan) فقد وفرت بيئة للنوم وحرصت على تطبيق إجراءات النظافة داخلها، وإتاحة الوصول إليها طوال أيام الأسبوع، لكنها حددت فترة النوم فيها إلى 30 دقيقة فقط9.
قيلولة داخل مكان العمل
كيف يمكنك الحصول على قيلولة خلال فترة عملك؟ وماذا إن لم يتوفر كرسي "إنرجي بود"؟ وهل هناك فترة محددة للحصول على قيلولة مثالية؟ توضح "المؤسسة الوطنية للنوم" (National Sleep Foundation) أن للقيلولة ثلاثة أنواع: النوع الأول هو "القيلولة المخطط لها" (Planned napping)، وتُعرف أيضا باسم "القيلولة التحضيرية" (preparatory napping)، وهي الفترة التي يمكنك أن تنام فيها للتخلص من التعب الذي تشعر به أو عندما تعلم أنك ستتأخر لسبب ما عن موعد نومك ليلا.
النوع الثاني يحدث عند تعرض الشخص لإجهاد بدني كبير وتعب شديد خلال أدائه مهام مجهدة باستخدام معدات خطرة أو ثقيلة أو خلال القيادة، ويُعرف بـ "قيلولة الطوارئ" (Emergency napping)، أما "القيلولة الاعتيادية" (Habitual napping) فهي التي يمارسها الشخص كعادة يومية في الوقت نفسه، كما في نوم الأطفال يوميا في الساعة نفسها، أو نوم الكبار يوميا بعد وجبة الغداء.
قيلولة مثالية
للحصول على قيلولة مثالية تنصح المؤسسة أن تكون القيلولة لفترة قصيرة تتراوح بين 20-30 دقيقة، لتحقق القيلولة فوائدها ولتفادي الدخول في مرحلة النوم الثقيل أو التأثير على النوم ليلا، كما تنوّه بدور البيئة المحيطة بالشخص الذي يخطط للحصول على قيلولة وتأثيرها في قدرته على الدخول في النوم، لذا يُفضّل أن يبحث الشخص عن مكان هادئ يتيح له الاستلقاء ويتمتع بدرجة حرارة مناسبة، مع إمكانية التخلص من مصادر الضوضاء والإضاءة القوية، وتنصح بعدم الحصول على القيلولة بعد وقت قصير من الاستيقاظ صباحا لأن الجسد في هذه الحالة لن يكون مستعدا للنوم مجددا، ولا بتأخيرها إلى موعد يقترب من موعد النوم ليلا فذلك يُصعّب دخول الشخص في حالة النوم في الساعة المحددة لنومه يوميا، ويُنصح الموظفون الذي يعملون في نوبات ليلية بالحصول على القيلولة قبل البدء بالعمل، والحصول على مشروبات تحتوي الكافيين لضمان يقظة مستمرة خلال الليل، لمقاومة رغبة الجسم الفطرية في الحصول على نوم خلال فترة الليل.
وتنوه المؤسسة أيضا باحتمالية إصابة الشخص بـ"كسل النوم" (Sleep Inertia) عند النوم لعشر إلى عشرين دقيقة، وهي حالة من الشعور بالترنح وعدم التوازن تحدث عند الاستيقاظ من نوم عميق، وتستمر لعدة دقائق إلى نصف ساعة بعد الاستيقاظ من النوم وقد تستمر لفترة أطول لدى الأشخاص المحرومين من النوم أو الذين استغرقوا في نوبات قيلولة طويلة، وهي نقطة يجب مراعاتها إذا كان الشخص يعمل في مهن تتطلب منه القيام بمهامه بشكل فوري أو عاجل.
أماكن مناسبة
يمكنك اغتنام العديد من الأماكن خارج بيئة العمل للحصول على قيلولة خلال النهار كالسيارة مثلا، أو داخل مكان العمل كغرفة الاجتماعات، مكان هادئ ستتمكّن من إيجاده خاليا خلال النهار، لكن تأكد من مراجعة جدول الاجتماعات كي لا تتعرض لمقاطعة مزعجة خلال نومك.

هناك غرفة هادئة في كل مبنى عمل، قد لا يتردد عليها الأشخاص طوال اليوم، ربما تكون المكتبة أو المصلى أو غرفة مخصصة للراحة، وإن لم تجد أيًّا من هذه الأماكن فأمامك مكتبك يمكنك أن تلقي رأسك عليه وتبدأ قسطك من النوم، وإن لم تتمكّن من ذلك، استغل المساحة الموجودة أسفل المكتب خصوصا إن لم تسهل رؤيتك، واستعن بما يساعدك للدخول في النوم.
أدوات مساعدة
احصل على إذن مسؤولك وأخبر زملاءك بأنك ستحصل على قيلولة لتتفادى المقاطعات من قِبلهم، وتأكد أيضا من عدم وجود مشتتات أخرى كالضوء والضوضاء وتنبيهات الأجهزة الإلكترونية، وتفادى الخوف من عدم الاستيقاظ في الوقت المحدد باستخدام المنبه، والدخول في كسل النوم بالحصول على فترة نوم قصيرة بين 15-20 دقيقة(10).
يُنصح أيضا باتباع بعض الخطوات للدخول سريعا في النوم كاستخدام سماعات الرأس لعزل الأصوات الخارجية، ووضع زيت اللافندر على مواطن النبض البارزة في اليد مثلا للحصول على تأثيره المهدئ، وإغلاق باب المكان إن أمكن، واستخدام غطاء قاتم اللون لحجب الإضاءة، ووسادة مريحة للرقبة، وغطاء للعين.