شعار قسم ميدان

إبداع شركتك مرهون بتخليك عن هذه الأساطير

midan - شركة
اضغط للاستماع
   
كمؤسس لشركة ناشئة، ستبدأ في مرحلة من المراحل بالشعور بالرتابة الخادعة. كل شيء يسير على ما يرام، خط الإنتاج يعمل، نحقق أرقاما لا بأس بها. وعندما يبدأ أحدهم بالهمس في أذنيك بكلمة "دفع الابتكـار والتطوّر بالشركة"، غالبا ستشعر بشعـور مقبض من عدم الراحة، كأن هذه الكلمة تحمل مزيجا مزعجا من عدم الاستقرار والخسائر الكبيـرة والمخاطرة غير المحسوبة.

      

السبب في هذا الشعور غير المريح الذي ينتابك عندما سمعت هذه الكلمة هو أن عقلك في الغالب مُعبّـأ بأساطير غير حقيقية حول كلمة الابتكار (Innovation)، ويربطها دائما بأمور "ضخمة" تخص الشركات الكبـرى حول العالم، ولا يمكن ربطها بشركتك الصغيـرة المحدودة الإمكـانيات والأشخاص والظروف. بمعنى أدق، كأن الابتكـار يتعلّق بشركـات الآخرين ولا مكان له في شركتك.

 

ثلاثة كتب استعرضت مفهوم الإبداع والابتكـار في المؤسسات بجوانبها المختلفة، كتاب "إبداع ابتكـارات خارقة" أحد مطبوعات كلية هارفرد للأعمال (1)، وكتاب "القفز خارج الصندوق" (2)، وكتاب "وجوه العبقرية الخمس" (3). هذه الكتب سلّطت الضوء أيضا على الأساطير التي تعيق ظهـور الإبداع في الشركات والتي تؤدي إلى تحوّلها من شركة حيوية نشيطة إلى شركة رتيبة أشبه بالمومياء.

   

الأسطـورة الأولى.. يجب أن تكون الأفكـار " كبيرة"

أسطورة هي الأكثر شيوعا وانتشارا على الإطلاق، فالشائع أنه حتى تحقق إنجازا كبيرا يجب أن يكون وراءه أفكـار كبيـرة وإبداعيـة. هذا التصوّر في الحقيقة أبعد ما يكون عن الواقع، حيث إن الأفكـار الكبيـرة لا تأتي كبيـرة على الإطلاق، ويتطلب الأمر الكثير جدا من الأفكـار المجنونة وغير العقلانية والصغيـرة لتجد من بينها القليل فقط الذي يستحق التجـربة والتطبيق.

      

undefined

      

عندما افتتحت رائدة الأعمـال البريطانية "أنيتا روديك" متجـرها الأول الصغيـر المسمّى بـ "ذا بودي شوب" (The Body shop) في منتصف السبعينيـات، كان لديها كم كبيـر من الأفكـار التي تسعى لتطبيقها لدفع عجلة المبيعات في المتجر، قامت بتطبيق عدد منها باءت جميعا بالفشل، إلى أن قررت تطبيق فكـرة صغيـرة طرأت في ذهنهـا في تلك الفتـرة.

  

كانت الفكـرة هي أنها لاحظت أن كافة متاجر أدوات التجميل والزينة تقوم ببيع منتجاتها في عبّوات كبيرة ومرتفعة السعر، فبدأت هي بتقديم منتجـاتها للزبائن بعلب صغيـرة وقابلة أيضا لإعادة التعبئة مرة أخرى، مما يجعل سعـرها منخفضا بالنسبة للمنتجـات الأخرى، كما يجعل العبوات نفسها لها قيمة كبيـرة حيث يمكن إعادة تعبئتها بالمنتجات بأسعار مخفضة. (2) هذه الفكـرة "الصغيـرة" أدت إلى إنعاش حركة المبيعات في متجرها الصغيـر الناشئ بشكل كبير، وكان لها الفضل في لفت أنظـار شريحة كبيرة من العملاء خصوصا ذوي الطبقات المتدنية.

    

الأسطورة الثانيـة.. الابتكـار له أهله

ليس كل موظف في الشركة قادرا على الابتكار، فالابتكار يقوم به فقط الأذكياء والخبراء والمتدرّبون بشكل مميز والقطاعات العليا من الإدارة. أما الموظفون بالأعمال الروتينية والبسيطة فليس لهم الحق في الابتكار، أو على الأقل لا يمكن السمـاع لآرائهم التي ستكون حتما منحسـرة على مجال أعمالهم البسيطة وتغفل الصـورة الكليّة للعمل.

 

الكثير من تجارب الشركات تكذّب هذا الزعم تماما. في شركة جنرال موتورز، قام فريق من العاملين واللحـامين القائمين على أحد خطوط الإنتاج بتطوير فكـرة بسيطة للتحكم في تشغيل وإيقاف مراوح تجفيف طلاء السيارات. هذه الفكـرة أدت إلى توفير أكثر من 160 ألف دولار سنويا من مصروفات التشغيل، فضلا عن تحسين جودة عمليات الطلاء، مما جعل الشركة تقوم بتكـريمهم.

     

undefined

  

شركة أخرى في ولاية مينيسوتا الأميـركية تُدعى تيننت، قام المهندسون فيها بتطوير نظام يكلف 100 ألف دولار لتبسيط عملية اللحام وجعلها أكثر فعالية، ولكن إدارة الشركة رفضته بسب تكلفته العالية. عاد فريق المهندسين لتطوير نظام جديد بتكلفة أقل، وصل إلى 25 ألف دولار لكنه رُفض أيضا لأن تكلفته ما زالت مرتفعة.

 

كان الحل هذه المرة على يد مجموعة من العمّال واللحامين، استطاعوا خلال يومين فقط تطوير نظام مبسّط للغاية قاموا هم بأنفسهم بتجـربته وشراء مستلزماته من وكالة محلية، ولم يكلّفهم أكثر من ألفي دولار. وعندما عُرِض على الإدارة، تبنّته فورا وقامت بتكـريم العمال واللحامين على إنجازهم الذي استطـاع توفير مصـروفات طائلة كانت ستتحملها الشركة في حالة تطبيـق المشروع الذي تقدّم به المهندسون. (3)

 

نعم، صحيح أن ليس كل موظف في الشركة لديه القدرة على الابتكار والإبداع، ولكن في المقابل يجب ألا تغلق الأبواب أمامهم. إذا لم تطلب منهم إجبـاريا أن يساعدوك في تنمية الابتكـار في الشركة، فعلى الأقل لا تُدر ظهـرك لهم عندما يتقدم لك أحدهم بفكـرة جديدة أو بتطبيق جديد بحجة أنهم ليسوا أهلا لهذه الأفكـار، وأن دور الإبداع في الشركة مقتصـر فقط على الإدارة العليا.

 

الأسطورة الثالثة.. نحن متعثرون ولا وقت للابتكار

معتنقـو هذه الأسطورة هم الأكثر غرابة في عالم ريادة الأعمال. يفترض هذا النوع من التفكيـر أن الابتكـار هو أقرب إلى عنصر ترفيهي أو إضافي يعمل على تطوير الأعمال المزدهرة بالفعل، وبمجرد أن تبدأ الأعمال في التعثر فالواجب هو تنحية الابتكـار وحل المشاكل والأزمات بشكلها التقليدي.

    

undefined

   

الواقع أن العكس تماما هو الصحيح. في الأساس يُعدّ الوصول السهل إلى المال، وعدم وجود ضغوط في الشركة تتعلق بالوقت والإنجاز، من أكثر المعوّقات للبدء في دخول عملية ابتكـارية. الابتكـار في الأساس مرتبط بالمشاكل والمعوّقـات والأزمات بشكل أكبر بكثير من ارتبـاطه بالأمور التطويرية النمطية المعتادة، فلولا الأزمات والمشاكل لغاب الابتكـار تماما عن أي صناعة وخدمة ومنتج.

 

في عام 1998، كانت شركة السكك الحديدية اليابانية تعمل على مشروع عملاق لإنشاء طريق حديدي بين طوكيـو العاصمة ومدينة ناجانو استعدادا لأولمبياد الشتاء الذي أُقيم في اليابان في تلك الفتـرة. أثناء العمل، فوجئت الشركة بكارثة كبيـرة أن الأنفاق التي تم حفرها لمرور الطريق الحديد عبر الجبال امتلأت بالميـاه عن آخرها، وهو الأمر الذي جعل الشركة تستدعي مكاتب استشارية ومهندسين وخبراء لوضع حلول لهذه الأزمة بحيث يمكنها الاستمرار في إكمال بناء الطريق في الموعد الزمني المحدد. كانت كل التوصيات أنه يجب بناء قنوات لتصريف المياه، وأن هذا المشروع سيحتاج وقتا طويلا.

 

أتى الحل عن طريق بعض العمال الذين كانوا يعملون في المشروع، فشعروا بالعطش وانحنوا يشربون من الماء الذي غمر النفق، ليكتشفوا أن المياه مذاقها رائع وربما أفضل من المياه المعبأة! انطلق العمال إلى رئيسهم واقترحوا عليه أنه بدلا من تصريف الماء أن تتم معالجته وتعبئته وبيعه كهدايا مخفضة خلال الأولمبيـاد. كانت فكـرة غريبة، لكن بعد دراستها وبعد التأكد من نظافة الميـاه طُبّقت عبر إنشاء شركة مياه متخصصة بالكامل قامت بجمع المياه في النفق ومعالجتها، والبدء في بيعها. (3) تحوّلت "أزمة" تسبب إهدار ملايين الدولارات إلى فرصة تحقق أرباحا ضخمة، فقط بسبب التفكير في الموقف بطريقة مختلفة.

 

الأسطورة الرابعة.. الابتكـار لا يمكن تعلّمـه

هذا الادعاء يزعم أن الابتكـار والموهبة وجهـان لعملة واحدة، وأن الابتكـار ما هو إلا نتاج عقل استثنائي مبدع يجب البحث عنه، وأنه أمـر غير خاضع للتعليم والتدريب. الواقع أن هذا الادعاء خاطئ تماما بدوره، وأن الابتكـار مثل أي شيء آخر من الممكن تعلّمه والتدريب عليه.

      

undefined

  

من الممكن تماما تعليم الناس كيفيـة خلق الأفكار واختبارها وتطبيقها فقط إذا تم وضعهم في البيئة المناسبة، وتلقوا التدريبات المناسبة المنهجيـة التي تجعلهم قادرين على تطوير الأفكار الجديدة وتحويلها إلى ابتكارات تنفيذية تنعكس على نمو الشركة، كلٌّ في قطاعه ومهــامه. الكثير من شركات العالم تهيئ حقائب تدريبية متخصصة تعمل على تدريب عمّالها وطواقمها الوظيفيـة لاستدرار أفكـارهم الإبداعية والمبتكـرة.

 

مثلا، العديد من الشركات الكبرى والمتوسطة والناشئة تطبق قاعدة الـ 15%، وهي قاعدة تستهدف فتح المجال أمام الموظفين والعاملين في الشركات لتعلّم أي نواحٍ إبداعية يرغبون بها اختياريا، فضـلا عن فتح المجال لهم باستغلال 15% من إجمالي ساعات عملهم الشهريـة في تطوير أي برامج أو أفكـار إبداعية يرغبون بها في نطاق العمل أو أي نطاق آخر.

 

شركات أخرى تشترط أن يقوم كل موظفيها بطرح أفكـار لتطوير الأقسام التي يعملون فيها خصوصا وأفكـار عامة لتطوير الشركة عموما بشكل إلزامي، ويتم تطبيق الأفكـار الأفضل وإرجاع الفضل إلى صاحب الفكـرة بتحفيزه وتكريمه. (3، 4) هذه الأساليب متبعة في أكبر الشركات العملاقة التقنية الحالية التي كانت منذ سنوات قليلة تعتبر شركات ناشئة، مثل جوجل ولينكيد إن وتويتر وأمازون وغيرها.

  

الأسطـورة الخامسة.. الابتكـار محفــوف بالمخاطـر

يشيع جدا هذا المفهـوم بين مؤسسي الشركات ورواد الأعمال خصوصا في المجالات التقليدية. الابتكـار وإن كان ضـروريا لكنه أيضا محفوف بالمخاطر، ونتائجه غير مضمونة على المدى القريب أو البعيد، خصوصا نوعية الابتكارات التي تستلزم ضخ ميزانية كبيـرة لدعمها، الأمر الذي قد يهدد الوضع المالي للشركة في حال فشل هذا الابتكار في تحقيق نتائجه المرجوّة.

     

undefined

  

هذا مفهوم خاطئ آخر، وطالما أنه مستمر في عقلية رائد الأعمال فسيظل مفهوم الابتكـار أمرا من الدرجة الثانية بدون أهمية كبيـرة في شركته. بالطبع هناك بعض الابتكـارات يمكن وصفها بالخطيـرة وأن نتائجها غير مضمونة، لكنها أيضا تكون ابتكارات غير مدروسة جيدا. من المهم أن يكون الابتكـار الذي تُقبل عليه الشركة حصيفا ومدروسا بعناية في تطبيقاته ونتائجه، واحتمالات نجـاحه وفشله أيضا.

 

في مرحلة من مراحلها المبكـرة ابتكرت سلسلة المقـاهي العالمية ستاربكس ابتكارا غريبا بهدف زيادة مبيعاتها، وهو "بطاقة ستاربكس" التي تجعل المستخدم يدفع مبلغا إجماليا يحصل مقابله على بطاقة تتيح له الحصول على مشروبه الصباحي وفطائره سريعا بدون دفع. بمعنى آخر، بطاقة ائتمان خاصة لسلسلة متاجر ستاربكس، وهو الأمر الذي لم يكن مسبوقا وقتئذ، حيث لم يستطع أحد المطاعم السريعة أن يقنع العملاء بالدفع المقدم للحصول على وجبـاتهم الصباحية. حقق الابتكـار نجاحا جيدا خصوصا أنه -في المقابل- لا يكاد يحمل أي خطورة. تم تجربة التقنية جيدا، وتم اختبار الفكرة في بعض الفروع قبل تعميمها في كافة أرجاء الولايات دون أي مخاوف تذكـر. (1)

      

أخيرا، ليس من السهل أن يتغلب رائد الأعمال على مخاوفه الكامنة بخصوص الإبداع والابتكـار في شركته، لكنه يظل عنصرا حاسما بالنسبة إلى صحة الشركة وبقائها واستمرارها. الابتكار لا يعني أفكـارا عبقرية أو منهجيات تحتاج إلى ملايين الدولارات لتنفيذها بقدر ما هو مبدأ محرّك للشركة مثل غيره من المبادئ التي تضمن حركة العمل والإنتاج والجودة.