أهم عنصر فعّال في نجاح فكـرة أي منتج، هو إخضاعها لعدد من المعايير المتعلقة بالسوق، وبالتوقيت، وبالخصائص. والأهم: تجربة الفكـرة بخلق عدد من النماذج الأوّلية، وتطويرها بشكل مستمر، قبل إطـلاقها.
أعتقد جازماً ان مسألة العمـر هي واحدة من أكثر الأمور التي تشغل أي شخص يفكـر -ولو من بعيد- في دخول عالم ريادة الأعمال، والبدء في تأسيس شركة ناشئة. دائماً، فمجرد الحديث عن ريادة الأعمال، يبرز سؤال حول العمر المناسب لبدء مشروع ريادي، وهو سؤال منطقي تماماً في هذا العصر وحاضر دائماً في أذهان وعقول الجميع من كافة الفئات العمرية، فالعالم الآن مُنساق تحت صرعة ريادة الأعمال، وفي نفس الوقت تنهال أخبار فشل مشروعات كانت تبدو رائدة للغاية، ونجاح مشروعات أخرى.
المشكلة الوحيدة في هذا السؤال المشروع؛ هو أن أي إجابة تُقدّم لك غالباً سوف تتعامل معها باعتبارها إجابة غير منطقية، أي إجابة تُمنح لك حتى لو كانت علمية ومدروسة، في الواقع لن تقنعك وسوف تعتبرها غالباً تقديرات عبثية أو غير قابلة للتطبيق بالنسبة لك، لذلك أعتقد أن الحل الأمثل هو تقديم أمثلة من الواقع مباشرة، دون العودة للإحصائيات أو الدراسات.
بمرور الوقت بدأ الطفــل يهتم بإضافة المزيد من المنتجات التي يبيعها، فبدأ يقدم بعض الكعك والحلويات والمأكولات عبر عربة خشبية في منتصف الطريق، غالباً ما كانت تجذب المارة بسبب إعجابهم بها، وبسلوك الطفل المميز المثير للانتباه، ثم بدأ الطفل في البحث عن منافذ بيع أكثر نظامية للحلويات والكعك الذي يقدمه، واستطاع أن يتعاقد مع سوق داخل المدينة، وبدأ يروّج لحلوياته معتمداً على دهشة كل من يتواصل معهم بسبب عمره الصغير من ناحية، وبسبب الطعم الرائع للحلويات التي يقدمها من ناحية أخرى، حتى وصلت حلوياته إلى أسواق نيويورك.
مع هذا الانتشار، توجّه الصبي لإنشاء شركة خاصة أسماها (مستر كوري للكعك والحلوى Mr. Cory’s Cookies) التي بدأت تحقق الأرباح سريعاً، مع ذكاء الصبي في الترويج لنفسه عبر وسائل الإعلام الاجتماعي، والظهور في عالم الموضة والإعلانات والتمثيل، أصبح نيفير يعد أصغر رائد أعمال في العالم، وهو الآن في مرحلة المراهقة وله مكتب خاص، ومشروعه يحقق إيرادات ممتازة تنافس شركات الحلوى الكبـرى في الولايات المتحدة.
المبلغ كبير، ويعتبر صفقة جيدة جداً في عالم الاستحواذات الكبرى التي تقوم بها الشركات العالمية؛ باعتبار أن التطبيق مميز ويساعد بشكل كبير في وضع قدم ياهو في عالم الأخبار والإعلام بشكل مستمر، ولكن ما يبدو أنه غير طبيعي، هو أن صاحب المشروع الذي تم دفع 30 مليون دولار له، هو نيك دلوايزو الإنجليزي مواليد العام 1995، وأنه قد حصل على هذا المبلغ وهو ابن السابعة عشر من العمـر تقريباً.
نيك بدأ الدخول في عالم ريادة الأعمال منذ العام 2010 -2011 وهو ابن 15 عاما، وحقق إنجازات كبيرة وسريعة في هذا المجال، جعلته يحصل على تمويل من شركة استثمارية في هونج كونج لدعم تطبيقه، ثم أطلق مشروعه في 2012 ليحوز أكثر من مليون عملية تحميل بعد شهر واحد من إطلاقه، الأمر الذي جعل شركة ياهو تستحوذ على المشروع في العام 2013 بهذا المبلغ، ويعتبر دلوايزو أصغر رائد أعمال عصامي مليونير على الإطلاق حتى الآن.
ومع ذلك أبدى الشاب اهتماماً كبيراً بالتقنية وأظهر فيها براعة كبيرة جعلته يتقدم هو وصديقه بريان آكتون عام 2007 (وهو بعمـر الثلاثين تقريباً) للعمل في وظيفة في شركة فيسبوك، إلا أنه تم رفضهما معاً بحجة نقص الكفاءة، وفي العام 2009 فكـر كوم مع صديقه في إطلاق تطبيق سريع للدردشة يكون مجانياً، ويحمل مواصفات مختلفة ويسهل الاتصالات فخرج من أيديهما تطبيق (واتس آب).
وبعد خمس سنوات من إطلاق التطبيق، وصل عدد مستخدميه إلى نصف مليار، فتقدمت شركة فيسبوك التي رفضتهما بحجة نقص الكفاءة لشراء التطبيق في واحدة من أضخم صفقات العالم التقنية، بقيمة 19 مليار دولار، (3) وقد حقق كوم هذه الثـروة وهو في الثلاثينات من عمـره، بعد رحلة طويلة من العمـل النظـامي في الشركات المختلفة.
الصحيح لغوياً أن فترة الكهولة تبدأ من الثلاثينات؛ ولكن يبدو أنها مرتبطة دائماً في الوعي الجمعي بأنها تبدأ فقط من سن الأربعين.
يعتبر سام والتون من المشاهير في الولايات المتحدة، باعتباره الأب المؤسس لإمبراطورية المتاجر الضخمة للبيع بالتجزئة، والحقيقة أنه قضى فترة طويلة من عمره يدير متجرا صغيرا للغاية مع أبيه بالتبني، ثم تلقى مبلغاً من والده مكّنه من شراء متجر آخر ثم متجر ثالث، وهي أمور عادية للغاية يمكن لأي أحد أن يقوم بها. ( 4 )
على الرغم من أنه قد وصل إلى سن الأربعين، ويدير متجرين لا بأس بهما إلا أنه كان يعاني في سداد أجور العاملين لديه، وفي عامه الرابع والأربعين، اتخذ والتون أخطر خطوة عملية في حياته، وقرر افتتاح أول متاجر بيع التجزئة (والمارت) التي تحوّلت إلى إمبراطورية عملاقة منذ العام 1945 إلى هذه اللحظة، وكانت الضربة الأولى الحقيقية في عالم الأعمال لـ والتون.
وفي عام 1955، وهو ابن 53 عاماً افتتح كروك أول مطاعمه ومنذ تلك اللحظة لم تتوقف ماكدونالدز عن الانتشار؛ في كل المدن والولايات الأمريكية أولاً، ثم الانتشار خارج الولايات المتحدة ثانيا؛ لتغزو العالم، وتتحول إلى واحدة من أبرز أهم مرادفات الغزو الثقافي الأميـركي للعالم أجمع.(4)
توفي كروك وهو في الثمانينات من عمره محققاً ثروة هائلة جناها في الثلاثين عاماً الأخيرة من حياته، بينما قضى الخمسين عاماً الأولى في جني الخبرات والمهارات التسويقية والبيعية المتميزة التي ساعدته على تحقيق هذا النجاح العالمي المستمر حتى هذه اللحظة.
أما بالنسبة لـكولونيل ساندرز مؤسس مطاعم كنتاكي العالمية فقد كان الأمر مختلفا، فبعد أن قضى حياته كلها يعمل في مهن مختلفة معظمها بسيط، وإن أبدى ميلاً في الكثير من مراحل حياته للعمل في الصالات والاستراحات المختلفة التي تضم خدمات متعددة مثل المقاهي والمطاعم ومنتجات الشراء، إلا أنه خدم بالجيش، وعمل في تلقيم الفحم، وعمل سائقاً في مراكب نهرية، كما عمل بائعا يتبع لشركات التأمين، ثم مارس المحاماة، ثم تخصص في بيع الإطارات، وتولى إدارة محطات الوقود، اضطرته في النهاية وهو بعمر الخامسة والستين إلى التقاعد "نظرياً".
وعندما وصل إلى الستينات من عمره، بدأ بتأسيس أول مطعم لوجبات الدجاج تابع لإحدى المحطات التي يديرها، واستخدم فيها خلطة مميزة من عدة توابل مختلفة، حققت نجاحاً واسعاً،ولاحقا باع حصته في الشركة بقيمة 2 مليون دولار وإن بقي متحدثاً رسمياً باسمها، إلى أن وافته المنيّة بعد أن تجاوز الثمانين تاركاً وراءه شركة عمـلاقة في مجال الوجبات السريعة تحقق أرباحاً مليارية سنوياً.
هذا ما أكّد عليه منظّر وكاتب ومبرمج وريادي كبير مثل بول غراهام في مقالة طويلة شهيرة كتبها في مدوّنته بخصوص أهم العوائق التي تمنع الناس من تأسيس شركاتهم الناشئة، ذكـر فيها عامل العمـر، وأكد أن عامل العمـر لا علاقة له بالأمر أصلاً، الفكـرة كلها فى مستوى النضج الفكري والعقلي فقط ولا يهم إذا وصلت لهذا المستوى وأنت في الخامسة عشر أو في الخمسين وقتئذ، يمكنك البدء في مشروعك.
حتى إن غراهام ذكـر أنه عندما قابل سام ألتمان الريادي والمبرمج رئيس حاضنة الأعمال الشهيرة Y Combinator، عندما كان عمـره 19 عاماً، وجد نفسه أمام شخص حكيم يفكـر بعقلية من وصل إلى الأربعين. الأمر الذي جعله يدرك تماماً أن الموضوع لا علاقة له بالعمر، وإنما فقط مستوى النضج.
أخيراً، إجابة هذا السؤال أنت فقط من يستطيع أن يحددها؛ وفقاً لإدراكك لعناصر قوتك ونضجك وقدرتك على خوض هذا التحدي، ولن تجد عندي إجابة لا أنا ولا أي شخص آخر!