من الصعب تصوّر رائد أعمال لا يقـرأ بالأساس، لأن الأمر كله وقتئذ سيبدو ملفّقا للغاية. رائد أعمال لا تعج مكتبته بكتب رياديـة وإدارية وتأسيسية هو بالضبط مثل رسّام لا يتأمل الطبيعة أو ينظر إلى رسومات الآخرين لاستخلاص المعنى والأفكـار، ومثل عازف لم يسمع في حياته سيمفـونية موسيقية من قبل. القـراءة بالنسبة إلى رائد الأعمال لا تحمل طابع الترفيه بقدر ما تحمل حكم الضـرورة المُطلقة في تشرّب خبرات الآخرين وحكاياتهم ونصائحهم لتأسيس الشركات وإدارتها.

  

ومع ذلك، يمكن تفهّم حالة رائد الأعمال الذي لا يهتم سوى بالقراءة في مجال ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة، متجاهلا الولوج إلى عالم الروايات ربما لضيق الوقت أو ربما لاعتباره أنها لا تقدم له الإفادة المطلوبة في مشواره الريادي. بالطبع هذا التصوّر خاطئ تماما، وسببه أن يده لم تلتقط الرواية الصحيحة من رفّ المكتبة.

  

في هذا التقرير نستعرض مجموعة من الروايات التي من المهم أن يقرأها رائد الأعمال أثناء مشواره الريادي. الروايات ظاهريا لا تتحدث عن عالم المال والأعمال، ولكنها تسلط الضوء على معانٍ شديدة الأهمية بالنسبة إلى رائد الأعمال تحديدا، سواء في بداية مشواره أو منتصفه أو نهايته. روايات تحمل بين دفّتيها المتعة القصصية من جهـة والعبــرة المُلهمة من جهــة أخرى.

    

   

من المهم أن تحتل رواية "غاتسبي العظيم" (The Great Gatsby) مكانها في مكتبة كل رائد أعمال مبتدئ أو مخضــرم. الرواية التي كتبها المؤلف الأميـركي العظيم سكوت فيتزجيرالد والتي نُشرت للمرة الأولى في عام 1925 واعتبرت لاحقا واحدة من أهم الروايات الكلاسيكية في الأدب الأميـركي، وإن لم تحظَ بتلك الشهـرة الكبيـرة عندما نُشرت في العشـرينيات من القرن العشرين.

  

على الرغم من أن الرواية هوجمت بعنف من قِبَل النقاد في حينها، وأن فيتزجيرالد نفسه -مؤلف الرواية- توفي في عام 1940 قبل أن يرى نجاحها، فإنها حققت لاحقا نجاحا طاغيا لدرجة ترجمتها إلى 40 لغة، وتحقيقها ملايين المبيعات، وتحويلها أيضا إلى 5 أفلام أشهرها الفيلم الذي أُنتج في عام 2013 من بطولة الممثل الأميـركي الأشهر ليوناردو ديكابـريو.

  

في بداية العشـرينيات ازدهـرت الحياة الاقتصادية والتجارية بشكل هائل في أميـركا متزامنة مع ازدهار الحياة الموسيقية والغنائية، حتى أصبح تنظيم الحفلات الضخمة طقسا معتادا في تلك الفتـرة في منازل الأثرياء. هنـا يبرز المليونيـر الغامض غاتسبي الذي حقق ثروة طائلــة بعد رحلة كفــاح كبيـرة في حياته أوصلته إلى هذه المكـانة، والذي يستدرج أحد الأشخاص -راوي القصــة- إلى قصــره لحضور حفلاته الصاخبة، فقط لأن هذا الشخص قريب لحبيبته السابقة التي يتمنى أن يعود ليراها مجددا.

   

    

الرواية -مع خيالها وعظمتها الأدبية والسردية- تضرب على وتر شديد التأثير بالنسبة إلى كل رائد أعمال، وهو الحنين إلى الماضي بعد الوصول إلى النجاح والثروة. رائد الأعمال يكون مضطـرا في معظم فترات كفاحه إلى التخلي عن الكثير من الأحلام والأشخاص في مقابل تحقيق حلمه، وعندما يتمكن من الوصول إليه يشعر بالحنين الجارف إلى تلك التفاصيل التي فوّتها آسفا. الأشخاص الذين كان يحلم بقضاء حياته معهم، المواقف التي لم يستثمـرها جيدا في الشعور بالسعادة، انصـرافه عن الحضـور لمناسبات معينة كانت ستترك ذكـرى عظيمة له.

  

"غاتسبي العظيم" رواية تجمع ما بين المال والأعمال من ناحيـة، ومشاعر رجل الأعمال الناجح والواثق من نفسه من ناحية أخرى، والشعور بالحنين إلى الأشخاص الذين ظهـروا في مرحلة ما قبل النجاح والثراء وذهبوا بلا رجعة. بمعنى آخر، هي رواية تسلط الضوء على الجانب الإنسـاني لكل ريادي منغمس في العمل تَذكّـر أخيرا أنه أضاع مراحل عديدة في حياته يتمنى أن يعيدها مرة أخرى. ^{(1، 2)}

  

 

    

رواية "صورة دوريان غراي" (The Picture of Dorian Gray) تعتبـر واحدة من أهم روايات الأدب الكلاسيكي العالمي، صدرت في عام 1891 بواسطة الأديب الأيـرلندي أوسكار وايلد أحد أهم كتّاب الإنجليزية في القـرن التاسع عشر. الرواية نُشرت على شكل أجزاء في مجلة ليبينكوت الشهـرية، وتسببت في صدى هائل في تلك الفتـرة في المجتمع البريطاني، حيث اعتبرها بعض النقاد أيقـونة أدبية لن تتكــرر، بينما اعتبرها نقاد آخـرون بأنها عمل مشين لا يجب أن يستحق كل هذا الاهتمام.

  

دوريان غراي شاب وسيم شديد التواضع قدم من الأرياف إلى لندن بعد أن انتقلت إليه ثــروة هائلة من وفاة أحد أقاربه الذي قضى حياته في طبقة النخبـة البريطانية العتيدة. عندما يصل غراي إلى قصـره، يفاجأ الجميع من مستوى تواضعه وهدوئه وأخلاقياته، مما يجعل ذوي النخبـة يتقدمون إليه لمحاولة "تطويـره" وضمه إلى مجتمع الأضواء البريطاني. يظهـر هنا لورد "هنـري" الذي يتولى مهمة تعليم دوريان جراي مبادئ الحيـاة الراقية، بما فيها الحياة الصاخبة والعابثة. في الوقت نفسه يتكفّـل صديق العائلة الفنان الرسّام بازيل هالوارد برسم بورتـريه عمــلاق مميـز لدوريان غراي يقوم بتعليقــه على حائط ضخم في القصــر.

  

هنا تبدأ شخصية الشاب المتواضع في التغيير التدريجي. نظـرة الخجل في عينيه المتواضعتين تبدأ في الاختفاء ليحل محلها نظـرة جريئة وقحة. سلطة المال وشهــوته تبدأ تتسرّب في روحه لتقتـل الشخصية الهادئة المتواضعة وتحل محلها الشخصية العنيفـة الأنانيــة الشبقة للشهــوات التي يملكها أو التي لا يملكها. يبدأ الجميع في ملاحظـة أفعال الشاب المتطرّفة في العنف والشهــوانية والأنانية، كما يلاحظون أنه لا يكبر أبدا في العمـر وهم الذين يشيخـون طوال الوقت.

  

في النهاية، يبقى السر في "البورتريه" العمـلاق المرسوم له على الجدار، الذي يتضح في النهايـة أنه المعبّر الحقيقي عن شخصيته والذي حوّله إلى هذا الشيطان. يبدو التلاحم هنا واضحا بين القيمة المعنـوية التي يقدمها أوسكار وايلد في روايته، وبين الخيال القريب من الرعب القوطي، الأمر الذي يجعل الرواية تدمج ما بين المتعــة والمعنـى بأقصى ما يكون.

    

   

الرواية التي تعتبـر من أهم ملامح أدب القرن التاسع عشر حُوّلت إلى عدد كبير من الأفلام آخرها فيلم أُنتج في عام 2010، وما زالت حتى الآن تلقى الاحتفاء من النقاد والمؤرخين وتعتبر من الروايات التي تُدرّس معانيها بشكل دائم في الصفوف الدراسية. من المهم أن تكون هذه الرواية في مكتبة رائد الأعمال، خصوصا أولئك الذين استطاعوا الخروج من وحل الفشل والمعاناة إلى آفاق النجاح والشهـرة، ليبدأ نموذج دوريان غراي في التكرار مرة أخرى. هل ستظل شخصيتك الهادئة المتواضعة التي بدأ بها مشوارك الريادي هي نفسها عندما تصل إلى المجد والأضواء والشهـرة والثروة، أم أنك ستتبدل إلى شيطان أناني مغــرور مليء بالشهوات والأنانية بمجرد وصولك إلى ما يسمى عالم "النخبة"؟ ^{(3، 4)}

  

بمجرد ذكـر رواية "الخيميائي" (Alchemist) للأديب البرازيلي باولو كويلـو، يجب أن يتبادر في الذهن فورا جملة "الكنز في الرحلة" التي اشتهرت بها الرواية عالميا. الرواية ظهـرت إلى النور في عام 1988، ومنذ كتابتها استطاعت أن تحقق شهـرة هائلة وتُرجمت إلى أكثر من 80 لغـة حول العالم، وبيع منها أكثر من 200 مليون نسخة مما يجعلها من أكثر الروايات مبيعا في القـرن العشرين، ومن أكثر الروايات مبيعا وكاتبها ما زال على قيد الحيـاة.

  

الراعي الأندلسي "سانتيـاغو" يعتمل بداخله حلم يتمثل بالذهاب إلى مصر واستخراج كنز مدفون قرب الأهرامات. يعد للحلم عدته، ويبدأ رحلته من إسبانيا عابرا لمضيق جبل طارق ومنطلقا من المغـرب في رحلة طويلة إلى مصر. طوال هذه الرحلة يجد سانتـياغو نفسه بصدد عشرات المواقف، بعضها مؤلم وبعضها مبهج، بعضها مرعب وبعضها مريح. طوال رحلته يرصد سانتياغو المعاني في كل شيء حوله.

   

يتعرض للسرقة عدة مرات، يجد نفسه مضطـرا للعمل في متجر، يقابل رجلا إنجليزيا يقضي معه بعض الوقت، يشهد حروبا ضارية بين القبائل، يلتقي بالخيميائي الذي يساعده في البحث عن كنزه، يقع في حب "فاطمة" التي يضطـر إلى فراقها لإكمال رحلته في سبيل استخراج الكنز. عشرات المواقف التي يمرّ بها سانتيـاغو حتى يتمكن من الوصول إلى مصـر، ليكتشف في النهاية أن كنزه الذي كان يبحث عنه هو في النهايـة الرحلة الشاقة المرهقة التي قطعها، والتي جعلته يحصد خبرات كبـرى ويتعرّف على الحياة والكون بكل أشكاله وأنماطه وتناقضـاته. الكنز كان الرحلة ذاتها.

   

الرواية تعتبـر قطعا من أهم الروايات التي يجب أن يقـرأها رائد الأعمال، على الرغم أنها لا تحتوي على أي إسقاطات مالية أو موضوعات تمس عالم الأعمال. من الضـروري جدا أن يتشبع رائد الأعمال بمبدأ أن الكنز في الرحلة، وأن رحلته تجاه النجاح في عالم الأعمال ستكون عامرة بمئات المعاني التي لن يجدها قطعا إذا استمـر في حياة وظيفيـة تقليدية.

  

بمعنى أكثر اختصارا، كل رائد أعمـال يقطع رحلة الخيميائي نفسها للبحث عن كنزه الخاص، وخلال هذه الرحلة سيمرّ بمواقف عصيبة ومبهجة، مواقف مؤلمة تستدعي الفراق، مواقف تجعله يشعر بعدم الثقة بنفسه، مواقف الانتصارات والأفراح العظيمة. في النهاية، وعند الوصول إلى بر الأمان، ستكتشف كرائد أعمال أن الكنز الحقيقي ليس في الثـروة التي كوّنتها أو الشركة الضخمة التي قمت ببنائها وتنميتها، وإنما كان الكنز الحقيقي في الرحلة ذاتها، التفاصيل اليومية التي عشتها في كل لحظـة للوصول إلى هذه المرحلة من حياتك. ⁽⁵⁾

  

  

     

ربما تعد رواية "العجـوز والبحر" (The Old Man and the sea) واحدة من أهم الروايات التحفيزية التي يجب أن يقرأها رائد الأعمال ويتشبع بمعانيها المبدعة. تلك المعاني التي جعلت الرواية تفوز بجائزة البوليتزر الأميـركية للآداب في عام 1953، وساهمت في فوز كاتبها الأديب الأميـركي المخضـرم إرنست همنغــواي بجائزة نوبل للآداب في العام التالي 1954.

  

الصيّاد العجوز سانتيـاغو يداوم البقاء على قاربه في عرض البحر منتظرا أن يصطـاد الأسماك مثله مثل غيره، لكن الحظ يعانده. على مدار ثمانين يوما لم يستطع العجوز أن يصطـاد سمكة واحدة تقع بين شباكه، وهو ما يجعله عرضة للسخرية بين الصيّادين الآخرين الذين يعودون كل يوم في نهاية النهار إلى الشاطئ محمّلين بالأسماك، بينما هو تظـل شباكه فارغة تماما. ومع ذلك يبدو عليه القناعة والصبر والحكمة وعدم الشكـوى.

  

ثم يأتي ذلك اليوم الذي يخرج فيه العجوز فيحالفه الحظ بالإيقاع بسمكة ضخمة تفوق حجم قاربه كله، يعمل الصياد العجوز على استعمال كافة الحيل لصيد السمكة التي تكلّفه عدة أيام متحديا البحر والجوع وتقلبات السمكة نفسها، حتى يتمكن من قهـرها في النهاية. وأخيرا يبدأ في سحبها عبر قاربه للعودة إلى الشاطئ والظفر بها، لولا أن يظهـر له تحدٍّ آخر، وهو أسماك القرش العمـلاقة التي جاءت متعقبة رائحة الدم، ليبدأ العجـوز معركة أخرى في الدفاع عن صيده ضد وحوش البحر الضارية.

  

الرواية التي لا يزيد عدد صفحاتها عن 130 صفحة تحمل في طيّاتها معاني شديدة العمق. الصبر الطويل لانتهاز الفرصة التي جاءت على شكل سمكة عملاقة. الصبر الهائل في الاستحواذ على الفرصة الذي استمر فترة طويلة رغم إرهاق جسد صاحبها. الانتصـار في نيل الفرص، ثم الاضطـرار إلى الدخول في معركة أخرى للدفاع عن مكتسبات هذه الفرصة التي استطاع نيلها من الوحوش الضارية الطامعة في الاستحواذ عليها.

  

من السهل جدا التمثيل لكل عناصر القصة بواقع حياة رائد الأعمال، وهو ما يجعلها من أكثر الروايات المحفّزة والمُلهمة لهم في التركيز على مفهـوم "الصـراع" ليس فقط من باب الاضطـرار، وإنما أيضا من باب الاستمتاع به وبالتحديات التي تأتي من ورائه. ⁽⁶⁾

  

في النهاية، مشوار ريادة الأعمال وتأسيس الشركات الناشئة في حد ذاته يعتبـر رواية. أحيانا تأخذ الرواية طابع التراجيديا، وأحيانا تنحو منحى الملاحم الإغريقية، وأحيانا تقتــرب من الدراما، وفي بعض الأحيان تتخذ شكلا من أشكال الرعب القوطي. المهم بالنسبة إلى رائد الأعمال أن يجتهد في جعل نهاية الرواية نهاية سعيدة، وإن طالت فصولها.