لعل أفضل ما يمكن أن نبدأ به حديثنا عن علم الاجتماع (السوسيولوجيا) هو اقتباس لأنتوني جيدنز، أحد أبرز علماء الاجتماع في العالم، في مقدمة الطبعة العربية لكتابه "علم الاجتماع"، وهو المؤلَّف الذي يعد بدوره أحد أهم الكتب التي تناولت هذا الفرع المعرفي، يقول فيه: "إن علم الاجتماع بطبيعته مصدر للتنوير، لأنه يساعدنا على التحرر والتميز، وما يسعى إليه عالم الاجتماع النزيه الأمين هو أن يرى العالم كما هو، بكل ما فيه من مشكلات وإمكانات".

 

خلال السنوات القليلة التالية بعد الربيع العربي ازدادت أعداد المقبلين على التعلّم الذاتي بصورة مهولة، ومع حالة الإغراق الرقمي التي نعيش خلالها بات من السهل أن تجد ما تريد من مادة معرفية، سواء عبر المساقات أو الكتب، لتبدأ في تعلم ما تحب، لكن على الرغم من أن ذلك قد نال كل الجوانب المعرفية تقريبا، فإنه كان واضحا بشكل أكبر في العلوم، الفيزياء خاصة، والفلسفة، لكن في نهاية تلك القائمة ستجد، ربما، علم الاجتماع. على الرغم من ذلك، فهذا المجال هو إحدى المناطق البحثية النشطة للغاية في العالم المعاصر، خاصة بعد انتشار وسائل التواصل مما يمكّن الباحثين فيها من الحصول على عيّنات ضخمة من البشر، أضف إلى ذلك أن التحوّلات الاجتماعية القاسية، والكارثية، التي شهدها الوطن العربي نفسه، كبيئة تستحق الدراسة، جعل من الضروري كذلك أن يهتم البعض بهذا المجال لتحقيق أفضل تفسير ممكن لطبيعة التغير الحادث لشعوبنا، وماذا غير علم الاجتماع يمكنه أن يفعل ذلك؟

 

الآن دعنا نتجاوز المقدمات الطويلة ونبدأ مباشرة في الخطة، هذا التقرير سيبدأ معك بالتدريج ليقدم علم الاجتماع في مساقات مبسّطة ثم ينتقل لما هو أكثر تعقيدا، وعلى الرغم من أنه ليس تقريرا للكتب بالأساس، لكن اسمح لكاتبه أن يبدأ معك بدليل مهم، ليس تحديدا بدرجة التبسيط التي تودها كمبتدئ، لكنه حتما سيكون بعد فترة قصيرة رفيقك في الرحلة مع علم الاجتماع، وهو "علم الاجتماع – النظرية والمنهج" من تأليف ميل تشيرتون وآن براون.

  

   

الكتاب ثقيل بالطبع وليس ممكنا بسهولة لمبتدئ، لكن إحدى مزايا الكتاب هو أنه مقدم للطلبة من أجل التجهّز لامتحانات العلوم الاجتماعية، لذلك فإنه يتجاوز الكثير من الحكي وألاعيب اللغة من أجل تقديم معارف واضحة في صورة نقاط للاستذكار والفهم، لكن الأهم من ذلك هو أن الكتاب يدفعك للتفاعل إيجابيا مع مادته، بحيث لا يكون فقط أداة للحفظ، وإنما يعلمك فلسفة مناهج البحث الاجتماعية ويعطيك إرشادات أولية وتمارين يمكن لك تطبيقها من أجل التوصل للبيانات، أضف إلى ذلك أن المركز القومي للترجمة، بمصر، قد أتبع هذا الكتاب بآخر يهتم بتلك الجزئية لكن بشكل أكثر تخصصا.

 

هذا الكتاب هو "الدليل العملي لمناهج البحث في العلوم الاجتماعية" لبوب مايوز وليز روس، يتميز الكتاب بتقديمه لأمثلة من الحياة الواقعية تساعد القارئ على فهم القضايا التي يطرحها، ويتميز كذلك بأنه مصمم ليناسب بيئة التواصل الاجتماعي، لكن أهم مزايا الكتاب هي بساطته، حتّى إنك قد تتعجب، كغير متخصص، من قدرتك على المُضي قُدما في التعامل معه، لكن المشكلة في الحقيقة ليست في الفهم، بل فيما قصده كاتب التقرير من ترشيح الكتابين بالأساس، وهو أن علم الاجتماع، على عكس ما ينتشر عنه في وسائل التواصل الاجتماعي، ليس جانبا نظريا فقط يتعلق بفلسفة المنهجيات البحثية بقدر ما هو ممتع بدرجة أكبر، وأكثر فاعلية، حينما يتم تطبيقه بشكل عملي، الأمر ليس أن تستذكر فيبر ودوركايم وماركس، لكن أن تنتقل من النظري إلى التطبيق في مرحلة ما، وهذا هو ما يفعله السوسيولوجي.

  

 

جميل جدا، دعنا الآن من الكتب، ومن حين لآخر سوف نتطرق لها إذا تطلب الأمر ذلك، لكن لنبدأ فورا في المساق الأول والذي يقدم علم الاجتماع للمبتدئين من الصفر، هؤلاء الذين لا يفقهون أي شيء عن علم الاجتماع وتصيبهم إحدى الصدمات النفسية مع سماع كلمة "سوسيولوجي" بدلا من "علم اجتماع". المساق هو "كراش كورس علم الاجتماع" (crash course sociology)، لقد تحدثنا كثيرا من قبل عن المزايا العامة لمساقات سلسلة "كراش كورس" والتي تُمثّل نقلة نوعية في تاريخ التعليم على مستوى العالم (تأمل تقرير سابق للكاتب: كراش كورس – حينما يكون المساق أفضل من الكتاب)، لكن دعنا نشير مرة أخرى إلى أن السلسلة مقدمة لمستوى طلبة الثانوية العامة، ما يعني أنها ممكنة تقريبا لكل شخص يقرأ تلك الحروف.

 

يبدأ المساق بمقدمة توضح ما يعنيه علم الاجتماع، ثم ينتقل بعد ذلك إلى التحولات الرئيسية في مسيرة علم الاجتماع، والعلاقة بين المنهجية العلمية وعلم الاجتماع، ثم يبدأ بالحديث عن مجموعة من أهم المؤثرين في هذا العلم، مثل كارل ماركس وإيميل دوركايم، بعد ذلك يبدأ المساق في التنقل بين أساسيات هذا العلم كالحديث عن الثقافة والتطور الاجتماعي والمؤسسات والطبقات الاجتماعية والجريمة والأنظمة السياسية والاقتصادية، ثم مجموعة أخرى مهمة كالعِرق والإثنية والجندرية والعائلة والدين والمدارس وإلخ، فقط في 45 حلقة مدة الواحدة 10 دقائق سوف تتعرف على مقدمة في علم الاجتماع كأنها كتاب ضخم.

 

   

من كراش كورس دعنا ننطلق مباشرة إلى جامعة ييل، وأحد أشهر مساقات علم الاجتماع على الإطلاق، وهو "أسس النظرية الاجتماعية المعاصرة" (Foundations of Modern Social Theory) لإيفان سيليني، يقدم المساق مجموعة من المحطات المهمة في علم الاجتماع، فيبدأ من الثلاثي "هوبز، لوك، روسو" متضمنا مونتسكيو، ثم ينتقل لجون ستيوارت ميل، ثم خمس محاضرات في ماركس، ثم نيتشه، ثم عشر محاضرات كاملة في ماكس فيبر ودوركايم، خاض كاتب التقرير هذا المساق بالكامل قبل عدة سنوات وحقق منه فائدة جمة ما زال أثرها ممتدا إلى الآن.

 

الميزة الرئيسية لهذا المساق هي أن يختصر عليك الكثير من الطرق، فهو يقدم لك ماركس، أو فيبر أو دوركايم، على سبيل المثال، في صورة تبدو مختصرة لكنها ليست كذلك، بل هي مركزّة تتعامل بالأساس مع أفكاره وتأثيرها على تاريخ هذا العلم، كذلك فإن سيليني في كل محاضرة يقدم ما يشبه "الواجب المنزلي" وهو القراءة في عدد معين من صفحات كتب هذه المجموعة من المؤسسين، بالتالي فإنه يفتح لك الباب لتأمل مجموعة من أهم وأعظم الأعمال في تاريخ الفكر.

 

أسلوب سيليني غاية في البساطة، في الحقيقة لم يجد كاتب التقرير أي عناء في متابعته رغم أنه غير متخصص في هذا العلم وكان يود فقط التعرف إليه نظرا لاهتمامه، بصورة خاصة، بسوسيولجيا المعرفة العلمية ومجتمع العلماء، أضف إلى ذلك أن لكنة الرجل مفهومة وبسيطة، لكن الأكثر أهمية هو أن هذا المساق -بالكامل- تم تقديمه مترجما للغة العربية عبر منصة "شمسنا العربية" قبل عدة سنوات، وهذا هو واحد من أهم إنجازات الترجمة في علم الاجتماع كما نظن، بغض النظر عن أهمية ترجمة الكتب. المساق مترجما في "شمسنا العربية" من هنا.

 

   

قد يساعدك، إن أردت، وفي هذا السياق، أن تطلع على مساق آخر عبر منصة "كورسيرا" يقدم مجموعة مهمة من الأعمال التي كتبها مؤسسو علم الاجتماع بين القرنين الثامن عشر والعشرين، المساق بعنوان "النظرية الاجتماعية الكلاسيكية" (Classical Sociological Theory)، من جامعة أمستردام، يقدمه برات فان هيركايزن. ويشترك مع مساق سيليني في الثلاثي "ماركس، دوركايم، فيبر"، لكنه يقدم كذلك مجموعة إضافية من الأعمال لكل من ماندفيل، سميث، كومت، دو توكفيل، ونوربيرت إلياس.

    

أسلوب المساق بسيط على تعقد مادته ودسامتها، ولذلك فهو يحتاج إلى الكثير من التأمل والتركيز، لكنه رغم ذلك واحد من المساقات التي لاقت إعجاب الكثيرين في المنصة، يعتمد بالأساس على ثمانية فيديوهات (5 دقائق للواحد منها) في كل أسبوع، ويقوم "هيركايزن" في كل أسبوع بوضع خطة قراءة لعدد محدد من صفحات الكتاب الذي يقدم له، مع امتحان في نهاية كل أسبوع، إذا كنت من محبي التعرف على هذا النطاق أو الفلسفة المتعلقة به في العموم فإن هذا المساق كذلك هو ضالتك.

 

   

دعنا الآن ننطلق إلى جامعة نيويورك، ومساق آخر مختلف ومهم للدكتور هارفي مولتخ، يشبه سابقه من جامعة يسيل في درجة السهولة المتوسطة لشخص ذي خلفية في هذا النطاق، ولو طفيفة، ويختلف عنه في أنه لا يفرد لتاريخ علم الاجتماع، أو مؤسسيه، مساحة أساسية، بل ينطلق مباشرة إلى تقديم عينة من المشاكل والأساليب المستخدمة من قِبل علماء الاجتماع، مع أمثلة ملموسة من الحياة اليومية، والأحداث التاريخية، والأحداث المعاصرة على حدٍّ سواء.

  

يبدأ المساق بالخيال السوسيولوجي لرايت ميلز، ثم ينطلق إلى الانحراف الاجتماعي، ويعني السلوك الذي يعد خرقا لمعايير الاجتماعية، سواء كان عملا إجراميا أو رفض عادات وأعراف مجتمع ما، بعد ذلك ينطلق للحديث عن تنظيم العمل والمؤسسات، ثم التواصل والعمل والحروب والإرهاب، مع تركيز كبير، في نحو ست محاضرات، في الموضوعات المتعلقة بالعرق والإثنية والدين والجنس والجندر، في كل محاضرة، أو مجموعة من المحاضرات، يقدم مولتخ عملا للقراءة كسابقيه.

  

أما في المحتوى المقدم باللغة العربية، في مساقات علم الاجتماع، فلن تجد الكثير من المصادر المهمة التي يمكن أن تساعدك في علم الاجتماع، إلا أن مركز جامعة القاهرة للتعليم المفتوح يقدم مجموعة ضخمة من مساقات علم الاجتماع لطلبة كلية الآداب وغيرها من الكلّيات، لذلك يمكن لك أن تبدأ بجولة ممتعة في قائمة محاضراتهم والتي يعيبها أنها غير منظمة في قوائم، لهذا السبب ستضطر لتصفح صفحة الفيديوهات الرئيسية بالكامل.

 

    

لكن بالنسبة للمقدمات، هناك مساقان رائعان من تلك القائمة يمكن أن تبدأ بهما، الأول هو مساق يقدمه الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة، لطلبة علم النفس بالأساس، ويعطي زايد خلال هذا المساق الممتع مقدمة لتاريخ وجوانب النظرية الاجتماعية، مرورا بمؤسسيها، ثم موضوعات كالثقافة والنسق الاجتماعي، ثم ينطلق بعد ذلك السلوك الاجتماعي والتمييز بينه وبين الفعل الاجتماعي، ثم محاضرة كاملة عن دراسات الأسرة، بعد ذلك ينتقل زايد إلى النظام السياسي، ثم الاقتصاد، وإدراك العلاقة التفاعلية بين الاقتصاد والمجتمع، وأخيرا يركز على التغير الاجتماعي.

 

للدكتور أحمد زايد العديد من الكتب بالطبع، لكن منها كتاب بسيط للغاية يقدمه ضمن سلسلة "ما"، وهو "ما علم الاجتماع؟"، في أقل من ١٠٠صفحة يقدم تعريفا مبسطا لعلم الاجتماع مع إشارة إلى مجالات عمله وروّاده، الكتاب أشبه بمحاضرة مبسطة للمبتدئين من الصفر في علم الاجتماع، والسلسلة من الأساس -والتي تصدر عن الهيئة العامة للكتاب- تُعنى بتقديم فكرة رئيسية وبسيطة عن مختلف المجالات المعرفية (ما التاريخ؟، ما الموسيقى؟، ما الفلسفة؟، ما الشعر؟ إلخ).

 

أما المساق الآخر فهو لا يختلف كثيرا عن سابقه، وإن بدا أكثر تخصصا، وهو للدكتورة حنان محمد، والتي تبدأ بثلاث محاضرات عن نشأة وتاريخ علم الاجتماع، وأربع أخرى عن الموضوعات الأساسية في هذا العلم، كالثقافة والنسق الاجتماعي وغيرها من الموضوعات، أسلوب محمد بسيط ويمكن لك فهمه بسهولة، لكن زايد أكثر سهولة، كما أنه من حين لآخر يستخدم القلم لربط بعض النقاط ببعضها البعض ويضع في كل محاضرة مقدمة ممتعة.

 

 

حسنا، للوهلة الأولى يبدو علم الاجتماع كيانا نظريا مملا وباردا إلى أقصى درجة، لكن ما إن تنخرط به قليلا حتّى تتأكد من أن ذلك كله كان بسبب صورة نمطية غير صحيحة تجتاح مجتمعاتنا عن هذا المجال، فبجانب تاريخ الأفكار الخصب والذي سيؤثر حتما على رؤيتك للحياة بصورة كلية، ما الذي سيكون أمتع من دراسة وفهم المجتمع والناس وتفاعلهم مع بعضهم بعضا؟ لوهلة سيظهر أن الاجتماع يناقش كل شيء تعرفه تقريبا، علاقتك بعائلتك، بالنقود في جيبك، بما تختاره من ملابس هذا الشتاء، بالطعام في ثلاجتك، برئيس الدولة، بهؤلاء الذين يشبهونك والذين لا يفعلون، كيف تتكون المجتمعات؟ لماذا نقسم أنفسنا إلى مجموعات؟ من أنت؟ وما موقعك في هذا العالم؟ السوسيولوجيا ممتعة!