فصل الصيف الطويل جدا.. لماذا يبدو شهر أغسطس بلا نهاية؟

تدور أحداث الرواية الشهيرة "قصة موت معلن" التي كتبها الأديب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في يوم واحد فقط؛ يوم طويل في حياة القرية سيشهد مقتل أحد سكانها في نهايته، وكتبت فرجينيا وولف رواية "السيدة دالاواي"، التي اعتُبرت من أهم روايات القرن العشرين، فيما يزيد على مئتي صفحة عن يوم واحد من حياة البطلة، كانت تستعرض خلفيات وأحداثا من الماضي بين ثنايا الحكاية لتعود لليوم المشهود، هذا ما يحدث في أدمغتنا أيضا طوال الوقت، نقفز إلى الحاضر أو نستغرق في الماضي، وربما يحدث ذلك كله في لحظات تبدو من وجهة نظرنا أطول من المعتاد.
في هذه اللحظات يتوقف الزمن
لم يكتشف العلماء بعد منطقة محددة في الدماغ تقوم بإدراك الوقت، تُنظِّم الساعة البيولوجية دورة النوم والاستيقاظ، وتُنظِّم إيقاع يومنا، لكنها لا تلعب أي دور في تقديرنا للحظات يومنا الحاضر. بالنسبة لعالم رياضيات فإن الحاضر هو النقطة الفاصلة بين الماضي والمستقبل، لكنه بالنسبة لعالم نفس أكبر من هذا بكثير، هناك لقطات من الماضي وتوقُّعات وأحلام بما يمكن أن يحدث في المستقبل تقتحم حاضرنا وتُشكِّل شعورنا به وإدراكنا لما يحدث فيه. (1) (2)
يهتم مايكل فلارتي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة إلينوي، بتلك النقطة. حينما كان يُعِدُّ رسالته لنيل الدكتوراه، عرض عليه أستاذه مقابلة مع أحد لاعبي خط الوسط في دوري كرة القدم الأميركية، الذي أخبرهم عن شعوره بأن اللاعبين يتحركون ببطء أثناء المباريات. تتبَّع فلارتي قصص مئات الأشخاص ليتعرَّف على كيفية إدراكنا للوقت، ومتى نشعر أنه يمر أبطأ من المعتاد، وأجملها في ظروف محددة؛ لحظات المعاناة الشديدة، أو المتعة، وفي لحظات الخطر، يحكي الجنود كيف يمر الوقت دهرا في لحظات الحرب مثلا، الانتظار والملل والعزلة لحظات شهيرة أخرى نشعر فيها بأن الوقت لن ينتهي أبدا، إضافة إلى لحظات التركيز والتأمل. (3)
المتعة وكثافة تجربة حياتنا
اختبر عالم الأعصاب ديفيد إم إيجلمان هذا الأمر بنفسه من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي، ليجد زيادة في نشاط الخلايا العصبية حين يقوم الشخص بتجربة جديدة، يشبه الأمر التصوير بالكاميرا، هل تعرف كيف يتم تصوير المشاهد البطيئة في السينما؟ ليس ببطء كما قد تتوقع، تعمل الكاميرا بسرعة شديدة لتُنتج عددا أكبر من المشاهد. فبدلا من عرض 24 صورة في الثانية، لتبدو الحركة طبيعية، تُعرض صور أكثر فتبدو الحركة بطيئة، في زمن السينما الصامتة كانت المشاهد في كل ثانية تبلغ فقط 18 صورة، ولهذا بدت حركة الممثلين أسرع من الحركة في الحياة العادية.
ويبدو أن الكاميرا الافتراضية في دماغنا تقوم بالفعل نفسه، حين نمر بموقف صعب تعمل الكاميرا بسرعة جدا، فتلتقط عددا كبيرا من المشاهد، وحين نستعرضه داخل دماغنا يبدو بطيئا، بحيث نتعجَّب من أن كل هذا حدث في يوم واحد فقط، يمكن أن تحدث حكايات ممتعة إذن تبقى ذكراها طويلا في يوم واحد فقط، وهذا بالضبط ما يعتمد عليه شعورك بمرور الزمن، يمكنك تخيل الأمر بحساب كثافة الخبرة لكل وحدة زمنية.
الإجازات الممتعة مثال آخر على تقديرنا للزمن، إنها تمضي بسرعة، تقول عالمة النفس كلوديا هاموند في كتابها "الزمن المشوَّه" إن الإجازة الجيدة تمر بسرعة بالفعل، إذ نُعِدُّ لها وقتا طويلا، ونحلم بها، ثم يبدو لنا حين تمر أنها لم تمتد طويلا بقدر ما امتدت الاستعدادات لها، لكنك بعد أن تعود منها وتمضي بعض أيام العمل، تسترجع تلك الأيام فتشعر أنها امتدت دهرا في الحقيقة، هذه هي مفارقة الإجازات. (5) (6)
دعنا هنا نُفرِّق بين شعورك باللحظة الحالية أثناء مرورها، ثم شعورنا بها بعد أن تنقضي وتحفظها الذاكرة، لأن هناك فرقا كبيرا في الحقيقة؛ بينما تمر الأحداث يخضع شعورنا باللحظة الحالية -سواء بأنها طويلة جدا أو أنها تكاد تطير- لما نفعله؛ للأحداث التي نشهدها والأنشطة التي نستمتع بها. يمر الوقت ببطء حين تقل الأحداث التي نشهدها فنشعر بالملل، كما يمر ببطء أيضا حين نشهد أحداثا كثيرة جدا، إنها مفارقة عجيبة أن يمر الوقت ببطء في حالات متناقضة؛ حين نفعل شيئا جديدا وحين لا نفعل أي شيء.
الآن ماذا عن اللحظات الماضية؟ ما يشغله الوقت من ذاكرتنا يخضع لقاعدة أخرى، اللحظات نفسها التي لم تفعل فيها شيئا يُذكر فمرَّت ببطء بالغ دفعك إلى الملل، تكاد تُمحى من ذاكرتك ويبدو لك غريبا كيف أنها مرت وانقضت، بينما تجد اللحظات التي فعلت فيها شيئا جديدا -تعلمت مهارة ما أو زرت مكانا جديدا- مكانا في صدارة الذكريات فتبدو طويلة ومثيرة.
لهذا تُترجم في دماغك بعض الأيام والشهور كأن لم تكن، إننا نستخدم الذكريات لقياس الزمن، وحين لا يجد دماغنا ما يحفظه في الذاكرة كتجربة جديدة أو مميزة، لا نجد ما نذكره عنها فنشعر أن السنوات انقضت سريعا، ولهذا بالضبط يبدو الزمن أسرع عند تقدُّمنا في العمر، حيث إننا لا نشغله بالتجارب الجديدة كما كان يحدث في سنوات عمرنا الأولى، حين كان كل شيء حولنا جديدا ومثيرا. (4)
درجة الحرارة متهمة أيضا
الآن نأتي إلى ساعات الصيف الطويلة التي ترغب في معرفة سرها. في عام 1920 كان عالم النفس هدسون هوغلاند بجانب زوجته المريضة، ولاحظ حينها أمرا مهما، كان قد خرج لمدة دقيقة واحدة وحين عاد سألته لماذا تأخر، فطلب منها في المرات اللاحقة أن تقوم بالعد إلى 60، وتأكَّد له الأمر، كانت سرعة العد تزداد بارتفاع درجة حرارتها، ما يعني وجود علاقة بين إدراكنا للوقت ودرجة حرارة الجسم. (7)
في دراسة نشرتها "ذا كوارترلي جورنال أوف إكسبريمنتال سيكولوجي" (The quarterly journal of experimental psychology) عام 1995، أشار الباحثون إلى أن الساعة الداخلية التي افترض العلماء وجودها وقيامها بتقدير الوقت لدينا تتأثر بدرجة حرارة الجسم، إذ زاد معدل تقدير الوقت عندما زادت درجة حرارة الجسم عن المعدل الطبيعي، وانخفض بانخفاضها عن المعدل الطبيعي أيضا. (8)
وفي تقرير نشرته مجلة "نيتشر" عام 2019، أجرى الباحثون تجربة على مجموعة أفراد من خلال غمرهم في حوض ماء دافئ والتحكم في درجة حرارة الماء، كان المشاركون يبالغون في تقدير الوقت الذي مر كلما زادت درجات الحرارة. أشار الباحثون إلى تعرُّض قدرتنا على تحديد الوقت للخطر عند ارتفاع درجة حرارة الجسم، إذ تتسارع دقات الساعة الداخلية الافتراضية داخلنا فنشعر بمرور وقت طويل، بينما في الحقيقة لم يمر كل هذا الوقت، لم تتوصل الأبحاث حتى اليوم إلى عواقب هذه السرعة التي تنتاب ساعتنا الداخلية على العمليات المعرفية الأخرى، لكنهم أوضحوا أنه يؤثر سلبا في القدرة على اتخاذ القرار نتيجة الشعور بضغط الوقت، ويظهر تأثيره السلبي بشكل أوضح في بيئات العمل الصعبة بسبب تغير درجة حرارة الجسم. (9)
يعاني البعض من خلل في الساعة الداخلية، فيُقلِّلون من قدر ما مر من الوقت أحيانا أو يبالغون في تقديره، فضلا عن أن تقديرهم للوقت الذي تستغرقه المهام يكون خاطئا أيضا، إنه أحد الأعراض الشائعة المرتبطة باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD)، إذ يشعر المصابون به بأن الوقت يمر ببطء شديد. (10)
بينما يستيقظ الشخص العادي قبل موعده بساعة واحدة مثلا لكي يستعد للخروج، فإن المصابين بعمى الوقت لا تُجدي معهم هذه القاعدة، وهم غالبا ما يصلون مبكرا جدا أو متأخرا جدا، بسبب سوء تقديرهم لما تستغرقه المهام، ونحن أيضا نُصاب أحيانا بعمى الوقت موسميا حين تسترخي أجسامنا أثناء الإجازات، لكننا نعود لطبيعتنا، كما يصيبنا أحيانا وموسميا أيضا بسبب الإجهاد أو القلق أو الاكتئاب أو الحرمان من النوم أو تعاطي المخدرات.
لهذا السبب نشعر أن بعض أشهر الصيف أطول من المعتاد، خاصة حينما يقترن الأمر مع أحداث متلاحقة، العيد مثلا أو سفر ما أو لقاء عائلي كبير، وإذا أردت أن ينقضي شهر أغسطس الطويل جدا بدرجة حرارته المرتفعة التي لا حيلة لنا فيها، فربما عليك التفكير في برنامج مميز وتجارب جديدة، لا بقضائه في الراحة دون أن تفعل شيئا، لأنه لن ينتهي حينها على ما يبدو. (11)
————————————————————————————————————-
المصادر
- ¿Realmente el tiempo pasa más rápido cuando envejecemos?
- Por qué en verano se altera nuestra percepción del tiempo
- Why time seems to fly – or trickle – by
- ¿Realmente el tiempo pasa más rápido cuando envejecemos?
- الحركة البطيئة للصورة في السينما
- La paradoja de las vacaciones: por qué el verano se te ha pasado volando
- Is ‘Time Blindness’ Making You Chronically Late?
- Feeling the heat: body temperature and the rate of subjective time, revisited
- Core body temperature speeds up temporal processing and choice behavior under deadlines
- ¿Realmente el tiempo pasa más rápido cuando envejecemos?
- Is ‘Time Blindness’ Making You Chronically Late?