شعار قسم ميدان

أنت المستفيد الأول من عطائك للآخرين في رمضان

خلال شهر رمضان المبارك، تزداد رغبتنا في مساعدة الغير، سواء من خلال تقديم المساعدات المادية أو العينية. هذا العطاء هو قيمة دينية وروحية وله جزاء أخروي عظيم، لكن المفاجأة أنه قادر أيضا على تحقيق العديد من الفوائد النفسية للشخص المُعطي.

هذا ما يؤكده آدم غرانت، وهو محاضر وعالم نفس أميركي، ظل يبحث في السلوك البشري لسنوات عديدة واكتشف العديد من الجوانب المثيرة للاهتمام للتفاعلات البشرية. في كتابه "الأخذ والعطاء" (GIVE & TAKE)، الصادر عام 2013، تحدث غرانت عن ثلاث شخصيات في منظومة العطاء: المانح، والمُنتظِر، والآخذ.

وفقا لغرانت فإن الفائز الأكبر في هذه المعادلة هو المانح، الفرد الذي يستمتع بالعطاء، سواء كان عطاؤه هذا في صورة مال أو غير ذلك، الشخص الذي يعطي دون أن يُلقي بالا بما إذا كان سيحصل على أي شيء في المقابل أم لا، وهو في هذا على عكس المُنتظِر، الذي يتوقع وينتظر مُقابلا لعطائه ويحسب ما قدّمه وما سيحصل عليه. الشخص المانح، الذي رأى غرانت أنه سيكون الفائز الأكبر، لا يرغب في أي شيء سوى معرفة أن شخصا ما سيكون أفضل حالا بسبب ما فعله.(1)

دماغ معطاء

صاغ الباحثون مصطلح "تأثير الضحية التي يمكن تحديدها"، وهو يُشير إلى ميل الناس إلى إعطاء الأفضلية للضحايا المحددين مقابل المجهولين. (شترستوك)

في دراسة نُشرت عام 2013، قام باحثون بقيادة ألكسندر جينفسكي، طالب دراسات عليا في علم النفس بجامعة ستانفورد، بتصوير أدمغة 22 شابا. عُرض على المبحوثين إما صورة ظلية (بدون ملامح) عُرِّفت بأنها ليتيم ولاجئ في منطقة دارفور في السودان، وإما لقطة لوجه طفل أفريقي صغير (واضحة الملامح). قبل عرض هذه الصورة، مُنِحَ كل شخص من المبحوثين 15 دولارا للمشاركة في التجربة، وأُخبِر المبحوثون أن بإمكانهم الاحتفاظ بهذا المال أو التبرع به لصالح شراكة أقامها الباحثون مع دار أيتام سودانية. قُدِّمت كل صورة مع طلب تبرع محدد، يتراوح بين 1-12 دولارا.(2)

أوضحت النتائج أن المشاركين كانوا أكثر عُرضة للتبرع إذا رأوا وجها بدلا من صورة ظلية فارغة، بل إنهم قد تبرعوا بما يقرب من ضِعْف المبلغ الذي طُلب منهم في تجارب الصور. توصل الباحثون إلى أن قرار العطاء أو التبرع كان مرتبطا بشدة بمشاعر المبحوثين، إذ أظهروا نشاطا ضئيلا في "نواتهم المتكئة" (Accumbens septi nucleus)، وهي منطقة دماغية مسؤولة عن المكافآت بالدماغ البشري، وتنشط عند تعرض الشخص للتجارب الممتعة، أوضح الباحثون أن نشاط النواة المتكئة هو العامل الأساسي الذي يمكنه أن يفسر علميا زيادة التبرعات.

صاغ الباحثون مصطلح "تأثير الضحية التي يمكن تحديدها"، وهو مصطلح يُشير إلى ميل الناس إلى إعطاء الأفضلية للضحايا المحددين مقابل المجهولين، فالناس على استعداد لإنفاق المزيد من الموارد لإنقاذ حياة الضحايا المحددين مقارنة بإنقاذ الضحايا مجهولي الهوية، وهذا واضح في نطاقات واسعة، فمثلا سيميل الناس إلى التعاطف مع مشكلة مواطن واحد يحكي قصته من دولة بها حروب، لكن حينما تُعلَن إحصاءات المعارك وعدد القتلى فلا أحد يتعاطف، الناس يحتاجون إلى وجه وقصة.(3) حتى في الإعلانات، يُعتمَد جزئيا على هذا التأثير عند التماس التبرعات الخيرية من الناس.

تُشير الدلائل العلمية الجوهرية إلى أن ما يجعل الناس سعداء باستمرار هو التركيز بشكل إيجابي على الآخرين. (بيكسابي)

لكن هناك ملاحظة مهمة، خلال تجربة جينفسكي السابقة كان زيادة عطاء الناس عند رؤية الصور الفوتوغرافية مقابل الصور الظلية ناتجا عن مشاعر الإثارة الإيجابية الناتجة عن التصوير، وليس الاستثارة السلبية. بعبارة أخرى، كانت الإثارة وليس الشعور بالذنب هي المشاعر التي يشعر بها الشخص الذي يعطي مبلغا صغيرا لشخص آخر. في دراسة أخرى فحصت أكثر من 13000 طلب قرض صغير في العالم الحقيقي، سواء كان ناجحا وتمت الموافقة عليه أو غير ناجح، من شركة "Kiva" للقروض الصغيرة، وجد العلماء بعد التصوير العصبي لأدمغة المشاركين في الدراسة أن المشاعر الإيجابية، مثل الإثارة، بدلا من المشاعر السلبية، مثل الشعور بالذنب، هي التي تقود قرارات الإقراض. كان تفسير هذا الأمر يعود أيضا إلى رصد نشاط النواة المتكئة.(4) (5)

العطاء يُسعد المانح عندما يتعلق الأمر بالسعي وراء السعادة، فإن الثقافة الشعبية تشجع المرء على التركيز على نفسه. لكن على النقيض من ذلك، تُشير الدلائل العلمية الجوهرية إلى أن ما يجعل الناس سعداء باستمرار هو التركيز بشكل إيجابي على الآخرين. قامت دراسة نُشرت عام 2016 بمقارنة التأثيرات المعززة للمزاج الناتجة عن السلوك الاجتماعي الإيجابي من ناحية والسلوك الموجَّه نحو الذات من ناحية أخرى، في تجربة امتدت لنحو 6 أسابيع، أُجريت على عينة متنوعة من المشاركين بلغ عددهم 473 شخصا، وجد الباحثون أن السلوك الاجتماعي الإيجابي أدى إلى زيادة أكبر في الازدهار النفسي مقارنة بالتركيز على الذات. الأشخاص الذين تم تعيينهم للانخراط في سلوك يركز على الذات لم يبلغوا عن ازدهار نفسي مُحسّن أو مشاعر إيجابية.(6)

أوضحت النتائج أن أولئك الذين أنفقوا جزءا من مكافآتهم على الآخرين سجَّلوا مستوى أعلى من السعادة من أولئك الذين أنفقوها على أنفسهم. (شترستوك)

خلال دراسة أخرى، أجراها مايكل نورتون الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال عام 2008 وزملاؤه، توصل الباحثون إلى أن إعطاء المال لشخص آخر تمكّن من رفع مقدار سعادة المشاركين أكثر من إنفاق هذا المال على الذات، وذلك رغم توقع المشاركين أن الإنفاق على أنفسهم سيجعلهم أكثر سعادة. يقول نورتون: "تناولت الدراسة المفارقة التي تحدث عنها الاقتصاديون لفترة طويلة من الزمن، هذه المفارقة مفادها أن الزيادات في الدخل لا تؤدي إلى زيادة كبيرة في السعادة. يشتري الناس منازل أكبر وأكبر، لكن لا يبدو أنهم أصبحوا أكثر سعادة نتيجة لذلك".

خلال الدراسة قام الباحثون بسؤال 632 رجلا وامرأة أميركيين عن مقدار ما يكسبونه سنويا؛ كم ينفقون كل شهر على الفواتير والنفقات والهدايا لأنفسهم، وما ينفقونه شهريا على الهدايا للآخرين والتبرعات للجمعيات الخيرية، كما طلبوا منهم تقييم مستوى سعادتهم. أظهرت النتائج أن أولئك الذين أفادوا بإنفاق المزيد على الآخرين، وهو ما سمَّاه فريق البحث بالإنفاق "الإيجابي"، كانوا يتمتعون بمستوى أعلى من السعادة، بينما لم يكن للمبلغ الذي ينفقونه على أنفسهم أي تأثير على مقدار السعادة.

تتبع اختبار آخر كيفية إنفاق 16 موظفا لمكافأة تقاسم الأرباح في شركة مقرها بوسطن. قبل شهر من استلام المكافأة، التي بلغ متوسطها نحو 5000 دولار، طُلب من الموظفين تقييم مستوى سعادتهم. ثم بعد حصولهم على المكافأة، سُئلوا مرة أخرى عن مستوى سعادتهم، بالإضافة إلى سلسلة من الأسئلة حول كيفية إنفاقهم للمال. أوضحت النتائج أن أولئك الذين أنفقوا جزءا من مكافآتهم على الآخرين سجَّلوا مستوى أعلى من السعادة من أولئك الذين أنفقوها على أنفسهم، بينما كان المقدار الفعلي للمكافأة ليس له أي تأثير على سعادة الشخص. يقول نورتون: "مقدار المبلغ بالدولار لم يكن له أي تأثير على السعادة بمرور الوقت، فقد كان الناس سعداء بالقدر نفسه سواء تلقوا 3000 دولار أو 8000 دولار. كل الفارق في السعادة جاء من النسبة التي أنفقها الموظف على أشخاص آخرين".(7)

سحر التطوع

أظهرت النتائج أن المتطوعين لصالح الأعمال الخيرية وخدمة الغير كان لديهم معدل وفيات أقل بنسبة 63% من غير المتطوعين. (شترستوك)

حسنا، لا يقتصر العطاء على منح المال، فلربما يكون التطوع إحدى الصور الأكثر جاذبية للعطاء.(8) وقد حاولت دراسة أُجريت على السكان الأكبر سِنًّا في كاليفورنيا تقصي الرابط بين الخدمة التطوعية للآخرين والوفيات الناتجة عن جميع الأسباب (في محاولة لفهم العلاقة بين التطوع والحالة الصحية). تمت دراسة العوامل المُتداخلة المحتملة، مثل: التركيبة السكانية، والحالة الصحية، والأداء البدني، والعادات الصحية، والدعم الاجتماعي، والحالة الدينية، والحالة العاطفية. أظهرت النتائج أن المتطوعين لصالح الأعمال الخيرية وخدمة الغير كان لديهم معدل وفيات أقل بنسبة 63% من غير المتطوعين. فسرت الدراسة هذه العلاقة بين التطوع وانخفاض نسبة الوفيات بأنه في الغالب أمر عائد إلى الأداء البدني والعادات الصحية والدعم الاجتماعي، وهي أشياء يستطيع المتطوع الحصول عليها بمُجرد التطوع.(9)

يُعتقد أن البحث عن فوائد العطاء والعمل التطوعي فيما يتعلق بالصحة قد بدأ في عام 1980، وذلك من خلال دراسة قارنت بين المتطوعين وغير المتطوعين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما أو أكثر. وجد الباحثان كاثلين هانتر ومارجريت لين، من المركز الطبي لإدارة المحاربين القدامى في ميامي، أن المتطوعين كان لديهم مُعدل أعلى بشكل ملحوظ في الشعور بالرضا عن الحياة والرغبة في العيش، وكان لديهم أعراض أقل للاكتئاب والقلق.

بعد عشر سنوات من البحث السابق، اقترحت إليزابيث ميدلارسكي، أستاذة علم النفس والتعليم في كلية المعلمين في جامعة كولومبيا التي درست فعل الإيثار والعطاء لسنوات طويلة، بعض الأسباب التي قد تفسر لماذا قد يفيد السلوك الإيثاري كبار السن، كانت الأسباب التي سردتها إليزابيث هي قدرة العطاء على تحقيق عدة فوائد مثل: تعزيز التكامل الاجتماعي، الإلهاء عن المشكلات، إعطاء معنى للحياة، تحسين الحالة المزاجية، تقديم نمط حياة أكثر نشاطا بدنيا.

الأشخاص الطيبون

في كتابها "لماذا تحدث الأشياء الجيدة للأشخاص الطيبين؟" أفادت ستيفن بوست أن العطاء ثبت أنه يزيد الفوائد الصحية للأشخاص المصابين بأمراض مزمنة. (مواقع التواصل)

في سياق مشابه، أصدر الباحث نيل كراوس وزملاؤه في معهد علم الشيخوخة بجامعة ميشيغان دراسة حول الشيخوخة في عام 1999، لفحص العلاقة بين الدين والعطاء والصحة. في عينة من نحو 2000 شخص مُسن في اليابان، وجد الباحثون أن أولئك الذين قدموا المزيد من المساعدة للآخرين كانت لديهم فرصة في التمتُّع بصحة جسدية أفضل.(10)

في كتابها "لماذا تحدث الأشياء الجيدة للأشخاص الطيبين؟" أفادت ستيفن بوست، أستاذة الطب الوقائي في جامعة ستوني بروك، أن العطاء ثبت أنه يزيد الفوائد الصحية للأشخاص المصابين بأمراض مزمنة، بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية والتصلب المتعدد. تضمّن الكتاب أيضا الإشارة إلى دراسة مدتها خمسون عاما، أظهرت أن الأشخاص الذين يبدأون تعلم أهمية العطاء للآخرين والقيام به خلال سنوات الدراسة الثانوية يتمتعون بصحة بدنية وعقلية أفضل طوال حياتهم.(11)

يقترح الباحثون أن أحد أسباب قدرة العطاء على تحسين الصحة البدنية يتمثل في أنه يساعد على تقليل التوتر، الذي يرتبط بدوره بمجموعة متنوعة من المشكلات الصحية. في دراسة أجرتها راشيل بيفيري من جامعة جونز هوبكنز وكاثلين لولر من جامعة تينيسي، عام 2006، كان لدى الأشخاص الذين قدّموا الدعم الاجتماعي للآخرين ضغط دم أقل من المشاركين الذين لم يفعلوا ذلك، مما يشير إلى فائدة فسيولوجية مباشرة لأولئك الذين يُقدِّمون المساعدات للآخرين. كشفت التحليلات الارتباطية التي أُجريت خلال الدراسة السابقة ذاتها أن المشاركين الذين لديهم ميل أعلى لتقديم الدعم الاجتماعي أفادوا بشعورهم بدعم اجتماعي أكبر، وشعور أعلى بالكفاءة الذاتية، واعتداد أكبر بالنفس، واكتئاب أقل، وتوتر أقل من المشاركين الذين لديهم ميل أقل لتقديم الدعم الاجتماعي للآخرين.(12)

في إطار التحقق من قدرة العطاء على تحقيق فوائد مُرتبطة بالصحة العقلية، حاولت دراسة أخرى نُشرت في مجلة الصحة والسلوك الاجتماعي عام 2005 تكوين معرفة أكثر دقة حول العلاقة بين التطوع والاكتئاب. سعت الدراسة إلى الإجابة عن بعض الأسئلة، التي كان منها: هل يُقلل التطوع من أعراض الاكتئاب بين كبار السن؟ هل يؤثر الاكتئاب على تطوع كبار السن؟ كشفت نتائج الدراسة عن وجود تأثير مفيد للعمل التطوعي الرسمي في علاج الاكتئاب. كما ثبت، من خلال الدراسة ذاتها، أن الاكتئاب مرتبط بزيادة لاحقة في نسب التطوع، وهو ما يُشير إلى التطوع بوصفه وسيلة "للتعويض" ومحاولة للتغلب على الاكتئاب.(13)

___________________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة