ميدان يحاور استشاريا في الطب النفسي.. كيف نتعامل مع وفاة من نحب ونقدر؟

HATAY, TURKEY - FEBRUARY 11: A man waits for news of their loved ones, believed to be trapped under collapsed building on February 11, 2023 in Hatay, Turkey. A 7.8-magnitude earthquake hit near Gaziantep, Turkey, in the early hours of Monday, followed by another 7.5-magnitude tremor just after midday. The quakes caused widespread destruction in southern Turkey and northern Syria and were felt in nearby countries. (Photo by Burak Kara/Getty Images)
(غيتي)

لا شك أن فقدان أحد الأحبة هو حدث قاس يكاد يتوقف عنده العالم، إلا أن ما يزيد من قسوة الموت في عصرنا الحاضر هو أننا لم نعد نتعامل فقط مع فقدان المحبين المقربين منا من الرفاق والصحب والأحبة، وإنما بتنا مضطرين للتعامل مع تداعيات الموت الذي نراه كل يوم، في التلفاز وعلى شاشات الهاتف، وفقدان أناس نقدّرهم ونبجل القضايا التي ماتوا من أجلها حتى لو لم نلتقِ بهم، أو حتى أشخاص لا نعرف لكننا نتألم لمعاناتهم.

 

تضعنا أحداث كتلك أمام الكثير من الأسئلة حول الموت وفقدان الأحبة، لذا توجهنا في ميدان بحثا عن بعض الإجابات علّنا نساعد بعضنا على مواجهة تجربة الموت، فطرحنا على الدكتور "حسن ناصر"، استشاري الطب النفسي من جامعة سانت أندروز البريطانية وعضو الجمعية البريطانية للطب النفسي، بعض الأسئلة حول الموت وأثره وكيفية التعامل مع مشاعر الأسى، ودور المنظمات في حماية الصحة النفسية للصحفيين والعاملين في مناطق الحروب والصراعات، ونحن نشارك أهم ما ورد إجاباته في السطور القادمة لهذا التقرير.

 

في البداية.. هل يمكننا أن نستعد لخبر الموت؟

Broken down woman after father's death and her supportive husband

د: حسن ناصر: حسنا، الموت تماما كما الولادة، مرحلة ينبغي أن يمر بها جميع البشر خلال رحلتهم في الحياة، لكنه يثير الخوف لدى الجميع على اختلاف ثقافاتهم، وبحسب هذه الاختلافات يتباين الناس في تعاملهم مع الموت متأثرين بتجاربهم وأفكارهم ومعتقداتهم وحتى شخصياتهم. ففي بعض الأحيان، يتحول الموت إلى محفز يدفعنا إلى ترك أثر لنا يخلّد ذكرانا بعد رحيلنا. لكن وعلى النقيض من ذلك، كثيرا ما يتسبب القلق من الموت في إصابة الشخص بدرجة كبيرة من أعراض الحزن والاضطرابات، كاضطراب قلق الانفصال، فضلا عن ظهور الكثير من أعراض الاكتئاب وتدهور جودة حياة المحزونين لسنوات عدة بعد فقد أحبتهم، وهنا تتجلى أهمية الاستعداد لموت شخص عزيز باعتباره عاملا مهما في تعزيز صحة الأشخاص المفجوعين بوفاته، وتخفيف أثر الفاجعة على حياتهم.

إعلان

 

بحسب "مراجع ميرك الطبية" (The Merck Manuals)، يتعرض الشخص في حالات اضطراب قلق الانفصال لقلق مستمر وشديد حول الانفصال عن مكان أو أشخاص يتعلق بهم، تماما كالذي يصيب الأطفال المتعلقين بذويهم، بينما يتسبب اضطراب الحزن المعقد في استفحال حالة الحزن لفترات طويلة، أما الاكتئاب فقد تصل مضاعفاته إلى الانتحار.

 

كيف نتعامل مع الأمر إذن؟

Concept of afterlife and memory for parents or lost love. Back view of woman sitting on a swing with ghost man near her outdoor in the park with fog. . Dead friend or husband concept. Life and death

د.حسن ناصر: هناك خطوات يمكن اتباعها لتنظيم الأمر، وأولها فهم العواطف المتولدة عن ذلك. يؤثر الحزن في الأشخاص بطرق مختلفة، فقد يحدث هذا التأثير في صورة نوبات حزن تتكرر في الذكريات السنوية الخاصة كأيام الميلاد والإجازات، وأحيانا يأخذ أشكالا مختلفة. وهناك على الأقل 5 مراحل عاطفية مرتبطة بالحزن والأسى، والمرور بها هو أمر طبيعي بل وضروري أيضا في رحلة الشفاء من الحزن، وهذه المراحل هي: الصدمة والإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والتقبل.

 

استكشاف هذه المراحل يساعد الناس على تفهم الحدث، وفهم طبيعة مشاعرهم خلال التنقل بين العواطف، يستغرق الأمر عادة 6 إلى 7 أشهر لإدراك حادثة الموت والوصول إلى مرحلة التقبل، أما إن زادت المدة عن ذلك فربما يكون هذا مؤشرا على حاجة الشخص المكلوم للمساعدة المتخصصة.

 

أما الخطوة الثانية الضرورية في الاستعداد عاطفيا فهي بناء شبكة الدعم. للدعم الاجتماعي الذي يتلقاه الشخص خلال حياته أهمية قصوى في صحته النفسية، الحديث هنا ليس عن شخص داعم واحد، بل شبكة كاملة من الأصدقاء وأفراد العائلة الذين يمكننا الاعتماد عليهم في حياتنا، فإذا اعتمد الفرد في حياته على شخص داعم واحد، فإن وفاة هذا الداعم ستشكل فاجعة ذات تأثيرات أسوأ على الشخص المكلوم مما لو كان يتلقى دعمه الاجتماعي من شبكة واسعة من الأشخاص.

 

وانتقالا لنقطة أخرى مهمة، ربما علينا أن نتفكر مليا في العلاقات الشخصية وما يريد الشخص أو يحتاج قوله لأحبته والمقربين منه، فكثيرا ما يندم الناس في أحوال الفقد على أنهم لم يعبّروا مطلقا عن أفكار أو مشاعر معينة للشخص الراحل خلال حياته، لذا من المفيد أن يعزز الشخص تواصله مع أحبته بالتعبير المستمر عن مشاعره وأفكاره لتجنب الندم مستقبلا إن فقد أي منهم.

إعلان

 

لكن ماذا لو شاهدنا الموت يحصل أمامنا؟ سواء حدث ذلك عيانا أم على شاشة التلفاز؟

Man mourning his dead wife

د.حسن ناصر: علينا أن نعلم الموت المفاجئ للشخص نحبه أو نقدِّره قد يتسبب في تطور أعراض نفسية تختلف في شدتها باختلاف درجة القرب من هذا الشخص وبحسب طبيعتنا النفسية كذلك، وحين يكون شخص ما شاهدا على مقتل أحد أفراد أسرته أو أصدقائه أو زملائه فهذا يعني أنه مر بتجربة مؤلمة وصدمة ساحقة تتضمن أعراضها الأرق ومشاعر اليأس والرعب، وتكرار تعرضه للحدث في ذكرياته أو أحلامه أو أفكاره، والشعور بالضيق عند التعرض لأي شيء يُذكّره بالحدث، إضافة إلى أنه سيتجنب أي شيء قد ينعش في ذاكرته تفاصيل الحادثة، كالأشخاص والأماكن والأنشطة.

 

وإذا استمرت هذه الأعراض لأكثر من 4 أسابيع فسيعد هذا الشخص مصابا باضطراب ما بعد الصدمة "posttraumatic stress disorder" (PTSD)، كما أن حدة هذا الاضطراب ستتأثر بطبيعة العلاقة التي تربطه بالضحية، وهو ما يتسبب في استمرار أعراض الاضطراب لدى ثلث المصابين به لثلاث سنوات بعد الحادثة أو حتى أكثر من ذلك.

 

ليست تلك الأعراض الوحيدة التي يمكن ملاحظتها أو المرور بها، فهناك إمكانية لظهور أعراض أخرى أكثر تطرفا في حالات بعينها، مثل "التفارق" (Dissociation) أو ما يعرف بـ"الاضطرابات التفارقيّة"  (Dissociative disorders)، وهd وسيلة دفاعية يتمكن فيها الأشخاص المتأثرون بالصدمة من عزل أنفسهم عن الألم الجسدي أو النفسي المرتبط بالتعرض للحدث المؤلم الصادم، أي كما لو أنهم يحاولون إبعاد الذكريات والمشاعر المؤلمة عن وعيهم.

 

بمرور الوقت، يؤدي هذا إلى حدوث خلل في إدراكهم للبيئة المحيطة أو الذاكرة أو الوعي أو حتى الهوية، فتظهر أعراض مثل "تبدد الشخصية"، وفيها يشعر الشخص بانفصاله عن جسمه أو أفكاره في محاولة منه لتجنب الألم، و"تبدد الواقع"، الذي يسبب تغير إدراك الشخص للعالم الخارجي؛ ما يجعله يبدو له عالما غير واقعي، و"فقدان الذاكرة التفارقيّ"، حيث يفقد الشخص قدرته على تذكر معلومات أو تفاصيل الحدث الصادم بسبب ثغرات في ذاكرته.

إعلان

 

حسنا، هل هناك علامات يمكن منها أن نعرف أننا نواجه مشكلة في تقبل الأمر؟

Loving young husband hold crying wife hand showing empathy and support, millennial couple sit on couch at home reconcile after fight, caring man making peace with beloved woman. Relationships concept

د.حسن ناصر: يعدُّ الألم العاطفي الشديد والشعور بالعجز عن تجاوز الفقد حتى بعد مرور أشهر على الحادثة علامة أساسية على أنك لم تتجاوز الأمر، وقد يتطلب الأمر تدخلا علاجيا، خاصة إذا بدأ يؤثر على ممارسة الأنشطة الاعتيادية، كالمحافظة على النظافة الشخصية أو مهام العمل، أو في حال ظهور السلوكيات المدمرة للذات، كالتفكير في الانتحار والإفراط في تعاطي المشروبات الكحولية والإفراط في الاعتماد على الأدوية الموصوفة طبيا أو المخدرات، وهذه النقطة تحديدا تتطلب تدخلا عاجلا.

 

هل هناك بالفعل آليات يمكن تطبيقها لمواجهة كل هذا الألم؟

د.حسن ناصر: هناك بالفعل عدة آليات نفسية يمكن اتباعها لمواجهة الأسى والتعامل مع صدمة الحزن، خاصة أنها تؤثر في الصحة الجسدية والنفسية للأفراد. يبدأ الأمر بالتعلم عن عملية الحزن ومراحلها، وفهم طبيعة الأسى ودوره في إثارة مشاعر مختلفة وغير متوقعة، وأنها تجربة فريدة من نوعها بالنسبة إليك.

 

اهتم كذلك بالبحث عن الدعم من الأشخاص الذين يهتمون لأمرك، فالدعم الاجتماعي من العائلة والأصدقاء له تأثير قوي على قدرتك في التعامل مع الصدمة. ويمكن دعم الذات عاطفيا من خلال الاعتناء بصحتك الجسدية باتباع نظام الأكل الصحي والنوم الجيد والتمارين الرياضية والمحافظة على النظافة الشخصية، فالعقل والجسد متصلان، وشعورك بالصحة الجسدية سينعكس بشكل إيجابي على قدرتك على التأقلم عاطفيا مع الحدث.

 

حافظ كذلك على جدولة يومك وعمل قائمة بالأنشطة اليومية التي تستمتع بممارستها، فهذه الأفعال ستعيدك إلى هدوئك وستساعد على استعادة شعورك بالاستقرار في حياتك.

 

في كل يوم نسمع عن أسماء لصحفيين في مناطق الحروب أو الكوارث قضوا نحبهم خلال أداء مهامهم.. سؤالنا الآن: ما هو دور المؤسسات الصحفية والمنظمات الإغاثية في حماية الصحة النفسية لزملاء الراحلين؟

شيرين أبو عاقلة Shireen AbuAqla Shireen Abu Akleh Lebanese journalists hold pictures of Al Jazeera reporter Shireen Abu Akleh, who was killed during an Israeli raid in Jenin in the occupied West Bank, to express solidarity, in front of the U.N. building in Beirut, Lebanon May 11, 2022. REUTERS/Mohamed Azakir (رويترز)

د.حسن ناصر: يمكن أن يتسبب التعرض المكثف للصدمات الجماعية في تأثير طويل المدى على الصحة النفسية للأفراد العاملين في مناطق الحروب، كما أنه يتسبب في ردات فعل مختلفة قد تكون عاطفية (كالصدمة، والخدر العاطفي، والغضب، والشعور بالذنب، وانعدام التلذذ)، أو اجتماعية (كالانسحاب، والتهيج، والصراع مع الآخرين)، أو إدراكية (كضعف الذاكرة والتركيز، والأفكار الاقتحامية)، أو جسدية (كالأرق، والشكاوى الجسدية، والضعف العام)، لذا ينبغي أن تركز معظم خدمات الصحة النفسية في المنظمات على إعداد العاملين فيها للتعامل مع الأوضاع الصعبة بهدف رفع مرونتهم النفسية وزيادة قدرتهم على تحمل الصدمات في حالات الكوارث.

إعلان

 

وينصح باتخاذ بعض الخطوات لدعم العاملين في مناطق الحروب والصراع: "ينبغي على المنظمات أن تعرف وقبل إرسال موظفيها إلى الميدان ما إن كانوا معرضين لخطر تطور اضطرابات نفسية، فهذا يساعدها على بناء خطط تقديم الدعم لهم خلال مهامهم وبعدها، في هذا السياق، يُنصح بتقديم تدريب شامل للعاملين الميدانيين لتوضيح طبيعة بلد المهمة، وظروف الأمان فيه، والرعاية الطبية المتوفرة، وكيفية إدارة الإجهاد النفسي، وبناء الفريق، والفروقات الثقافية في بلد المهمة، وذلك بهدف تحجيم احتمالية تعرضهم للصدمة النفسية.

 

كما أنه من الضروري متابعة العاملين في الميدان لمراقبة أي أعراض تعرض للصدمة، وعلى المنظمة حينها تقديم الدعم المستمر لمنع تطور هذه العلامات إلى اضطرابات نفسية، إضافة لأهمية توفير الدعم الاجتماعي والصحي الكافي، وتسهيل وصول الموظفين للرعاية والعلاج والدعم النفسي لتعزيز شعورهم بالأمان وللمساعدة على التعامل مع الأعراض قبل حدوث مضاعفات على صحتهم النفسية".

المصدر : الجزيرة

إعلان