استغل أوقات الفراغ.. هذه الشركات العالمية بدأت من المنزل

هذه "الإمكانيات المُتاحة" قد تعني مجموعة واسعة من الخيارات بحسب قدرة كل رائد أعمال، فقد يكون لدى البعض القدرة على بدء مشروعه الريادي من مقر عمل جيد، والبعض الآخر يلجأ لإيجار منزل بسيط، والبعض الثالث يطلق شركته من محل صغير في شارع جانبي. بعضهم يبدأ عمله من مرآب سيارات مُلحق بالمنزل. وبعضهم لا يجد مكانا يُطلق منه شركته سوى منزله الذي يعيش فيه، وربما غرفته الصغيرة بجدرانها الأربعة.
الواقع أن فكرة إطلاق الشركة من أماكن محدودة تابعة للمنازل، أو ما يسمّى "البيزنس المنزلي Home Based Business" ليست فكرة جديدة، بل هي فكـرة معتادة إلى حد كبيـر ومعروف نجاحها في العالم أجمع، وإن بدأت في التحوّل لظاهرة حقيقية في نهاية السبعينيات. يكفي أن شركات ضخمة مثل ديزني وغوغل وأبل وأمازون وغيرها، انطلقت جميعا من مرآب سيارات صغيـر تابع للمنزل، ثم تحوّلت إلى شركات عمـلاقة تستحوذ على الأسواق العالمية وتوازي قيمها السوقية اقتصاديات دول كاملة. (1)
هل هذا ممكن بالفعل؟ نعم، ممكن.. هذا التقرير يستعرض مجموعة من الشركات التي بدأت جميعها من المنزل برأس مال شديد التواضع، لتتحول لاحقا إلى شركات كبرى يتبوأ أصحابها مكانة متقدمة في قوائم الفوربس لأثرى أثرياء العالم.

عندما ولدت ديبي فيلدز في أوكلاند كاليفورنيا، وجدت نفسها محاطة بأسرة شديدة الاجتماعية، والدها يعمل لحاما للمعادن ووالدتها ربة منزل، ولديها أربع أخوات. منزل أميـركي هادئ يقوم بشكل أساسي على الحياة الاجتماعية، حيث لا يكاد يخلو المنزل من تجمعات الأصدقاء والجيران. هذه البيئة جعلت الطفلة تقضي وقتا طويلا في المطبخ مع والدتها لصناعة الحلويات.
كانت هذه البداية، وقعت الطفلة في حب صناعة الحلويات والكعك والمخبوزات وبالتدريج أصبحت تصنعها ببراعة مذهلة، ويبدو أن ثناء أسرتها على مأكولاتها جعلها تتحمّس وهي ابنة 12 عاماً على عمل خطوة جريئة للغاية في مثل هذا العمر، وهو إطـلاق مشروعها الصغير حيث كانت تقوم بصنـاعة الحلوى في المنزل وتقوم ببيعها بأسعار مناسبة للأصدقاء والجيران والشوارع القريبة.
المدهش أن الطفلة في هذا العمر استطاعت أن تصمد أمام صعوبات مشروعها الصغير لدرجة أن الأرباح التي جمعتها على مدار عامين مكّنتها من شراء سيارة قديمة مستعملة وقامت بتحويلها إلى ما يشبه متجرا متنقلا صغيرا لبيع منتجـاتها، استطاعت من خلالها توسيع قاعدة زبائنها بشكل كبير أعاد عليها أرباحا أكبر. ثم -فجأة- توقّف كل شيء، عندما وجدت نفسها عروسا وهي في سن مبكرة للغاية، حيث تزوّجت وأنجبت خمسة أطفال.
تغيرت حياة ديبي فيلدز تماما، لم يعد لديها وقت. أصبح كل اهتمامها متوجها للعائلة وتربية أطفالها، فتراجع طموحها في تحويل مهارتها في صناعة الحلويات إلى تجارة تحمل اسمها، وعادت مرة أخرى لصناعة حلوياتها من أجل أسرتها ومن أجل الضيوف والأعياد والمناسبات الاجتماعية والمنزلية، ولبثت على هذا الحال بضع سنين.
بعد سنوات، عاد الحنين القديم يراودها مرة أخرى ولكن بمواجهة مشاكل كبرى هذه المرة، حيث لم يتحمّس زوجها للمشروع، وفشلت في الحصول على أي تمويل من المؤسسات التي تموّل المشروعات الصغيرة. ومع ذلك، استمرت في صناعة حلوياتها المنزلية مع التركيز على رفع الجودة بأفضل طريقة، حتى استطاعت أخيراً أن تحصل على تمويل متواضع مكّنها من افتتاح متجرها الصغير الأول في العام 1977 باسم: مسز فيلدز بيكـريز.
وعلى الرغم من المشاكل الهائلة التي قابلت متجرها الصغير منذ اليوم الأول من افتتاحه، حيث فوجئت بقلة الأرباح وعدم تردد الزبائن على متجرها، إلا أنها استطاعت أن تنقذ مشروعها من الإنهيار بعمل خطة تسويقية مُحكمة اقتضت منها أن تذهب بنفسها الى أماكن تجمّعات الناس كما كانت تفعل في صغـرها، وتعرض عليهم الحلوى بأسعار مخفّضة.
بقدوم عام 1984، بعد سبع سنوات تقريبا من افتتاح متجرها الأول، كان عدد متاجر الحلوى التي تحمل اسم مسز فيلدز بيكريز قد وصلت إلى حوالي 160 فرعا تغطي الولايات المتحدة بالكامل تقريبا، إلى جانب أربعة فروع عالمية أخرى تدرّ عليها أرباحا بملايين الدولارات. وبقدوم التسعينيات باعت فيلدز شركتها بالكامل، وتفرّغت لمتابعة حياتها العائلية من ناحية، وتأليف الكتب الإدارية والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية كريادية أعمال بارزة من ناحية أخرى. ( 2 ، 3 ، 4 ، 5 )

في الأساس كانت سارة بلاكلي مخضـرمة دائما في مجال المبيعات. صحيح أنها درست الاتصالات في الجامعة ونالت تدريبا جزئيا في شركة والت ديزني العملاقة، إلا أنها بعد أن تخرّجت في الجامعة عملت كمندوبة بيع لشركة متخصصة في بيع أجهزة الفاكس في تلك الحقبـة من التسعينيـات.
كمندوبة مبيعات، هذا يعني أنها تقضي يومها بالكامل تقريبا في التجول في شوارع فلوريدا حيث كانت تقيم وتعمل. هذه الولاية الشهيرة بمعدل رطوبة مرتفع للغاية، مما يعتبر عذابا حقيقيا لموظفة تعمل في هذا المناخ طوال اليوم تقريبا، ويجعلها دائما تختار ملابسها بعناية فائقة. حاولت لفترة أن تشتري جوارب طويلة مريحة تتلاءم مع وظيفتها إلا أنها لم تجد بتاتا.
هنا، وجدت سارة بلاكلي نفسها بصدد فرصة تسويقية حقيقية لها، خصوصا أنها تبتكر طريقة معينة تجعل الجوارب أكثر راحة. انتقلت إلى ولاية أخرى، وحاولت إقناع عدد من المصانع بأن يقوموا بصنـاعة الجوارب وفقا للتصميم الذي وضعته هي، مقابل أن تتعهد هي بتسويق هذه الجوارب بنفسها. وافقت إحدى الشركات، وقامت بالفعل بتصنيع ثلاثة آلاف جورب قامت بتوريدها إليها في عام 2000، وهو العام الذي شهد ميلاد شركتها التي أسمتها "سبانكس" وأطلقتها من منزلها.
من منزلها الذي حوّلته إلى مخزن ومركز لاستقبال الطلبات وتوريدها، استطـاعت أن تحقق أرباحا مليونية بعد عام واحد فقط من إطلاق الشركة. وبعد عدة سنوات كانت شركة سبانكس قد توسّعت لتصبح شركة عالمية في أميركا والعالم، وأصبحت سارة -مندوبة المبيعات- واحدة من أشهر رياديات الأعمال الشباب على الإطلاق في الولايات المتحدة. وفي عام 2012، أدرج اسمها في لائحة أقوى 100 شخصية مؤثرة في العالم، كما أدرج اسمها أيضا في قائمة فوربس لأغنى أغنياء العالم بثروة قدرت بـ 1.1 مليار دولار. ( 6 ، 7 ، 8 )

انتوني غرين مدرّس عادي مثل الملايين من المدرسين في العالم. أو قل إنه مدرّس بارع ومتميز –أيضا- مثله مثل غيـره من الملايين من المدرّسين حول العالم. ولكنه كان فريدا بالفعل في استغلال مهاراته في التدريس ومعرفته بدقائق نظام التعليم الأميـركي لبنـاء بيزنس خاص يدرّ عليه ألف دولار مقابل ساعة عمل واحدة. وهذا البيزنس لا يحتاج سوى جهاز كمبيوتر ووصلة انترنت وبرنامج سكايب.
الدور الذي يلعبه غرين واضح ومحدد: تقديم دورات تدريبية مكثفة لطلاب الثانوية الذين يرغبـون في التقديم لأفضل الكليات والجامعات الأميـركية والعالمية المرموقة مثل ستانفورد وكامبريدج. المعرفة الواسعة له تمكّنه من منح دورات مكثفة للطلاب لتجاوز الاختبارات التأهيلية التي عادة ما تكون شديدة التعقيد والصعوبة.
بمرور الوقت، ومثل أي مدرّس خصوصي في كل بلاد العالم، بدأ غرين يحقق شهـرة واسعة بتحقيق الكثير من طلابه لعلامات أهّلتهم لاجتياز اختبارات القبول للكليات العالمية مثل اختبار SAT وغيره من الاختبارات المؤهّلة، الأمر الذي جعله يرفع تدريجيا من المبالغ المالية التي يتقاضاها مقابل تقديم هذا التدريب الأونلاين حتى يصـل إلى ألف دولار في الساعة الواحدة، وهو بلا شك رقم كبير للغايـة من الصعب تخيل أنه مقابل قضاء ساعة افتراضية واحدة عبر سكايب.
بمعنى أكثر اختصارا، لم يؤسس الرجل أي شركة أو يشتري مصنعا أو يطوّر منتجا. كل ما قام به هو استغلال خبرته الطويلة في مجال التعليم ليحوّله إلى مصدر ربح كبيـر عبر جهاز الحاسوب الشخصي الخاص به مقابل أجر كبير وافق أن يدفعه التلاميذ بسبب النتائج الممتازة التي يحققونها من وراء هذه الساعة السريعة على سكايب. ( 9 ، 10 )

لحظة كتابة هذه السطور، دومينيك ماكفي هو ريادي أعمال بريطاني يبلغ من العمر 33 عاما. لكن الواقع أن شهـرة دومينيك بدأت مبكرا للغاية، حيث انضم لنادي المليونيرات وهو ابن 15 عاما في واحدة من أكثر القصص الريادية شهرة لدى المهتمين بمفهوم العمل الحر من خلال إمكـانيات شديدة التواضع. كما أن لقصته أيضا نصيب من الشهرة بين المهتمين بمبدأ: ربّ صدفة خير من ألف موعد. كان دومينيك يتصفّح الأنترنت بحثا عن موقع شركة بطاقات الإئتمان العالمية Visa، إلا أنه مثل أي شخص آخر أخطأ في رقن الحروف على لوحة المفاتيح ليكتبها Viza. وجد نفسه أمام شركة أميـركية متخصصة في صناعة دراجات السكـوتر التي تتميز عن الدراجات الأخرى بأنها أكثر مرونة في الاستخدام والطي.
كمراهق، اهتم الفتى بهذه الدراجة وأعجبته بشدة ليفيق من أحلام اليقظة ويعرف أنه ليس لديه المال الذي يمكنه شراء واحدة. فكانت النتيجة أن أرسل للشركة رسالة مفادها أنه يريد دراجة من هذه الدرجات مجانا له، على أن يقوم هو بتسويق هذه الدراجات في بريطانيا في المقابل لأنها لم تكن معروفة في بلاده. طبعا رفضت الشركة الأميركية إلا أنها ردت على الفتى بأنه إذا اشترى خمس دراجات فسوف يمنحونه السادسة مجانا.
كان العرض بالنسبة لدومينيك لا يمكن تفويته، فقام بجمع المبلغ سريعا بالاقتراض من أسرته أو ممارسة أعمال مسائية في مهن بسيطة، حتى استطاع جمع المبلغ وقام باستلام العجلات الست التي كان يحلم بها، ليقوم بعدها وخلال أسبوع واحد فقط ببيعها جميعا بمبالغ ممتازة. ثم أرسل في طلب المزيد من الشركة التي أرسلت له دفعة من عشر عجلات جديدة، استطاع أن يبيعها جميعا في زمن قياسي. كان هذا البيع السريع للدراجات ملفتا، الأمر الذي جعل المراهق يطوّر من أساليبه البيعية، فبدأ يستخدم البيع عبر الانترنت والهاتف، كما أصبح يستخدم أسلوبا شبكيا عبر صداقاته في بيع الدراجات لأصدقائهم، وأنشأ موقعا إليكترونيا لبيع الدراجات، وقام بطباعة منشورات دعائية للمنتج يروّج له أثناء ذهابه إلى المدرسة عبر محطات مترو الانفاق.
بعد عدة سنوات، بدا أن مدينة لندن بالكامل قد تشبّعت بالدراجات التي يبيعها دومينيك حيث بيع أكثر من 7 ملايين دراجة تقريبا، ولمع اسم دومينيك ماكفي في الإعلام باعتبار أنه "ملك الدراجات" وهو ابن 15 عاما فقط بثروة قدرت بعدة ملايين، وتم منحه عدة جوائز رفيعة من الحكومة البريطانية، واحتل المركز الثاني في قائمة أكثر 30 شخصية بريطانية من ناحية التأثير عمرهم أقل من 30 عاما.
لم يخترع دومينيك هذه الدرّاجات، ولم يكن لديه شركة تسويق عملاقة. كل ما فعله هو أنه عمل بنفسه كوسيط تسويقي عبر منزله لبيع هذه الدراجات بين المراهقين والشباب في بريطانيا بأقصى شغف ممكن، وكانت النتيجة أنه من أبرز روّاد الأعمال البريطانيين الشباب. (11 ، 12 ، 13 ، 14)

أكثر ما تشتهر به شركة دِل Dell حاليا هو أنها واحدة من عمالقة مُصنّعي الحواسيب في العالم، تقدر أرباحها السنوية بحوالي 19 مليار دولار ويزيد عدد موظفيها حول العالم عن 140 موظفا. كما أن الشركة تعمل على تصنيع أجهزة أخرى مثل التلفزيونات والخواديم والأجهزة الذكية وأنظمة الحماية.
العلامة التجارية Dell ليست اختصارا لأربعة كلمات تعبر عن الشركة، وإنما هو لقب مؤسسها "مايكل دِل" الذي يعتبر الآن واحدا من أبرز أقطاب الصناعة التقنية في العالم بثـروة هائلة تقدر بـحوالي 24 مليار دولار. بالعودة إلى نهاية السبعينيات كان مايكل مجرّد مراهق يشعر بإعجاب شديد بأجهزة الكمبيوتر التي كانت قد بدأت الظهور على استحياء تلك الفترة. تعلم مايكل الكثير بخصوص هذه الأجهزة عن طريق تفكيكها وإعادة تجميعها مرة أخرى.
عندما التحق مايكل دل بالجامعة، وفي بداية الثمانينيات قام بتأسيس شركة صغيرة أسماها B Sales لبيع قطع غيار الحواسيب للطلاب في الجامعة. كان مقـر هذه الشركة هو غرفته الصغيرة في السكن الجامعي، قام باستغلاله للقيام بكافة أنشطة التسويق التي يستطيع أن يقدمها ليسوّق أجهزته بين طلاب الجامعة، وعندما بدأ في تحقيق أرباح جيدة قام باستئجار شقّـة صغيــرة وأعاد إطلاق شركته مرة أخرى باسم العائلة "دِل Dell" برأس مال 1000 دولار أميركي فقط.
خلال عقد الثمانينيات، حققت دل نموا سريعا في بيع قطع غيار أجهزة الكمبيوتر انعكس على مستوى أرباح كبير، جعل الشاب يتخلى عن دراسته ويتفرّغ لإدارة مشروعه، حيث استطاعت الشركة صناعة أول كمبيوتر شخصي باسم توربو Turpo PC بقدرات جيدة جدا. هذا الجهاز استطاع أن يحقق أرباحا مليونية في زمن قياسي ساعد على شهرة العلامة التجارية للشركة حتى طرحت لإكتتاب عام في البورصة في نهاية الثمانينيات.
في أوائل التسعينيات نجحت دِل في إنتاج أولى أجهزتها اللوحيـة، وأصبح لديها العديد من المصانع في أكثر من ولاية، واعتبرت من أفضل 500 شركة في العالم في تصنيف مجلة فورتشن. وبقدوم الألفية الجديدة كانت "دل" قد تمكنت من شحن أكثر من 10 ملايين جهاز حول العالم، واعتبرت من أكثر الشركات استحواذا على ثقة المستهلكين، الأمر الذي دفعها للدخول في مجالات تصنيع أجهزة مختلفة إلى جانب مجالها الأساسي في صناعة الحواسيب. لا تزال شركة Dell تعتبر واحدة من أهم نماذج الشركات العمـلاقة التي بدأت نواتها الأولى في أقل مساحة ممكنة: غرفة سكن جامعيـة صغيرة لطالب لم يستمر بالدراسة في هذه الجامعة أساسا. (15 ، 16 ، 17 ، 18 ، 19)
في النهاية، هذه النماذج وغيرها من الشركات العالمية الناجحة التي بدأت من المنزل -سواء في غرفة أو مطبخ أو مرآب- أثبتت كلها امكـانية إطلاق المشروع الريادي في بيئات شديدة المحدودية والصغر، لتتحوّل لاحقا إلى شركات عمـلاقة تدر الملايين لأصحابها. تزداد هذه الإمكـانية مع الانتشار الكبير لمفهوم العمل عن بُعد حاليا بالفعل وتنامي الاستخدام العالمي لشبكة الأنترنت الذي يعتبر نافذة تسويقيـة مفتوحة دائما للمنتج أو الخدمة التي تقدمها.