شعار قسم ميدان

البحث عن التميُّز.. لماذا يحمل أبناء جيل الألفية أسماء نادرة وفريدة؟

(مواقع التواصل الاجتماعي)

لطالما كانت مسألة اختيار أسماء الأطفال أمرا مرتبطا بالثقافة والمجتمع، حيث غالبا ما يشير الاسم إلى معنى ما في حياة مَن يحمله، ربما بلده أو مدى تدين أسرته أو حتى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ولكن مع الوقت تغيرت طريقتنا في اختيار أسماء أطفالنا، وصولا إلى أبناء جيل الألفية الذين يتفنون في إطلاق أسماء مميزة وفريدة على أطفالهم، فما السبب في هذا التحوُّل؟ وما الذي يعنيه الاسم المميز لحياة الطفل وتأثيره في المجتمع؟

ثلاثة أسماء

تاريخيا، اشتهر كل بلد بأسمائه الخاصة واسعة الانتشار بين صفوف أبنائه. على سبيل المثال، وفق الإحصائيات التي جمعها الخبير الاقتصادي دوغلاس غالبي، فبحلول أواخر القرن الثامن عشر، كان أكثر من نصف الأولاد في بريطانيا يحملون أحد الأسماء الثلاثة: ويليام، أو جون، أو توماس، وكان أكثر من نصف الفتيات يحملن بدورهن أحد الأسماء الثلاثة: إليزابيث، أو ماري، أو آن، هكذا ببساطة. (1)

يرصد عالم الاجتماع الأميركي ستانلي ليبرسون في كتابه "مسألة الذوق: كيف تغيرت الأسماء والأزياء والثقافة" التغير في طريقة اختيار الأسماء مع بداية الثورة الصناعية، إذ قلَّ تأثير الأسرة الممتدة والمكانة التي حظي بها كبار السن، فصارت أسماؤهم أقل جاذبية للأبناء، وظهرت في العقود التالية أسماء مختلفة. يشير ليبرسون كذلك إلى تنامي عدد مَن صار بإمكانهم القراءة والكتابة ممن اطلعوا على عدد كبير من الأسماء يمكن تسميتها. مثلا، كان لدى تشارلز ديكنز وحده في أعماله ألف اسم مبتكر، كما يوضح ليبرسون، وكانت تلك الأسماء طريقة الآباء في التعبير عن ثقافتهم. (2)

يرصد عالم الاجتماع الأميركي ستانلي ليبرسون في كتابه "مسألة الذوق: كيف تغيرت الأسماء والأزياء والثقافة" التغير في طريقة اختيار الأسماء مع بداية الثورة الصناعية. (مواقع التواصل)

بحلول زماننا المعاصر، كانت خارطة الأسماء التقليدية قد تغيرت كليا. في ورقة بحثية نشرتها مجلة "سوشيال سايكولوجيكال آند برسوناليتي ساينس" (Social Psychological and Personality Science) عام 2010، ظهر أن استخدام الأسماء الشائعة في الولايات المتحدة انخفض بشكل حاد منذ عقد الخمسينيات حتى عام 2007، في خمسينيات القرن الماضي كان 25% من الأطفال يحملون واحدا من أكثر عشرة أسماء انتشارا، وبحلول عام 2007 كان 10% فقط هم مَن يحملون اسما منتشرا. (3)

بعد سنوات، وفي دراسة نشرتها مجلة "جورنال أوف أبلايد سوشيال سايكولوجي" (journal of applied social psychology) عام 2016، قام الباحثون بتحليل الأسماء الأولى لملايين الأطفال في قاعدة بيانات إدارة الضمان الاجتماعي الأميركية، ليتبين لهم أن الآباء بالفعل يبتعدون عن اختيار الأسماء الشائعة بشكل متزايد.

تُظهِر الأرقام بوضوح كيف تغيرت خارطة الأسماء عبر الزمن. بين عامي 2004-2006، كان لدى 66% من الأولاد و76% من الفتيات أسماء مختلفة عن أكثر 50 اسما شيوعا في تلك الفترة الزمنية، وبين عامي 2011-2015 تغيرت النسبة بوضوح، حيث كان لدى 72% من الأولاد و79% من الفتيات أسماء لم تكن ضمن قائمة الخمسين اسما الأكثر شهرة. (4)

في الدول العربية تتعدد الأسماء الفريدة التي لم يسبق إطلاقها على الأطفال، وحتى مع وجود الرغبة في إطلاق أسماء تحمل معنى دينيا مثلا يبحث الآباء عن اسم مميز ضمن هذا الإطار (شترستوك)

في اليابان أيضا أشارت دراسة نشرتها مجلة "كارنت ريسيرش إن بيهافيور ساينس" (Current Research in Behavioral Sciences) عام 2021، وأُجريت على 8 آلاف طفل، إلى تزايد الأسماء الفريدة التي لا تتردد كثيرا وتنتشر فقط بمقدار واحد لكل ألف طفل، في اللغة اليابانية تحديدا يسهل تحقيق هذا التميز، إذ يمكن قراءة الحروف بأشكال متعددة وبالتالي يكون للاسم الواحد قراءات مختلفة تجعله فريدا.(5)

يظهر النمط نفسه في معظم دول العالم تقريبا، في الدول العربية على سبيل المثال تتعدد الأسماء الفريدة التي لم يسبق إطلاقها على الأطفال، وحتى مع وجود الرغبة في إطلاق أسماء تحمل معنى دينيا مثلا يبحث الآباء عن اسم مميز ضمن هذا الإطار، فظهرت أسماء جديدة مثل "أجاويد" و"مكة" و"رتيل" و"ميان".

أبناء الجيل المميز

يوضح ليبرسون كيف تتغير تفضيلات الأجيال في مسألة الأسماء، ويشير إلى أن اختيار الأسماء تغير منذ القرن التاسع عشر من ارتباطه بالعادة -التسمية على اسم الجد مثلا- إلى مسألة ذوق تنعكس فيها الثقافة، حيث حرص الكثير من الآباء على اختيار أسماء تبدو مألوفة في الثقافات المختلفة مع تنقل كثيرين منهم في بلدان متعددة. (6)تعزو دراسة "جورنال أوف أبلايد سوشيال سايكولوجي" السابق الإشارة إليها هذا التغيير في اختيار الأسماء إلى النزعة الفردية التي يُعَدُّ الركود الاقتصادي أحد أسبابها، فمع تزايد ثقافة الفردانية في مجتمعاتنا يركز أغلب جيل الألفية على الذات، فقد سمع هؤلاء أكثر من غيرهم نصائح من قبيل: "كن مختلفا"، و"أحبب نفسك أولا". (7)

تلعب الثروة دورها في اختيار الأسم، حيث يرتبط اختيار أسماء مميزة وفريدة بمقدار الثروة، يريد الأثرياء أن يكون أطفالهم مميزين. (شترستوك)

هذه النتائج ذاتها تؤكدها دراسة نشرتها مجلة "بلوس وان" (PLoS One) عام 2018، خلصت إلى أن الأسماء المميزة تنتشر بشكل أسرع بسبب زيادة القدرة على الوصول إلى وسائل الإعلام والتواصل، وزيادة معدلات الهجرة، أشار الباحثون كذلك إلى أن التقاليد المتغيرة والتعددية الثقافية والسعي المستمر للفردانية لعبت دورا كبيرا في تلك الرغبة في الحصول على اسم مميز، جيل الألفية تحديدا تلقى كثيرا من الرسائل التي تؤكد له تميزه، وانتقل هذا الشعور بالرغبة في التميز إلى أسماء أطفالهم.(8)

تلعب الثروة دورها أيضا، حيث يرتبط اختيار أسماء مميزة وفريدة بمقدار الثروة، يريد الأثرياء أن يكون أطفالهم مميزين، قبل 500 عام كان بالإمكان ملاحظة كيف تتحرك الأسماء عبر الطبقات الاجتماعية من الطبقات الأعلى إلى الطبقات الأدنى. كان الآباء الأكثر فقرا يودون منح أطفالهم فرصا أفضل للنجاح في الحياة من خلال إطلاق أسماء شائعة بين الأثرياء، وهي ظاهرة لا تزال حاضرة إلى اليوم.

يحكي نيل بورديس مؤلف كتاب "مرحبا اسمي.. القصة الرائعة للأسماء الشخصية" كيف تأخذ الأسماء طريقها على هذا النحو في عدة دول، حتى يبدو وكأن التعرف على الأسماء التي ستصبح أكثر شهرة بين أطفال الجيل القادم -في الولايات المتحدة- ممكن عبر مطالعة إعلانات الميلاد في صحيفة التايمز. (9)

غير أن الأسباب ذاتها التي أدت إلى انتشار الأسماء الفريدة والمميزة بين الأطفال؛ الرغبة في التفرد والتواصل غير المسبوق بين الدول، تجعل الأسماء شائعة بشكل أسرع، ويصبح اختيار اسم مميز للطفل أصعب، وبينما يحرص جيل الألفية على اختيار اسم مميز والابتعاد عن اختيار أسماء تقليدية لأطفالهم، يواجه الأطفال في الغالب سؤالا آخر: ماذا يعني الاسم؟ أو كيف يُنطق؟ (10)

كيف يؤثر الاسم في الهوية؟

وفق تأكيدات عالم النفس جوردون أولبورت، فإن الاسم هو أهم ما يدعم هويتنا طوال حياتنا، ما تكشفه أسماؤنا من انتماء قد يتسبب في تعرضنا للتحيز الاجتماعي. (شترستوك)

تنبع تلك الرغبة في إطلاق اسم مميز على أطفالك بالتأكيد من مشاعر الحب والعناية، والرغبة في الإبقاء على هذا التميز الذي شعر جيل الألفية أنه يحظى به، الأسماء الفريدة تترك انطباعا قويا ويمكن للآخرين تذكرها بسهولة، ما لم تكن صعبة، ومن بين الكثير من العوامل التي تؤثر في مستقبلنا، مثل العوامل الوراثية والتجارب والمجتمع المحيط، تلعب الأسماء دورا كبيرا يصحبنا منذ الولادة.(11)

وفق تأكيدات عالم النفس جوردون أولبورت، أحد مؤسسي علم نفس الشخصية، فإن الاسم هو أهم ما يدعم هويتنا طوال حياتنا، ما تكشفه أسماؤنا من انتماء إلى عِرق أو دين أو ثقافة قد يتسبب في تعرضنا للتحيز الاجتماعي، هذا ما حدث للكثيرين ممن يحملون أسماء عربية مثلا في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، وحتى في إطار الثقافة الواحدة، تحمل الأسماء دلالات قد تبدو إيجابية أحيانا وسلبية في أحيان أخرى، ويتغير الأمر باستمرار وفق ما هو شائع.

بعبارة أوضح، تؤثر الأسماء في معاملة الآخرين لنا، كشفت دراسة ألمانية نشرتها مجلة "سوشيال سايكولوجيكال آند برسوناليتي ساينس" (Social Psychological and Personality Science) عام 2011 أن مستخدمي مواقع المواعدة كانوا أكثر ميلا لرفض الأشخاص الذين بدت أسماؤهم "قديمة" بالمقارنة بهؤلاء الذي حملوا أسماء أكثر حداثة. (12)

يمتد هذا التأثير ليصل إلى تقدير الذات أيضا، الأشخاص الذين لا يحبون أسماءهم يجدون صعوبة في التكيف، تشير الدراسة نفسها إلى أن هؤلاء الذين أثارت أسماؤهم ردود فعل سلبية عانوا من تأثير الأمر نفسه على مدار حياتهم، وهو ما انعكس على تقديرهم لذواتهم، وأيضا على معدلات إنجازهم في التعليم والعمل.

في السياق ذاته، تشير دراسة نشرتها مجلة "جورنال أوف إكسبريمنتال سايكولوجي" (Journal of Experimental Psychology) عام 2019 إلى مزايا يحققها فقط التدفق الصوتي للاسم، فالأسماء التي تتدفق بانسياب مثل مارلا تحقق قبولا بين الناس أكثر من الأسماء التي لا تتمتع بالتدفق نفسه مثل اسم "إريك"، نتحدث هنا عن انطباع مبدئي بالطبع.(13)

في النهاية، يقدم الاسم المميز لصاحبه إحساسا متفردا بالتميز، ما يحثه على إيجاد مسار مختلف ومميز أيضا في حياته العملية والمهنية، تشير دراسة لباحثين بمعهد بكين لعلم النفس إلى أن الاسم الأكثر ندرة كان مرتبطا بزيادة احتمالات الحصول على مهنة مميزة. وفي وقت مبكر من حياتهم يستمد الأطفال هذا الشعور بالهوية الفريدة من أسمائهم، ومن هنا يسعون لتأكيدها عبر اختيار مسار مميز أيضا. (14)

__________________________________________________

المصادر

  1. Why uncommon baby names are surging
  2. Children’s names: Why rich parents set the trend, not celebrities
  3. Unfortunate First Names: Effects of Name-Based Relational Devaluation and Interpersonal Neglect
  4. Millennials Are Giving Their Babies Increasingly Strange Names
  5. Direct evidence of the increase in unique names in Japan: The rise of individualism
  6. Baby names: why we all choose the same ones
  7. Millennials Are Giving Their Babies Increasingly Strange Names
  8. Baby-naming trends reveal ongoing quest for individuality
  9. Children’s names: Why rich parents set the trend, not celebrities
  10. Why Parents Insist on Giving Their Babies Unusual Names
  11. Are common names becoming less common? The rise in uniqueness and individualism in Japan
  12. Unfortunate First Names: Effects of Name-Based Relational Devaluation and Interpersonal Neglect
  13. Does the Name Say It All? Investigating Phoneme-Personality Sound Symbolism in First Names
  14. Name Uniqueness Predicts Career Choice and Career Achievement
المصدر : الجزيرة