أنا أخزن أشيائي القديمة القيمة ولا أندم على ذلك

منح أغراضك القديمة التي لم تعد تحتاج إليها لمَن يعوزها فعلا سيجلب لك السعادة الأكبر بين كل ما سبق.
يميل بعض الناس إلى الاحتفاظ بالأشياء غير القيمة أو المفيدة، ثم بعد ذلك يجدون صعوبة كبيرة في التفريط فيها، لأنهم يعتقدون أنهم سيحتاجون إليها في المستقبل، أو لأنها كانت قيمة في الماضي. (شترستوك)

"دخلت إلى المكتب في موعدها المحدد سلفا وهي تحمل كيسا كبيرا يحوي المئات من أغطية الزجاجات، ثم قالت: لا تندهش، أعتقد أنهم في منتهى الجمال!".

كانت تلك الحكاية الغريبة هي ما بدأ به راندي فروست، بروفيسور طب النفس في معهد سميث بولاية ماساتشوستس الأميركية، حواره مع "جمعية علم النفس الأميركية" (American Psychological Association) منذ عامين، وكانت هذه قصة أحدث المرضى الذين أتوا لعيادته وقتها. (1)

 

بدلا من أن تستمع السيدة لنصائحه للتخلص من كيس الأغطية العملاق، أخذت تحدثه عن روعة ألوانها الزاهية، وملمسها المحبب لأصابعها، والإحساس الذي ينتابها عندما تسمع طرقعة أحدها أثناء فتح الزجاجة، لتقنعه بأن تلك الأغطية في منتهى الجمال فعلا، وأنها جديرة بالحفظ بدلا من إلقائها في أقرب سلة قمامة.

 

غطاء ذو وجهين

ما لفت انتباه فروست منذ اللحظة الأولى كان أن هذه السيدة قررت أن تأتي بشيء من خزينها للعيادة، وهو سلوك غريب على مرضاه. في العادة، يأتي الناس لعيادته ليقنعهم بالتخلص من "الكراكيب" التي تملأ منازلهم، وتعوق الحركة بين غرفه، وتحجز الكثير من المساحة بلا فائدة حقيقية، وعادة ما تتراكم تلك "الكراكيب" لدرجة أنهم ينسون ما بداخلها، أو سبب احتفاظهم بها، لكن هذه السيدة كانت مختلفة عن أغلبهم.

 

قبل أن تأتي بطلة هذه الحكاية لعيادة دكتور فروست بنحو 7 سنوات، كان الأطباء النفسيون قد حققوا قفزة واسعة في دراسة تلك الظاهرة، وفي 2013، نشر "الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات الذهنية" (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders) أول إشارات لتشخيصها بوصفها اضطرابا ذهنيا مستقلا (2) (3)، بعد أن كان أغلب الأطباء النفسيين يعاملون الهوس بـ"الكراكيب" على أنه اضطراب مشتق من الوسواس القهري (Obsessive-Compulsive Disorder)، الذي يُشار إليه اختصارا بـ"O-CD".

إعلان

 

يطلقون عليه اسم "Hoarding Disorder" أو "HD"، ولا توجد لفظة عربية تقابله بالمعنى ذاته، ولكن يمكننا ترجمته إلى اضطراب التخزين، والمقصود به هو ميلنا إلى الاحتفاظ بالأشياء غير القيمة أو المفيدة، أو إلى شرائها ثم إيجاد صعوبة كبيرة في التفريط فيها، لأننا نعتقد أننا سنحتاج إليها في المستقبل، أو لأنها كانت قيمة في الماضي، أو السبب الأكثر شيوعا؛ لأنها تحمل قيمة عاطفية ما بالنسبة إلينا.

هذا يختلف جذريا عن الوسواس القهري في حقيقة أن مرضى اضطراب التخزين لا يعانون من الأعراض ذاتها، ولا تنتابهم أفكار دخيلة متطفلة بشكل متكرر تُقلقهم وتُشعرهم بالأرق مثل مرضى الوسواس القهري، وإن اشتركوا معهم في كونهم أكثر عُرضة للإصابة بالاكتئاب من غيرهم. (4)

 

مريضة دكتور فروست كانت تحتفظ بأغطية الزجاجات لأنها كانت تُذكِّرها بالمناسبات التي فُتحت فيها هذه الزجاجات، وأغلبها يرتبط في ذهنها بلحظات قضتها مع العائلة، أو أعياد ميلاد، أو حفلات شواء في حديقتها الخلفية، ولذلك هي تحمل قيمة عاطفية كبيرة تستحضر أحاسيس الصحبة والأنس والدفء الاجتماعي، وبالتبعية تجد صعوبة كبيرة في التخلص منها، حتى لو كانت بلا نفع حقيقي لها الآن، وتستهلك مساحة ضخمة من خزانتها.

 

نحن.. وهُم

بعد جلسة قصيرة وبضعة أسئلة، اكتشف دكتور فروست أن هذه السيدة لا تعاني من اضطراب التخزين، بل اختلط عليها الأمر في الحقيقة، وهو خلط شائع، كثيرا ما يقع فيه غير المختصين، بين "مضطربي التخزين" (Hoarders) و"هواة الجمع" (Collectors).

إعلان

 

الدكتورة سوزان ديغيس-وايت، بروفيسورة الطب النفسي بجامعة شمال إلينوي، تعتقد أن التفرقة بين المجموعتين سهلة؛ فالجامعون مجموعة ديناميكية، أي إن ما يفعلونه مخطط وتسبقه نية ومقصد واضح، وفي كثير من الأحيان يسبقه أيضا عمل كبير لإكمال المجموعة والعثور على القطع الناقصة، بينما المُخزنون أقرب إلى مجموعة "ستاتيكية" خاملة، تخشى التغيير، ويقودها الخوف من التفريط، وتُظهر عادات سيئة في الأغلب، كالتسويف الدائم على سبيل المثال. (5) (6)

 

الفارق الثاني المهم أن الجمع يتطلب التنظيم بالبديهة، فجامع العملات المعدنية أو الطوابع مثلا يحتفظ بها في صندوق واحد، وغالبا ما يحتوي هذا الصندوق على تصنيفات مختلفة مُقسمة ومُفهرسة، ليسهل عليه العودة إليها وفرزها لاحقا، وهو عكس ما يفعله المُخزنون بالضبط، إذ إن أحد أسباب عجزهم عن التخلص من "الكراكيب" يأتي من عجزهم عن تصنيفها ابتداء.

 

هذه هي النصيحة الأولى التي تقدمها ماري كوندو، "خبيرة الترتيب" العالمية. لا تندهش، هذه وظيفة حقيقية جَنَت منها كوندو الملايين عبر السنوات، لأنها قدمت نصائح للناس في كيفية التخلص من "الكراكيب"، ليس فقط لأنها زائدة عن حاجتهم، بل لأن مظهرها يبعث على الكآبة والإحباط، وهو السبب الأهم في سياق الطب النفسي. (7)

بعد إطلاق كتابها الأول، "سحر الترتيب: فن التنظيم الياباني" (The Life-Changing Magic of Tidying Up: The Japanese Art of Decluttering and Organizing)، وتحوُّله إلى الكتاب الأكثر مبيعا عبر العالم، انطلقت اليابانية الشابة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبعد ذيوع صيتها، وانتشار أسلوبها المسمى "طريقة كون-ماري" (The Kon-Mari Method) بين الأميركيين، كان الأثر الذي أحدثته في حياتهم لا يُصدَّق. (8) (9)

 

صَنِّف!

من المدهش كيف تحوَّل الكتاب الذي يحوي مجموعة من النصائح البديهية في أغلبها إلى "أحد أكثر الكتب تأثيرا في القرن الحادي والعشرين" طبقا لوصف شبكة "سي إن إن" الأميركية، لا لسبب إلا حقيقة أن الناس طالما اعتقدوا أن الترتيب والتنظيم هي مهارات بديهية لا تحتاج إلى دراسة أو تعلم، ولأن أعظم التغيرات في حياة الإنسان كثيرا ما تأتي من مراجعة البديهيات. (10)

إعلان

 

أولى تلك النصائح اقتبستها كوندو من قاموس الجامعين للمفارقة، وهي أنك إذا أردت أن تعلم كم الأغراض الزائدة عن الحاجة لديك، فعليك أولا بتصنيفها في مجموعات متشابهة، مثلما يفعل الجامعون بالضبط. (11) (12)

 

فلنفترض مثلا أن بيتك، مثل أغلب البيوت العربية، يحتوي على عدة حقائب أو صناديق قديمة بها أغراض من كل نوع؛ جهاز تسجيل قديم، وتلفاز معطوب، وأول جوال اشتريته، وأثقال كنت تستخدمها في التدريب منذ 10 سنوات، وبضعة جوارب ضاعت أزواجها وكنت تأمل في العثور عليها يوما.

 

الخطوة الأولى هنا ستكون أن تضع المتشابهات معا، وعندها ستدرك أنك لا تملك جهاز تسجيل آخر، وغالبا ستقرر التخلص منه، ثم ستحاول إصلاح التلفاز المعطوب، فإن عمل كان بها، وإن لم يفعل تخلصت منه بدوره، وجمع الجوارب معا سيضعك أمام اختيار من اثنين؛ إما أن تدرك أن ما تملكه يكفي، وبالتالي تتخلص منها، وإما أن تذكرك بأنك تحتاج إلى ابتياع المزيد منها لتعوِّض ما ضاع، وفي تلك الحالة ستتخلص منها أيضا.

حسنا، الإنترنت مليء بالقصص والتعليقات السعيدة لناس لم يدركوا أنهم يمتلكون المزيد من شيء ما حتى جمعوا كل قطعة في مكان واحد، وبالمقارنة أدركوا أن ما يحتاجون إليه منه أقل بكثير مما يملكونه.

 

النتيجة كانت أنه في العام الذي ضرب فيه كتاب كوندو السوق الأميركي -2015- وتحول للكتاب الأكثر مبيعا من مؤسسة "نيويورك تايمز" للنشر، شهد متجر "بوشمارك" (Poshmark) للملابس المستعملة، الذي يمتلك فروعا في أنحاء الولايات المتحدة وتزيد عوائده السنوية على 300 مليون دولار، زيادة قدرها 60% في مخزونه من الملابس المستعملة، تلك التي اكتشف الناس أنهم لا يحتاجون إليها بعد تجربة "طريقة كون-ماري". (13) (14)

 

انسف حمامك القديم

بالطبع كان علاج ظاهرة "الكراكيب" في الولايات المتحدة أسهل بكثير منه في حالتنا، فهذه الظاهرة التي أُنشئت لها مراكز بحثية وأصدرت لها أوراقا علمية وتجارب طويلة لم تكن تصيب إلا 2-6% من السكان، ومع الوقت، اتضح أن كل ما كان يحتاج إليه الناس هو القليل من التشجيع، وفتاة آتية من بلد مهووس بالنظام، ويحمل إرثا تاريخيا يجعلها محلا للثقة. (1) (2)

إعلان

 

في الحقيقة، فإن أغلب نصائح كوندو هي مزيج من التفكير المنطقي البسيط ومواجهة الحقائق، لأن هذا الاضطراب، بالأساس، ليس نتيجة حالة صحية أو مرض عقلي محدد، بل هو أقرب لحالة عاطفية من الكسل والخوف والعجز عن التغيير، يولد ميلا للاختيار الآمن وإبقاء الوضع على ما هو عليه، بلا إدراك أن الاحتفاظ بما يزيد على حاجتنا يثقلنا، ويعقد حياتنا، ويعكر صفو أذهاننا.

 

كوندو مثلا تنصح عملاءها بالتخلص من علب الهواتف الجوالة، لأنهم -فعليا- لا يحتاجون منها سوى وثيقة التأمين. كذلك الأسلاك الكهربية التي لا تعلم وظيفتها، وأوراق المؤتمرات التي لم تستفد منها، وإيصالات ماكينات النقود، وصناديق الأجهزة الكهربائية، وغيرها من الأغراض التي يُهيَّأ لنا أننا سنحتاج إليها يوما ما، ولكنها تتراكم ويصعب فرزها مع الوقت، لدرجة أننا لا نتذكرها أبدا، حتى حينما نحتاج إليها فعلا.

متى كانت آخر مرة احتجت فيها إلى كتبك المدرسية القديمة؟ وحتى لو احتجت إليها، فهل ستتذكر أين خزنتها؟ هل قرأت كل الكتب في مكتبتك؟ وإن كنت قد قرأتها، فكم كتابا منها أعجبك فعلا وقد تعود إليه يوما؟ كم مرة قررت الاحتفاظ بقميص قديم لم يعد يناسبك لأنك تنوي إنقاص وزنك ثم نسيت القصة برمتها؟ لماذا تحتفظ بـ 284374365 أسطوانة مضغوطة تحمل ألعابا أو أفلاما أصبحت متاحة مجانا على الإنترنت؟ هل احتاج أحد ضيوفك إلى البطاطين التسعة الإضافية التي تخزنها أسفل السرير؟

 

هذا هو العنصر الخفي الذي يفاقم مشكلة "الكراكيب" طوال الوقت؛ حقيقة أن الاحتفاظ بكل هذه الأغراض يجعل تذكر أماكنها مستحيلا، ويتطلب الكثير من الجهد حتى لو كانت منظمة، وبالتالي حتى لو كانت ذات نفع في لحظة ما، فعلى الأغلب ستنسى أنك تمتلكها أصلا، وستظل تلتهم المساحة في بيتك وتصيبك بالإحباط كلما رأيتها، لأنها تُذكرك بكم العمل الذي تحتاج إليه للتخلص منها.

إعلان

 

يمكننا أن نخبرك الكثير من القصص لأناس قرروا أن يعالجوا "كراكيب" منازلهم، وبعد الانتهاء من الأمر، لم يصدقوا كم الراحة النفسية التي انتابتهم، وكم الفراغات التي اتسعت في المنزل، وكم الخزانات التي أصبحت فارغة ولم يعد لها حاجة من الأصل، وإن لم يكن ذلك كافيا فسننصحك بأن تذهب لمشاهدة مقاطع "طريقة كون-ماري"، ونضمن لك أنها ستُشعرك بالرغبة في ترتيب حياتك كلها وليس درج ملابسك فقط، ولكن قبلها سنُذكرك أن منح أغراضك القديمة التي لم تعد تحتاج إليها لمَن يعوزها فعلا سيجلب لك السعادة الأكبر بين كل ما سبق.

——————————————————————————–

المصادر:

1- علاج المصابين باضطراب التخزين – American Psychological Association

2- ما اضطراب التخزين؟ – American Psychiatric Association

3- اضطراب التخزين؛ أكثر من مجرد مشكلة ممتلكات زائدة عن الحاجة – NCBI

4- التخزين وعسر المزاج والاكتئاب؛ الثلاثي المرهق! – Psychology Today

5- 6 مؤشرات خطيرة على اضطراب التخزين – Psychology Today

6- دكتور سوزان ديغيس-وايت – Psychology Today

7- الترتيب مع ماري كوندو أمر ممتع! – The Atlantic

8- كتاب ماري كوندو: سحر الترتيب؛ فن التنظيم الياباني – Amazon

9- سلسلة فن الترتيب مع ماري كوندو – Netflix

10- شرح فانتازيا المنزل المرتب من ماري كوندو – Vox

11- بعد معاناة مع فوضى الأغراض الزائدة.. هكذا نجحت في ترتيب بيتي – Arabi Post

12- لمنزل مليء بالطاقة الإيجابية.. تخلصي من الفوضى والكراكيب – الجزيرة

13- طريقة "كون-ماري" تنعش سوق متاجر الملابس المستعملة – Fashionista

14- بوشمارك – Craft

المصدر : الجزيرة

إعلان