شعار قسم ميدان

الخوف من السقوط.. لماذا فقدنا القدرة على الاستمتاع بإنجازاتنا؟

ميدان - السقوط

"ليس صحيحا أن أحدا لا يحتاجك بعد الآن"

  

جاءت هذه الكلمات على لسان امرأة مُسنّة تجلس خلفي على متن رحلة في وقت متأخر من الليل من لوس أنجلوس حتى واشنطن، دي. سي. كانت الطائرة معتمة وهادئة، تمتم لها رجل -افترضت أنه زوجها- بصوت يكاد يكون مسموع، شيئا من قبيل: "ليتني أموت". مرة أخرى، قالت السيدة: "أوه، توقف عن قول ذلك". لم أقصد استراق السمع، لكنني عجزت عن مقاومته، واستمعت بافتتان سقيم، أرسم صورة للرجل داخل رأسي بينما يتكلمان. تخيلت شخصا عمل بجد طوال حياته مع صعوبة نسبية، شخصا بأحلام غير محققة، ربما هي درجة جامعية لم يحصّلها، سلك مهني لم يسلكه، شركة لم يُطلِقْها.

  

بنهاية الرحلة، ومع إنارة الأضواء، رأيت أخيرا الرجل المُحطّم، وهالَني ما رأيت. فقد تمكنت من التعرف إليه، لقد كان، وما زال، رجلا معروفا على الصعيد العالمي. ثم إنه عند منتصف ثمانينياته، نال حب الناس بوصفه بطلا، لشجاعته، ووطنيته، وإنجازاته قبل عقود عديدة خلت. وبينما هو يقطع ممر الطائرة ورائي، قام المسافرون الآخرون بتحيته بإجلال. وعند قُمرة القيادة، استوقفه الطيار قائلا: "سيدي، أنا معجب بك مذ كنت فتى صغيرا". زها الرجل الكبير -والذي بدا أنه كان يتمنى الموت قبل دقائق فحسب- فخرا بالتقدير الذي ناله على أمجاده الماضية.

  

لأسباب أنانية، لم أتمكن من إخراج التنافر المعرفي لهذا المشهد من رأسي. كان ذلك في صيف عام 2015، بعد عيد ميلادي الحادي والخمسين بوقت قصير. لم أكن مشهورة على مستوى العالم كالرجل على متن الرحلة، لكن حياتي المهنية كانت تسير على ما يرام. كنت أرأس مجموعة تفكير واعدة في واشنطن، هي "معهد المبادرة الأميركية" (The American Enterprise Institute)، وألّفت بعض أفضل الكتب مبيعا. حضر الناس خطاباتي، ونُشرت لي أعمدة صحفية في النيويورك تايمز. 

     undefined

     

لكنني بدأت أتساءل: هل حقا سأتمكن من الاستمرار في الأمر؟ إنني أعمل كالمجانين. لكن حتى إن أنفقت 12 ساعة يوميا، وسبعة أيام في الأسبوع، وأنا أعمل، فلا بد أن تهرم سيرتي المهنية وتموت. وعندما يحدث ذلك، ماذا سأفعل؟ هل سيأتي يوم أنظر فيه إلى الماضي بأسى وأتمنى الموت؟ هل كان هناك شيء بوسعي فعله، بدءا من الآن، لكي أمنح نفسي فرصة تفادي البؤس، وربما حتى تحقيق السعادة حينما تتوقف الموسيقى عن العزف؟ مع أنها كانت أسئلة شخصية، قررت أن أوقظ عالمة الاجتماع التي أنا عليها، وأتعامل معها كمشروع بحثي. بدا الأمر خارجا عن المألوف، كجراح شاء أن يستأصل زائدته الدودية بنفسه. لكنني مضيت قدما، وطيلة أربع سنوات خلت، كنت في مهمة لمعرفة كيف أحوّل تراجعي المهني الآتي من مسألة تُثير الفزع إلى مجال للتقدم.

  

نتائج الرحلة

على مدار العقدين الفائتين، ازدهر حقل "دراسات السعادة"، ونما توافق في الآراء حول السعادة مع تقدمنا في الحياة. في كتاب "منحى السعادة: لماذا تحلو الحياة بعد سن الخمسين"، يعرض جوناثان راوتش، الباحث في معهد بروكينجز والمحرر في مجلة الأتلانتيك، أدلة دامغة مفادها أن معظم البالغين يشهدون تراجعا في السعادة في أثناء عقدهم الثالث والرابع، حتى الارتطام بالقاع ومن ثم الارتداد صعودا في العقد الخامس. لا شيء ثابت في هذا النسق، بالطبع. لكن البيانات تبدو متسقة مع خبرتي الشخصية: فأربعينيّاتي وبواكير خمسينيّاتي لم يتخللها أي فترة من السعادة المميزة في حياتي، برغم أمجادي المهنية.

   

كتاب
كتاب "منحى السعادة: لماذا تحلو الحياة بعد سن الخمسين"، لـ "جوناثان راوتش" (مواقع التواصل)

   

إذن، ماذا يجب أن يتوقع الناس بعد ذلك، بناء على البيانات؟ النتائج متنوعة. تقريبا تُظهِر كل دراسات السعادة على مدار العمر أن معظم رضا الناس، في البلدان الأكثر ثراء، يبدأ بالارتفاع مرة أخرى في الخمسينيات حتى سن السبعين أو نحوها. مع أنه السن الذي تصبح فيه الأشياء أقل قابلية للتنبؤ. بعد سن السبعين، يظل البعض في سعادة ثابتة، بينما تتصاعد سعادة البعض الآخر حتى الوفاة. في حين يرى آخرون، لا سيما الرجال، سعادتهم تتناقص. حيث إن معدّلات الاكتئاب والانتحار تشهد ارتفاعا لدى الرجال بعد سن الخامسة والسبعين.

   

هذه الفئة الأخيرة يبدو أنها تتضمن البطل على متن الطائرة. وقد تناولت الأبحاث هذه الفئة لفهم السبب الكامن خلف تعاستها. إنه، بعبارة واحدة، انعدام الأهمية. في عام 2007، قام فريق من الباحثين الأكاديميين من جامعتَيْ لوس أنجلوس وبرينستون بتحليل بيانات أكثر من 1000 شخص بالغ كبير في السن. نشرت النتائج في "دورية علم الشيخوخة"، وأظهرت أن المواطنين الكبار في السن الذين قلّما "شعروا بالقيمة"، أو أنَّ هذا الشعور لم يساورهم إطلاقا حتى (إحساسهم بقيمتهم)، كانوا معرّضين أكثر بثلاث مرات لتطوير إعاقة حادة عن أولئك الذين ساورهم هذا الشعور، وكانوا عرضة للوفاة أكثر بثلاث مرات خلال مسار هذه الدراسة. قد يعتقد المرء أن الموهوبين والبارعين، كالرجل على متن الطائرة، سيكونون أقل تعرضا من الآخرين لهذا الإحساس بانعدام الأهمية، ففي نهاية المطاف، لا شك أن الإنجاز مورد موثّق جيدا للسعادة. وإن كان الإنجاز في الوقت الآني يجلب السعادة، ألا يفترض بذاكرتنا عن هذا الإنجاز أن تجلب بعض السعادة أيضا؟

   

ربما لا؛ مع أن المؤلفات بشأن هذا السؤال ضئيلة، لا يبدو أن الموهوبيّة والإنجازات التي تكون في مقتبل العمر بوليصة تأمين ضد المعاناة في وقت لاحق. في عام 1999، قامت كارول هولان برفقة تشارلز هولان، وهما عالما نفس من جامعة تكساس، بنشر ورقة مؤثرة في "المجلة الدولية للشيخوخة والتطور الإنساني" تناولت المئات من البالغين الكبار في السن الذين عُرف عنهم الموهوبية العالية في مقتبل العمر. وكان الاستنتاج الهولانيّ كالتالي: "إن التعلم في سن مبكرة لدى أعضاء دراسة بحثت الموهوبيّة الفكرية ارتبط بـسعادة نفسية مستحسنة أقل في سن الثمانين".

    undefined

  

قد تكون هذه الدراسة تُظهِر ببساطة أنه من الصعب الرُّقي إلى مستوى التوقعات المرتفعة، وأن إخبار أبنائك بأنهم عباقرة ليس بالضرورة أبوة جيدة. (يخمن الهولانيّان أن الأطفال الذين حددوا باعتبارهم موهوبين ربما جعلوا القدرة الفكرية أكثر مركزية في تقييم الذات، وهو ما ولّد "تطلعات غير واقعية للنجاح" وسبب لهم الفشل في "احتساب العديد من المؤثرات الحياتية على النجاح والتميز"). لكن وفرة من الأدلة تفيد بأن فتور القدرة لدى الأشخاص الذين قدموا إنجازات هائلة له وقع نفسي مدمر. ولنأخذ مثالا الرياضيين المحترفين، الذين يناضل العديد منهم بشدة بعد انتهاء مسيرتهم الرياضية. والأمثلة المأساوية كثيرة، وهي تتضمن الاكتئاب، والإدمان، أو الانتحار. إن التعاسة لدى الرياضيين المتقاعدين قد تكون العُرف السائد. فقد وجدت دراسة نُشرت بمجلة "علم النفس الرياضي التطبيقي" في عام 2003، كانت قد رصدت الرضا عن الحياة لدى الرياضيين الأولمبيين السابقين، أن معاناتهم بشكل عام جاءت من الحس المتدني بالسيطرة على حياتهم عندما توقفوا عن التنافس في أول الأمر.

   

قمت مؤخرا بسؤال دومينيك داوز، وهي لاعبة جمباز حازت الميدالية الذهبية، كيف كانت الحياة العادية بعد التنافس والفوز على أعلى المستويات. وأخبرتني بأنها سعيدة، لكن التأقلم لم يكن بالأمر السهل، وما زال، مع أن آخر ميدالية أولمبية حازتها كانت في عام 2000. وقالت: "إن ذاتي الأولمبية كانت لتدمر زواجي وتخلّف إحساسا بالقصور لدى أطفالي"، ذلك أنها متطلبة جدا وصعبة المراس. وتضيف: "إن عيشي لحياتي كما لو أن كل يوم هو الأولمبياد لن يفعل شيئا سوى التسبب بالتعاسة لمن هم حولي".

   

"دومينيك داوز" لاعبة جمباز أميركية حازت الميدالية الذهبية (رويترز)

    

لماذا قد يمر الرياضيون النخبة بأوقات عصيبة من هذا النوع؟ لم يسبق أن أثبت بحث أكاديمي الأمر، لكنني أعتقد بشدة أن الذاكرة حول القدرة الاستثنائية، لئن كانت مصدر إحساسنا بقيمة أنفسنا، قد تكون تعمل كنقيض مؤذٍ لدى البعض، في حياة لاحقة، هي أقل تميزا. قال أليكس دياز ريبيرو، سائق الفورمولا وان السابق، ذات مرة: "أتعس الناس شخص يركن إلى النجاح لكي يكون سعيدا، بالنسبة إلى هذا النوع من الأشخاص، فإن نهاية حياة مهنية ناجحة هي ذاتها نهاية السطر. إما أن يصرعه البؤس وإما أن يبحث عن المزيد من النجاح في مهن أخرى ويواصل العيش من نجاح إلى آخر إلى أن يسقط مغشيا. في هذه الحالة، لا تعود هناك حياة بعد النجاح".

    

الخشية من السقوط

لنسمّه مبدأ "الجذب النفسي المهني": الفكرة القائلة إن حزن الاندثار المهني يرتبط على نحو مباشر بارتفاع المكانة المهنية التي حققها المرء سابقا، وبتعلّق المرء العاطفي بتلك المكانة. المشكلات المرتبطة بتحقيق النجاح المهني قد تبدو من النوع الجيد من المشكلات، حتى إن إثارة هذه القضية قد يجعلنا نبدو أننا مغالون. لكنك إن بلغت قمم الحياة المهنية وكنت تريد بشدة البقاء في القمة، فإنك قد تعاني بقوة عندما لا يكون هناك مفر من السقوط. وهذا حال الرجل على متن الطائرة. ربما سيكون هذا الشخص هو أنت، أيضا. وما لم أتدخل بقوّة، ربما سأكون أنا.

   

يمكن لمبدأ الجذب النفسي المهني أن يساعد في تفسير العديد من الحالات لأشخاص قاموا بأعمال ذات أهمية تاريخية للعالم، لكن الحال انتهى بهم إلى الشعور بالفشل. ولنأخذ على سبيل المثال تشارلز داروين الذي كان يبلغ من العمر 22 عاما فحسب عندما انطلق في "رحلة البيجل" التي امتدت لخمس سنوات في عام 1831. عندما عاد في سن 27 عاما، ذاع صيته في كل أرجاء أوروبا بفضل مكتشفاته في علم النبات وعلم الحيوان، ونظرياته الأولى عن التطور. على مدار الثلاثين عاما التالية، نال داروين من الفخر الشيء الكثير وهو يتربع على رأس ترتيب مشاهير العلماء، يطور نظرياته وينشرها في الكتب والمقالات، وأشهرها "أصل الأنواع"، الصادر عام 1859.

   

لكن ما إن دخل داروين خمسينيّاته حتى أصابه الركود، فقد واجهت أبحاثه العقبات. في هذا الوقت كان راهب نمساوي يُدعى غريغور مندل قد اكتشف ما الذي يحتاج إليه داروين لمواصلة عمله: نظرية الجينات الوراثية. لسوء الحظ، كان عمل مندل قد نُشر في مجلة أكاديمية مغمورة دون أن يتمكّن داروين من رؤيته، وعلى كل حال، كان داروين يفتقر للقدرة الرياضياتية لفهمه. وإن كان قد أحرز تقدما بسيطا فيما بعد. مكتئبا في آخر عمره، كتب إلى صديقه: "إنني لا أمتلك الشغف ولا الفتوة في سني هذا لأستهلّ أي تحقيق يصمد لسنوات، وهو مصدر متعتي الوحيد".

     

تشارلز داروين (مواقع التواصل)
تشارلز داروين (مواقع التواصل)

   

سأفترض أن داروين كان ليدهش مسرورا لو علم مقدار الشهرة التي حققها بعد موته، في 1882. لكن مما رآه في آخر سنوات حياته، فإن العالم لم يأبه به، وكان قد أصبح غير ذي أهمية. كان من الممكن للشخص الذي جلس خلفي على متن الطائرة أن يكون داروين في تلك الليلة. ولربما كان ليكون نسخة أصغر سنا مني، لأنني اختبرت التراجع المهني في وقت مبكر.

   

في طفولتي، كان لديّ هدف واحد فحسب: أن أكون أعظم عازفة على آلة القرن الفرنسي الموسيقية. وعملت على الأمر بلا كلل، أتدرب لساعات يوميا، أبحث عن أفضل المعلمين، وأعزف في أي فرقة شئت. التقطت الصور مع أشهر عازفي القرن الفرنسي وعلقتها على حائط غرفتي للحصول على الإلهام. ولمدة من الزمن، كنت أظن أن حلمي قد يتحقق. في سنة التاسعة عشرة، تركت الجامعة للعمل كعازفة محترفة في إحدى فرق الصالونات الموسيقية الجوالة. وكانت خطتي هي مواصلة الصعود إلى أعلى درجات الموسيقى الكلاسيكية، والانضمام إلى فرقة أوركسترا مرموقة خلال بضع سنوات أو ربما حتى أصبح عازفة منفردة، وهي أرقى مهنة في عالم الموسيقى الكلاسيكية.

   

لكن لاحقا، في أوائل عشرينيّاتي، حدث أمر غريب: بدأ أدائي يسوء. وليست لديّ أي فكرة عن السبب، حتى هذا اليوم. بدأ أسلوبي يعاني، ولم أكن أملك التفسير اللازم للأمر، ولم يساعدني أي شيء. لجأت إلى أفضل المعلمين وتدربت لوقت أطول، لكنني ضللت طريق العودة إلى البداية. باتت المعزوفات التي كانت سهلة فيما مضى مستحيلة. لربما كانت أسوأ لحظة في سنوات شبابي، لكن دماري المهني كان في سن الثانية والعشرين، عندما كنت أعزف في "كارنيجي هول". في أثناء إلقاء خطاب قصير عن الموسيقى التي كنت على وشك أن أعزفها، تقدمت، وتعثرت قدمي، ثم سقطت عن المسرح إلى أحضان الجمهور. في طريقي إلى البيت رجوعا من الحفلة، تهكمت بسوداوية وقلت إن التجربة ولا شك رسالة إلهية.

  

لكنني واصلت الأداء السيئ لتسع سنوات إضافية. عُيّنت في فرقة "أوركسترا مدينة برشلونة"، حيث ضاعفت تدريبي، لكن أدائي تقهقر تدريجيا. في نهاية المطاف وجدت وظيفة في تعليم الموسيقى في معهد موسيقي في ولاية فلوريدا، آملة بمنعطف سحري لم يتحقق. في خضم إدراكي بأن عليّ ربما رفع الرايات البيضاء، عدت إلى الجامعة للتعلم عن بُعد، وحصدت شهادة البكالوريوس قبل عيد ميلادي الثلاثين بقليل. ثم تابعت دراساتي سرا بدوام ليلي، لكي أحصد شهادة الدراسات العليا في الاقتصاد بعدها بسنة. وأخيرا تعين عليّ الاعتراف بهزيمتي: إنني لم أكن لأتمكّن أبدا من استعادة سيرتي المهنية في الموسيقى. وحين بلغت سن الحادية والثلاثين توقفت عن المحاولة، وتخليت عن تطلعاتي الموسيقية بالكامل، لكي أباشر العمل لنيل شهادة الدكتوراة في السياسة العامة.

    

الحياة تستمر، أليس كذلك؟ نوعا ما. بعد إنهاء دراساتي، عُيّنت أستاذة جامعية، وهي مهنة استمتعت بها. لكنني كنت لا أزال أفكر بشكل يومي بمهنتي الأولى العزيزة. حتى هذا اليوم، لا أزال أحلم بشكل منتظم بأنني على المسرح، ثم أستفيق لأتذكر أن تطلعاتي في سن الطفولة هي الآن أوهام محضة. أنا محظوظة لأنني تقبّلت تراجعي المهني عند سن يافع بما يكفي لتغيير مسار حياتي باتجاه خط جديد من العمل. لكن، حتى هذا اليوم، لا تزال لسعة بواكير ذلك التراجع تجعل من الصعب كتابة هذه الكلمات. وعاهدت نفسي ألّا يحدث ذلك مرة أخرى.

     

البيانات توضح بشكل صادم أنه بالنسبة لمعظم الناس، وفي معظم الحقول المهنية، يبدأ التراجع المهني في وقت أبكر مما يعتقد أي شخص تقريبا
البيانات توضح بشكل صادم أنه بالنسبة لمعظم الناس، وفي معظم الحقول المهنية، يبدأ التراجع المهني في وقت أبكر مما يعتقد أي شخص تقريبا
   

هل سيحدث مرة أخرى؟ في بعض المهن، ليس هناك مفر من حدوث تراجع مبكر. لا أحد يتوقع من الرياضي الأوليمبي أن يظل على قدر المنافسة حتى سن الستين. لكن في العديد من المهن التي لا تطلب الحركة الجسدية، نحن نرفض ضمنيا حتمية التراجع قبل أن نكون قد تقدمنا كثيرا في السن. مما لا شك فيه أن عضلاتنا الرباعية وأوتار الركبة ستضعف بعض الشيء فيما نحن نتقدم في العمر. لكن طالما أننا نحتفظ بعقولنا، فإن جودة عملنا كمؤلفين، ومحامين وتنفيذيين أو حتى رواد مشاريع، ينبغي أن تظل في أوجها حتى النهاية، أليس كذلك؟ الكثير من الناس يعتقدون ذلك. لقد قابلت مؤخرا رجلا أكبر بالسن مني بقليل أخبرني أنه خطط "لدفع العربة حتى تخرج العجلات من مكانها". وبالتالي، خطط للبقاء في قمة وظيفته بأي وسيلة كانت، ومن ثم السقوط أرضا.

   

لكن من المحتمل أنه لن يتمكّن من فعل ذلك. إن البيانات توضح بشكل صادم أنه بالنسبة لمعظم الناس، وفي معظم الحقول المهنية، يبدأ التراجع المهني في وقت أبكر مما يعتقد أي شخص تقريبا. وفق بحث أجراه دين كيث سيمونتون، أستاذ شرفي في علم النفس بجامعة كاليفورنيا دافيس وواحد من رواد الخبراء العالميين في مسارات الوظائف الإبداعية، فإن النجاح والإنتاجية يتصاعدان في السنوات العشرين الأولى من بداية المسيرة المهنية، في المتوسط. لذا فإن بدأت مسيرتك المهنية بجد في سن الثلاثين، توقع أن تصل الذروة بحلول سن الخمسين ومن ثم السقوط في التراجع بعد ذلك بقليل.

   

يتفاوت التوقيت المحدد للذروة والتراجع من شخص لآخر بحسب الحقل الوظيفي. لقد قضى بينجامين جونز، أستاذ الإستراتيجيات وريادة الأعمال في كلية كيلوغ للإدارة التابعة لجامعة نورثويسترن، سنوات في دراسة الوقت الذي يمكن لمعظم الناس عنده أن يقوموا باكتشافات علمية تحصد الجوائز ويطوروا اختراعات ذات أهمية. ويمكن اختصار نتائجه بهذه الأبيات القصيرة:

   

العمر، لعمري، برد وحمى

لا بد أن تورث الفيزيائيين خوفا.

حري بهم الموت إن هم

اجتازوا في مشوار العمر ثلاثين خطوة

 

تريد معرفة كاتب هذه السطور الكئيبة؟ إنه بول ديراك، الفائز بجائزة نوبل للفيزياء سنة 1933.

     

احتمالية إنتاج ابتكار ضخم في سن السبعين هي أقرب لاحتماليتها في سن العشرين، أي إنها معدومة تقريبا.
احتمالية إنتاج ابتكار ضخم في سن السبعين هي أقرب لاحتماليتها في سن العشرين، أي إنها معدومة تقريبا.
   

بالطبع ديراك يبالغ، لكنها مبالغة صغيرة. بالنظر إلى المخترعين العظام والفائزين بجائزة نوبل قبل أكثر من قرن من الزمن، كان جونز قد وجد أن السن الأكثر شيوعا لإنتاج أعظم الإبداعات هو في أواخر الثلاثينيات. وقد أفاد بأن إمكانية حدوث اكتشافات ضخمة تتزايد بثبات في عشرينيات وثلاثينيات المرء، إلا أنها تتراجع في أربعينيّاته وخمسينيّاته وستينيّاته. هل هناك شواذ عن القاعدة؟ بالطبع، لكن احتمالية إنتاج ابتكار ضخم في سن السبعين هي أقرب لاحتماليتها في سن العشرين، أي إنها معدومة تقريبا.

   

الكثير من الإنجازات الأدبية يأخذ مسارا مشابها. وأظهر سيمونتون بأن ذروة الشعراء تكون في أربعينيّاتهم، في حين يأخذ كُتّاب الرواية زمنا أطول بقليل. عندما قام مارتين هيل أورتيز، الشاعر والروائي، بجمع البيانات حول أفضل مبيعات الأدب لدى نيويورك تايمز من 1960 حتى 2015، وجد أن المؤلفين كانوا يصلون المرتبة الأولى في أربعينيّاتهم وخمسينيّاتهم. بغض النظر عن الأعمال الشهيرة لعدد قليل من الروائيين الذين كانوا في سن أكبر، يُظهِر أورتيز وجود انحدار هائل في فرصة كتابة عمل يحقق أفضل المبيعات في سن السبعين. (بعض مؤلفي الكتب غير الروائية، لا سيما المؤرخين، يصلون الذروة في وقت أبعد، كما سنرى في غضون دقيقة).

   

يختبر رواد المشاريع الذروة والتراجع في وقت أبكر، في المتوسط. بعد حصد الشهرة والثروة في عشرينيّاتهم، يمر العديد من رواد المشاريع في مجال التقنية بتراجع إبداعي بحلول سن الثلاثين. في عام 2014، أوردت صحيفة "هارفارد بزنس ريفيو" أن مؤسسي المشاريع الذين بلغت قيمة أعمالهم مليار دولار أميركي أو أكثر من قِبل أصحاب رأس المال المغامر تزدهر أعمالهم على مدى نطاق عمري يقع ما بين سن العشرين حتى سن الرابعة والثلاثين.

     

أظهر بحث لاحق أن الازدهار قد يحدث في فترة أبعد بقليل، لكن كل الدراسات في هذا الصدد وجدت أن غالبية الشركات الناشئة التي لاقت نجاحا كان لديها مؤسسون دون سن الخمسين. هذا البحث يهتم بأولئك الذين يتقلدون مناصب رفيعة في مهن غير تقليدية. لكن النتائج الأساسية يبدو أنها تنطبق على المقياس الأوسع. فقد درس الباحثون في مركز جامعة بوسطن لأبحاث التقاعد تشكيلة من الوظائف ووجدوا قابلية لا يستهان بها للتراجع المرتبط بالعمر في حقول وظيفية من سلك الشرطة إلى التمريض. بالمجمل، إن كانت مهنتك تتطلب سرعة عالية في المعالجة الذهنية أو قدرات تحليلية ضخمة، كتلك المهن التي يشغلها معظم الخريجين الجامعيين، فإن التراجع الكبير سيبدأ على الأرجح في سن أبكر مما تتوقع.. آسفة.

 

إن كان التراجع ليس حتميا فحسب، وإنما يحدث لمعظمنا في وقت أبكر مما نتوقع، ماذا يتعين علينا أن نفعل عندما يحين أوانه؟ هناك أقسام بكاملها في متاجر بيع الكتب مكرسة لتعليمنا كيف نصبح ناجحين. الرفوف مغرقة بعناوين من قبيل "علم الثراء" و"سبع عادات يتبعها الأشخاص المتفوقون"، وليس هناك قسم بعنوان "كيف تتعامل مع تراجعك المهني". لكن بعض الناس تمكّنوا من إدارة تراجعهم المهني على نحو جيد. ولنأخذ حالة جوهان سباستيان باخ. عُرف باخ المولود عام 1685، وأبرز الموسيقيين في وسط ألمانيا، أنه عبقري موسيقي على الفور. على مدار سنواته الخمسة والستين، كان قد نشر ما يزيد على 1000 مؤلف موسيقي لكل الأدوات الموسيقية المتاحة في عصره.

     

جوهان سباستيان باخ (مواقع التواصل)
جوهان سباستيان باخ (مواقع التواصل)

   

في بواكير مسيرته، كان باخ يُعتبر عازف أرغن ومؤلفا موهوبا. توالت المهام: فطلبه البلاط الألماني، وحاول المؤلفون الشباب محاكاة أسلوبه. لقد تمتع بمكانة مرموقة. لكن الأمر لم يدم، ويرجع هذا في جزء صغير منه إلى ظهور اتجاهات موسيقية جديدة، أطلقها، من بين آخرين، ابنه، كارل فيليب إيمانويل، الذي يُعرف باسم C.P.E. والأجيال اللاحقة. لقد برهن الابن الخامس من أبناء باخ العشرين عن موهبة موسيقية كتلك التي لدى والده. فأتقن النسق الباروكي، لكنه كان مأخوذا أكثر بأسلوب "كلاسيكي" جديد للموسيقى، هيمن على أوروبا فجأة. حلّت الموسيقى الكلاسيكية محل الباروكية، لاح مجد كارل إيمانويل، في الوقت الذي أصبحت موسيقى والده من الماضي.

  

لم يكن هناك أسهل من أن يُنسى باخ، مثل داروين. لكنه اختار عوض ذلك أن يعيد رسم حياته، فانتقل من الابتكار إلى التعليم، وأمضى حصة لا يستهان بها من سنواته العشرة الأخيرة يكتب "فن الفوغة"، وهو عمل لم يلقَ شعبية أو رواجا في أيامه، لكنه أراد من خلاله أن ينقل تقنيات الموسيقى الباروكية لأبنائه وتلامذته، وبقدر ما سيبدو هذا غريبا في أيامه، لأي أجيال لاحقة تكترث بشأنه، فإنه عاش في سنواته الأخيرة حياة أقل صخبا كمعلّم وكرجل عائلة.

   

ما الفارق بين باخ وداروين؟ كلاهما موهوبان بالفطرة وعُرفا على نطاق واسع في مقتبل العمر، كلاهما حصد المجد الخالد بعد الموت، إلا أنهما اختلفا في الدرب الذي سلكه كلٌّ منهما في الطريق إلى أفول سن اليأس. عندما تراجع داروين كمبدع، مسّه الجزع والاكتئاب، وانتهت حياته في خمول محزن. لكن عندما تراجع باخ، أعاد ابتكار نفسه كأستاذ ممتاز. مات محبوبا، راضيا، ونال الاحترام وإن كان على حساب الكثير من شهرته السابقة.

   

الدرس الذي نتعلمه أنت وأنا، لا سيما بعد سن الخمسين: فلتكن جوهان سباستيان باخ، لا تشارلز داروين. وأنّى لنا ذلك؟ قد نجد الجواب في عمل عالم النفس البريطاني رايموند كاتل، الذي قدم في مطلع أربعينيات القرن الفائت مفاهيم الذكاء المائع والذكاء المتبلور. وعرّف كاتل الذكاء المائع على أنه القدرة على التساؤل المنطقي، والتحليل، وحل المشكلات الجديدة، وهو ما نفكر فيه اليوم على أنه الذكاء الفعال الخام. ويمتلك المبتكرون عادة وفرة في الذكاء المائع، وتكون معدلاته الأعلى في مقتبل العمر، لكنه يبدأ في الانحسار في الثلاثينيات والأربعينيات. ولهذا على سبيل المثال، يتميز رواد مشاريع التقنية في البداية، ولهذا أيضا يواجه الناس مشكلة في الابتكار في مراحل متأخرة من حياتهم.

   

المهن التي تعتمد بصورة رئيسية على الذكاء المائع تنحو للوصول بأصحابها إلى الذروة مبكرا، أما أولئك الذين يستخدمون الذكاء المتبلور فيصلون الذروة في مرحلة لاحقة
المهن التي تعتمد بصورة رئيسية على الذكاء المائع تنحو للوصول بأصحابها إلى الذروة مبكرا، أما أولئك الذين يستخدمون الذكاء المتبلور فيصلون الذروة في مرحلة لاحقة
  

الذكاء المتبلور، على النقيض، هو القدرة على استخدام المعرفة التي حصدها المرء في الماضي. ولنفكر فيه على أنه مكتبة عامرة مع امتلاك فهم الاستفادة منها. إنه جوهر الحكمة. ولأن الذكاء المتبلور يعتمد على حصد مخزون المعرفة، فإنه ينحو للازدياد خلال الأربعينيات، ولا ينحسر حتى سنوات المرء الأخيرة.

  

المهن التي تعتمد بصورة رئيسية على الذكاء المائع تنحو للوصول بأصحابها إلى الذروة مبكرا، أما أولئك الذين يستخدمون الذكاء المتبلور فيصلون الذروة في مرحلة لاحقة. وعلى سبيل المثال، وجد دين كيث سيمونتون بأن الشعراء، الذين يمتازون بسيولة هائلة في الإبداع، ينحون لإنتاج نصف إنتاجهم الإبداعي على مدار حياتهم بحلول سن الأربعين أو نحوه. أما المؤرخون، الذين يعتمدون على مخزون الذكاء المتبلور من المعرفة، لا يصلون هذه المرحلة حتى الستينيات تقريبا. هنا درس عملي يمكننا أن نستخلصه من هذا كله: أيًّا كان مزيج الذكاء الذي يتطلّبه حقلك، بوسعك دائما أن تسعى لإزاحة مسيرتك بعيدا عن الابتكار وتأخذها إلى المزايا التي تستمر، أو حتى تتضاعف، في وقت لاحق من العمر.

   

مثل ماذا؟ كما برهن باخ، فالتعليم قدرة تتآكل في وقت متأخر جدا من العمر، وهو مبدأ يشذ عن القاعدة العامة للتراجع المهني بمضي الزمن. وأظهرت دراسة من "مجلة التعليم العالي" أن أقدم أساتذة الجامعات في التخصصات التي تتطلب قدرا هائلا من مخزون المعرفة الثابتة، في الإنسانيات على وجه التحديد، قد نالوا أكثر التقييمات إيجابية من قِبل الطلاب. ولعل هذا يفسر العمر المديد للمسيرة المهنية لأساتذة الجامعات، والذين يفكر ثلاثة أرباعهم بالتقاعد بعد سن الخامسة والستين، فيما يفكر أكثر من نصفهم بالتقاعد بعد سن السبعين، ونحو خمسة عشر في المئة منهم يفكرون في التقاعد بعد سن الثمانين. (يبلغ المتوسط عند الأساتذة الأميركيين 61 عاما). في أحد الأيام، وخلال عامي الأول كأستاذة، سألت زميلا لي في أواخر ستينيّاته إذا ما كان يفكر في التقاعد على الإطلاق، تندر قائلا إنه سيغادر منصبه أفقيا لا عموديا.

  

لكن العميد كان ليبتسم أسفا لذلك، حيث يتذمّر مديرو الكليات من أن إنتاجية البحث في أوساط هيئات التدريس الدائمة تنحدر بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير من مسيرتهم المهنية. يحظى الأساتذة الأكبر سنا بميزانيات ضخمة كان يمكن توظيفها في تعيين الباحثين الأصغر سنا المتعطشين للقيام بأبحاث مهمّة. لكن ربما كانت هناك فرصة: إن تمكّن أساتذة الكليات الأكبر سنا من إحداث تحول في عملهم بالانتقال من البحث إلى التدريس دون فقدان المكانة المهنية، فإن أعضاء الهيئات التدريسية الأصغر سنا قد يتمكّنون من القيام بأبحاث أكثر.

   

مهما كان سلكنا الوظيفي، فإننا مع التقدم في السن ننحو لمشاركة معرفتنا بطريقة تكون مفيدة
مهما كان سلكنا الوظيفي، فإننا مع التقدم في السن ننحو لمشاركة معرفتنا بطريقة تكون مفيدة
   

إن الأنماط التي تكون على هذه الشاكلة تتطابق مع ما رأيته كرئيسة لمجموعة تفكير تعج بالباحثين من الفئات العمرية كافة. هناك العديد من الاستثناءات، لكن أكثر الأفكار عمقا كانت تأتي في العادة من أبناء الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، أفضل من يفسر ويوفق بين الأفكار المعقدة. في حين أن أفضل المعلمين يكونون في الغالب في منتصف الستينيات، ومعظمهم يدخل سنّه الثمانين. أن يكون الأشخاص الأكبر سنا، بمخزوناتهم من الحكمة، من أكثر المعلمين نجاحا يبدو أمرا مُقدّرا تقريبا. مهما كان سلكنا الوظيفي، فإننا مع التقدم في السن ننحو لمشاركة معرفتنا بطريقة تكون مفيدة.

 

قبل بضع سنين، شاهدت برنامجا كرتونيا لرجل يقول على فراش الموت: "أتمنى لو أنّي اشتريت المزيد من الهراء". لطالما أدهشني أن الكثير من الأثرياء يواصلون العمل بهدف الاغتناء أكثر، يكدّسون أموالا لا قِبل لهم بصرفها أو حتى توريثها بشكل مفيد. في أحد الأيام سألت صديقا ثريا عن سبب الأمر، وقال لي الكثير ممن اغتنوا يعرفون كيف يقيسون قيمتهم الذاتية فقط ضمن محددات نقدية، لذا فإنهم يظلون في دولاب الهامستر، عاما تلو آخر. إنهم يعتقدون بأنهم عند مرحلة ما سيحصدون منه ما يكفي لكي يكونوا ناجحين وسعداء بحق، وبالتالي يكونون مستعدين لمواجهة الموت. وهذا خطأ لا يخلو من العواقب. يُحذّر معظم الفلاسفة الشرقيين من أن التركيز على الاقتناء يؤدي إلى التعلق والغطرسة، وهو ما يحرف مسار البحث عن السعادة بالتعتيم على جوهر المرء الطبيعي. مع تقدمنا في السن، لا ينبغي لنا اقتناء المزيد، وإنما أنّ نتخلى عن الأشياء لكي نجد ذواتنا الحقيقية، وبالتالي، أن ننعم بالسلام.

 

عند مرحلة، فإن تأليف كتاب واحد إضافي لن يضفي المزيد من الرضا على حياتي، وإنما سيؤجل نهاية مسيرتي في تأليف الكتب لبعض الوقت. قماشة حياتي ستكون عليها لطخة فرشاة إضافية، لكي أكون صريحة، بالكاد سيلحظها الناس، وبالتأكيد أنها لن تلقى تقديرهم إلى ذلك الحد. وهذا سينطبق على العديد من علامات نجاحي. ما يتعين عليّ فعله، بالنتيجة، هو التوقف عن رؤية حياتي كقماشة عليّ أن أملأها، والبدء برؤيتها كلوح من الرخام الذي يحتاج إلى القصّ والتشكيل. إنني أحتاج إلى قائمة من الأشياء الأخرى للقيام بها قبل الموت، إنَّ هدفي في كل سنة ينبغي أن يكون التخفف من الأشياء، والالتزامات، والعلاقات، حتى أتمكّن في النهاية من رؤية ذاتي بأبهى صورة. وهذه الذات.. من هي على وجه التحديد؟

 

في العام الماضي، أخذتني الإجابة عن هذا السؤال إلى الريف الهندي الجنوبي، إلى بلدة تُدعى بلكد، قرب الحدود ما بين ولايتَيْ كيرالا وتاميل نادو. كنت هناك لكي أقابل الجورو سري نوتشر فينكاتا رامان، الذي يُعرف أيضا باسم أشاريا (المعلّم) لدى تلامذته. وأشاريا هذا رجل هادئ، متواضع كرس نفسه لمساعدة الناس في اكتساب التنوير، ليس لديه أي اهتمام بخبراء التقنية الغربيين وبحثهم عن أفكار جديدة للشركات الناشئة أو المجهدين الذين يحاولون الفرار من التقاليد الدينية التي كبروا في ظلالها. وبما أنني لم أكن أيًّا من الاثنين، فقد وافق على الحديث معي. قصصت عليه مشكلتي: الكثير من أصحاب الإنجازات يعانون مع التقدم في العمر، لأنهم خسروا قدراتهم، التي اكتسبوها على مدار سنوات عديدة من الكد والجد. هل من مهرب من هذه المعاناة؟

    

إنَّ فضائل النعي هي ما تحتاج إلى أن يتكلم عنه الناس في جنازتك، كما عندما يقال إنه كان ودودا وروحيا بعمق، لا إنه كان نائب رئيس مرموقا في سن يافع جدا
إنَّ فضائل النعي هي ما تحتاج إلى أن يتكلم عنه الناس في جنازتك، كما عندما يقال إنه كان ودودا وروحيا بعمق، لا إنه كان نائب رئيس مرموقا في سن يافع جدا
    

أجاب أشاريا باستفاضة، يشرح تعليما هنديا قديما عن مراحل الحياة، أو الأشارمات. والأول هو براهماشاريا، مرحلة الشباب والنضج المكرسة للتعلم. والثاني هو غريهاشتا، عندما يبني المرء سيرته المهنية، يحصد الثروة، ويؤسس عائلة. في هذه المرحلة الثانية، يرى الفلاسفة أكثر الفخاخ شيوعا: يتعلق الناس بالجوائز الأرضية، كالمال، والنفوذ، والجنس والمكانة، ويحاولون بالتالي بسط هذه المرحلة مدى العمر. والترياق لهذه المغريات الدنيوية هي فانابراشتا، الأشارما الثالثة، والتي تأتي من كلمتين بالسنسكريتيّة تعنيان "التقاعد" و"إلى الغابة". هذه المرحلة، التي عادة ما تبدأ عند سن الخمسين، والتي نركز فيها بصورة أقل وبشكل هادف على الطموح المهني، ونصبح أكثر تكريسا للروحانيات، والتعبد، والحكمة.

 

هذا لا يعني أن عليك التوقف عن العمل ما إن تصل إلى سن الخمسين، وهو أمر يطيقه قلة من الناس، ولكن أن الأهداف الحياتية يجب أن تتغير. فانابراشتا هي وقت التدارس والتدرب لأجل المرحلة الأخيرة من حياتك، وهي سانياسا، التي ينبغي أن تكون مكرسة لقطف ثمار التنوير. في الأزمان الغابرة، كان بعض الرجال الهنديين يغادرون عائلاتهم وهم كبار السن، يتخذون العهود المقدسة، ويمضون بقية حياتهم عند أقدام أساتذتهم، يصلّون ويتدارسون.

 

حتى وإن لم يكن الجلوس في كهف في سن الخامسة والسبعين هو طموحك، ينبغي أن تظل الفكرة واضحة كالشمس، إن علينا مقاومة بهرج النجاح التقليدي للتركيز على أشياء سامية أهم. أخبرتُ أشاريا حكاية الرجل على متن الطائرة. ألقى السمع بحرص، وفكر لدقيقة، ثم أخبرني: "لقد فشل في مبارحة الجريهاشتا، لقد كان مدمنا على جوائز هذا العالم". وفسر لي أن إحساس الرجل بقيمته ربما ما زالت تغذّيه ذكريات النجاحات المهنية التي حظي بها قبل بضع سنوات، إن تقديره الحالي إنما نابع من مهارات عفا عليها الزمن. إنَّ أي مجدٍ اليوم هو مجرد ظل لأمجاد الزمان الغابر. وفي أثناء هذا، فاته كليا التطور الروحي للفانابراشتا، وتفوته الآن نعماء السانياسا.

 

هناك عبرة في هذا لكل أولئك الذين يعانون من مبدأ الجذب النفسي المهني. لنقل أنك محامٍ أو تنفيذي أو رائد مشاريع مجدٌّ من الصف الأول، أو رئيس لمجمع تفكير. منذ أوائل العشرينيات حتى منتصف العمر ومجدك المهني يتسارع، تعيش بقوانينك، بذكائك المائع، وتسعى للجوائز المادية التي يجلبها النجاح، تحصد الكثير منها، وترتبط بها ارتباطا وثيقا. لكن حكمة الفلسفة الهندية، ومما لا شك فيه أنها حكمة العديد من تقاليد الفلسفة، تفيد بأن عليك الابتعاد عن تلك الجوائز قبل أن تشعر بأنك مستعد لهذا. حتى وإن كنت على رأس مجدك المهني، فسيكون عليك على الأرجح أن تُضائل طموحاتك المهنية، لكي تبسط نجاحاتك الروحية.

  undefined

 

عندما يتحدّث دافيد بروكس كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز عن الفارق بين "فضائل السعي" و"فضائل النعي"، فإنه وبشكل فعال يضع الأشرمات في سياق عملي. فضائل السعي مهنية وتخص النجاحات الدنيوية، إنها تتطلب المقارنة بالآخرين. أما فضائل النعي أخلاقية وروحية، ولا تستدعي المقارنة. إنَّ فضائل النعي هي ما تحتاج إلى أن يتكلم عنه الناس في جنازتك، كما عندما يقال إنه كان ودودا وروحيا بعمق، لا إنه كان نائب رئيس مرموقا في سن يافع جدا وحظي بالكثير من أميال الطائرات. أنت لن تكون موجودا لكي تسمع كلام النعي، لكن الفكرة التي يحاول بروكس إثباتها أننا نعيش حياة أكثر إرضاء، لا سيما عندما نصل منتصف العمر، عبر السعي لفضائل تحمل معاني أكبر بالنسبة لنا.

 

وأشك بأن ذعري الشخصي من التراجع المهني يتأصل في خوفي من الموت، وهو خوف، حتى إن لم يكن واعيا، فإنه يدفعني لكي أتصرف كما لو أن الموت لن يحل أبدا عبر إنكار أي تراجع في فضائل السعي الخاصة بي. وهذا الإنكار تدميريّ، لأنه يقودني لتجاهل فضائل النعي التي تجلب عليّ السعادة الأعظم. كيف أتخطى هذا النزوع؟ ينصح بوذا، من بين كل الأشياء، بالقيام بتأمل الجثة: الكثير من معابد بوذيي الثيرافادا في تايلاند وسريلانكا تعرض صورا لجثث في حالات متنوعة من التعفن لكي يتأملها الرهبان. "وهذا الجسد أيضا"، يتم تعليم الطلاب لكي يقولوا عن أجسادهم: "هذه هي طبيعته، هذا مآله، هذا هو قدره المحتوم". في البداية يبدو الأمر مَرَضِيّا، لكن المنطق الذي يقوم عليه متأصل في مبادئ سيكولوجية، وهو ليس فكرة شرقية صِرفة. كتب ميشيل دي مونتين في القرن السادس عشر: "أن نبدأ بحرمان الموت من أعظم أفضلية يمتلكها علينا، لنحرم الموت عظمته، فلنطبّعه، فلنألفه، دعونا لا نترك شاغرا لفكرة في عقولنا أكبر من الموت".

 

يسمّي علماء النفس هذا الأمر بـ "نزع التحسس"، الذي يحدث إثر التعرض المتكرر لشيء منفّر أو مخيف بحيث يصير أمرا عاديا، منثورا، وغير مخيف. والأمر ينجح في حالة الموت. في عام 2017، قام لفيف من العلماء من عدد من الجامعات الأميركية بتجنيد المتطوعين لكي يتخيلوا بأنهم أصيبوا بمرض مزمن أو أنهم على طريق الموت، ومن ثمَّ أن يكتبوا مدونات شخصية إما حول مشاعرهم المتخيلة وإما كلماتهم الأخيرة التي ستكون. وقارن الباحثون لاحقا هذه الكتابات بكتابات وكلمات أخيرة اختطها أشخاص تخطفهم الموت بالفعل أو أنهم يواجهون عقوبة الإعدام. كانت النتائج، التي نُشرت في "علوم علم النفس"، صاعقة: لقد كانت كلمات أولئك الذين كانوا بالكاد يتخيّلون موتهم الوشيك سلبية أكثر بثلاث مرات عن أولئك الذين كانوا يواجهون الموت بالفعل، وهو ما يعني، على عكس ما قد يتوقعه المرء، إن الموت أكثر إخافة عندما يكون نظريا وبعيدا عما هو عليه عندما يكون واقعا ملموسا وشيكا.

    

إن أكبر خطأ يرتكبه الأشخاص الناجحون هو محاولة الحفاظ على إنجاز ذروة إلى أجل غير مسمى
إن أكبر خطأ يرتكبه الأشخاص الناجحون هو محاولة الحفاظ على إنجاز ذروة إلى أجل غير مسمى
  

بالنسبة لغالبية الناس، فإن التأمل النشط في هلاكنا بحيث يكون حاضرا وحقيقيا (عوض تجنب فكرته في السعي الأهوج وراء النجاح الدنيوي) يمكن أن يجعل الموت أقل إخافة، إن اعتناق الموت يذكرنا بأن كل شيء عابر، ويمكن أن يجعل كل يوم من حياتنا أكبر قيمة. كتب إي. إم فورستر ذات مرة: "الموت يهلك الإنسان، لكن فكرة الموت تنقذه". لا مفر من التراجع، كما أنه يحصل في وقت أبكر مما يريد معظمنا أن يصدق. لكن لا مفر من التعاسة. إن تقبل طبيعة إيقاع قدراتنا يؤسس لإمكانية التسامي، لأنه يسمح لنا بنقل الانتباه إلى أولويات أعلى للحياة والروحانيات. لكنّ تحولا من هذا النوع يتطلّب أكثر من مجرد الابتذال. لقد شرعت في بحثي العلمي بهدف الوصول إلى خريطة طريق ملموسة لكي ترشدني خلال السنوات الباقية من حياتي، ونجم عن هذا أربعة التزامات محددة.

   

اقفز

إن أكبر خطأ يرتكبه الأشخاص الناجحون هو محاولة الحفاظ على إنجاز ذروة إلى أجل غير مسمى، في محاولة للاستفادة من نوع الذكاء المائع الذي يبدأ في التلاشي نسبيا في وقت مبكر من العمر. وهذا محال. إن السر للاستمتاع بالإنجازات هو اعتبارها راهنا، والمضي بعيدا ربما قبل أن أكون مستعدا بالشكل التام، لكن وفق رغبتي الخاصة. وعليه: فقد قدمت استقالتي من رئاسة "معهد المبادرة الأميركية"، وهو قرار سيكون ساري المفعول في الوقت الذي ستُنشر فيه هذه المقالة. كعديد المناصب التنفيذية، يعتمد هذا المنصب كثيرا على الذكاء المائع. وأنا أيضا أريد التحرر من المسؤوليات المرهقة لهذه الوظيفة، أن يكون لدي الوقت للمشاغل الروحانية. في الحقيقة، أن هذا القرار لم يكن يتعلق بصورة كليّة بي. أنا أحب مؤسستي ورأيت الكثيرين الآخرين يحبونها يعانون عندما كان رئيس تنفيذي يمكث في المنصب مطولا.

  

أن تترك شيئا تحبه قد يخلف فيك شعورا بالموت الجزئي. في البوذية التبتيّة، هناك مفهوم يسمى "باردو"، وهي حالة المكوث بين الموت والولادة من جديد، "كلحظة عندما تخطو نحو حافة جرف"، كما يضعه معلم بوذي شهير. إنني أتخلى عن الحياة المهنية التي تجيب عن سؤال "من أكون". إنني محظوظة جدا لأنني أمتلك الوسائل والفرصة لكي أكون قادرة على التخلي عن وظيفة، وهو ما لا يحظى به الكثيرون. لكن ليس عليك بالضرورة أن تترك عملك، إن الأهم هو السعي لكي تفصل نفسك بجد عن أعظم الجوائز الدنيوية وضوحا، كالسلطة، والشهرة والمكانة والمال، حتى وإن واصلت العمل أو تقدمت في عملك. إن الخدعة الفعلية هي في أن تمشي صوب المرحلة التالية من الحياة، فانابراشتا، أن تؤدي الدراسة والتدريب المطلوبين اللذين يُمكّناننا من تحقيق الإنجاز في مرحلة الحياة الأخيرة.

   

تذكّروا أن الأشخاص الذين ينصب عملهم على التعليم أو الإرشاد، وهي تعابير فضفاضة، يصلون الذروة في وقت متأخر من حياتهم
تذكّروا أن الأشخاص الذين ينصب عملهم على التعليم أو الإرشاد، وهي تعابير فضفاضة، يصلون الذروة في وقت متأخر من حياتهم
   
اخدم 

الوقت ضيق، والطموح المهني يزيح الأشياء ذات الأهمية الأكبر. الانتقال من فضائل السعي إلى فضائل النعي يعني الانتقال من الأنشطة التي ترتكز حول الذات إلى الأنشطة التي ترتكز حول الآخرين. وهذا ليس سهلا بالنسبة لي، فأنا بحكم الطبيعة شخص يتمركز حول ذاته. لكن عليّ مواجهة حقيقة أن آثار تغذية الأنانية تدميرية، وأنا الآن أعمل في كل يوم لكي أحارب هذا النزوع.

  

لحسن الحظ، فجهد خدمة الآخرين يمكن أن يكون ميزة لنا مع التقدم في السن. تذكّروا أن الأشخاص الذين ينصب عملهم على التعليم أو الإرشاد، وهي تعابير فضفاضة، يصلون الذروة في وقت متأخر من حياتهم. وبالتالي فإنني أنتقل إلى طور من مسيرتي يمكنني فيه أن أكرس نفسي كليا لمشاركة الأفكار في خدمة الآخرين، بصورة رئيسية عبر التعليم في الجامعة. وكلي أمل بأن تكون أكثر سنواتي إفادة هي تلك القادمة منها.

  

اعبد 

لأنني تكلمت كثيرا عن الأديان المختلفة والتقاليد الروحية، وركزت على مضار الاتكال على النجاح المهني، قد يعتقد القراء بحكم البديهة أنني أُقيم نوعا من الفصل المانوي بين عالمي العبادة والعمل، وأقترح بأن يكون التركيز على العبادة. هذه ليست نيّتي. إنني أوصي بشدة أن يكتشف كل شخص ذاته أو ذاتها الروحية، وأنا أخطط لتكريس جزء لا بأس به من بقية حياتي في ممارسة معتقدي الخاص، الكاثوليكية الرومانية. لكن هذا لا يتنافى مع العمل، وإنما على العكس، إننا إن فصلنا أنفسنا عن المتعلقات الدنيوية وقمنا بإعادة توجيه جهودنا صوب إغناء وتعليم الآخرين، فإن العمل في ذاته يأخذ منحى ترنسندنتاليا. قال باخ: "إن الهدف والغاية النهائية من كل الموسيقى لا ينبغي أن يكون أكثر من تمجيد الله وإحياء الروح". أيًّا كانت معتقداتك الروحية، فإن إحياء الروح قد يكون الغاية من عملك، مثل عمل باخ. لقد أنهى باخ كل واحدة من مخطوطاته بالكلمات "سولي ديو غلوريا"، أي "المجد لله وحده". لقد فشل، لكنه كتب هذه الكلمات على مخطوطته الأخيرة "طباق 14″، من "فن الفوغة" الذي يتوقف فجأة عند المنتصف. أضاف نجله C.P.E الكلمات التالية إلى السجل "عند هذه النقطة … توفي المؤلف". لقد امتزجت حياة باخ وأعماله بصلواته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهذا هو طموحي.

    undefined

   

تواصل 

خلال هذا المقال، ركزت على تأثير انحسار براعة عملي على سعادتي. لكن وفرة من البحوث تشير بقوة إلى أن السعادة، لا فقط في السنوات اللاحقة ولكن على امتداد العمر، مرتبطة مباشرة بوفرة العلاقات الصحية التي يؤسسها الفرد. إن دفع العمل خارج خانة التفوق، كلما كان أسرع كان أفضل، لإفساح المجال لعلاقات أعمق يمكن أن تكون بمنزلة حصن ضد آثار التراجع المهني. إن تخصيص مزيد من الوقت للعلاقات، وقلة العمل، لا يتعارض مع الإنجاز المستمر. يقول كتاب المزامير عن الشخص الصالح: "مثله كمثل شجرة نبتت قرب ينابيع ماء، تطرح ثمارها في الموسم، لا تذبل أوراقها، والازدهار كل ما يشغلها". فكر في شجرة الحور الرجراج. أن تعيش حياة من الإنجاز الاستثنائي، مثل الشجرة، أن تنمو بمفردك، وتصل إلى المرتفعات المهيبة وحدك، وتموت وحدك. أليس كذلك؟

  

نعم، ليس كذلك. شجرة الحور الرجراج هي استعارة ممتازة لشخص ناجح، ولكن ليس، كما يتضح، لجلالتها الانفرادية. فوق الأرض، قد تبدو منفردة. إنما كل شجرة فردية هي جزء من نظام جذور هائل، هي معا نبتة واحدة. في الواقع، يعد الحور الرجراج أحد أكبر الكائنات الحية في العالم؛ يمتد بستان واحد في ولاية يوتا، يُدعى "Pando"، على مساحة 106 فدان ويزن نحو 13 مليون باوند.

   

سر تحملي لتراجعي المهني، حدَّ الاستمتاع به، هو أنني أصبح أكثر وعيا بالجذور التي تربطني بالآخرين. إذا قمت بتطوير روابط الحب بين عائلتي وأصدقائي بشكل صحيح، فإنني سأعوض الكثير مني عبر التفتح في الآخرين. عندما أتحدث عن هذا المشروع البحثي الشخصي الذي كنت أتابعه، يسأل الناس عادة: ماذا حدث للبطل على متن الطائرة؟ أفكر فيه كثيرا. ما زال مشهورا، يظهر في الأخبار من وقت لآخر. في البداية، عندما رأيت قصة عنه، كنت أشعر بوميض من شيء يشبه الشفقة، أدرك الآن أنه في الحقيقة مجرد شعور منكسر بالذعر من مستقبلي الشخصي. الرجل المسكين كان يعني في الواقع أن نهايتي حانت. لكنني مع تعميق فهمي للمبادئ المنصوص عليها في هذا المقال، انخفض خوفي بشكل متناسب. شعوري تجاه الرجل على متن الطائرة هو الآن شعور بالامتنان لما علمني، وآمل أن يتمكّن من العثور على السلام والفرح اللذين يساعدني عن غير قصد في تحقيقهما.

———————————————————————

ترجمة: فرح عصام.

هذا الموضوع مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة