الألم الذي لا يشبه شيئا.. لماذا يقدس المجتمع آلام الولادة إلى هذا الحد؟

مقدمة للترجمة

تتخذ آلام المخاض دورا مركزيا في الثقافة البشرية، لدرجة أنه حتى مع ظهور إمكانيات التخلص منها أو على الأقل تخفيفها -دون أي مشكلة طبية تُذكَر- تستمر العديد من النساء حول العالم في اختبارها طوعا وتجنُّب آليات التخدير وتخفيف الألم الأكثر تطورا، في هذه المادة تبحث ستيفاني موراي، وهي باحثة وكاتبة في نطاق السياسات العامة، خلف هذا الأمر، وبأسلوب قصصي سلِس ويسير تحاول أن تجيب عن سؤال: لماذا يُضفي المجتمع على آلام المخاض مثل هذه الهالة من التقديس، ويتعامل معها بكل هذا التبجيل؟

نص الترجمة

بعد فترة وجيزة من دخولي إلى المشفى لولادة ابنتي الكبرى، سألتني الممرضة عن قراراتي للتخفيف من حِدَّة الألم. لم يكن لدي خبرة كبيرة في هذا الشأن، لأن حَملي لم يكن مُخططا، فقد أنهيتُ لتوي الفصل الدراسي الثاني من دراستي العليا، وهو إنجاز بطولي استطعت تحقيقه بخطوة تأجيلي للحمل، لذا حينما أصبحت أُمًّا دون خبرة سابقة أستضيء بها، قررتُ الاستماع إلى نصائح الأطباء والممرضات.

أطلعتني الممرضة على بعض الخيارات، ثم اقترحتْ عليَّ أكثر الخيارات شيوعا وهي محاولة الولادة دون تخدير، وفي حالة زيادة وطأة الألم، سيلجأون إلى مسكِّنات خفيفة مثل أكسيد النيتروز والمورفين، قبل اتخاذ الخطوة النهائية وهي التخدير فوق الجافية "Epidural administration" (حقن عقار مخدر موضعي للتأثير على الأعصاب المُحيطة بالحبل الشوكي).

(شترستوك)

اتبعتُ نصيحة الممرضة بالحرف، لكنني اكتشفت أن أكسيد النيتروز لم يلعب دورا كبيرا في تخفيف الألم، أما المورفين فكان الأسوأ على الإطلاق، لأن محاولاته في تخفيف الألم ذهبت دون جدوى. وفي النهاية لجأت إلى التخدير فوق الجافية، وهو قرار جلب لي العزاء والسلوان بتأثيره السحري، فبدا الزمن وكأنه يتدفق بسلاسة لا يُعكِّره أي ألم. كان شعورا مذهلا جعلني أستغرق في النوم، وأسفي الوحيد أنني لم ألجأ إلى هذا الحل منذ البداية.

إعلان

إذا حكيتُ أن تجربتي مع التخدير كانت إيجابية، فإنني بذلك أبخس حقها، لأن أقل ما يُقَال عنها إنها تجربة مُدهشة وبديعة، والحل الأمثل لألم الولادة. غير أن الأمور اتخذتْ فيما بعد مسارا غريبا بعض الشيء حينما بدأ أولئك الذين هنَّؤوني بعد ولادتي يتساءلون عن تجربتي، وإن كنت خضت غمارها بلا تخدير، وكأن عدم تلقي التخدير هو العلامة الوحيدة على الجدارة والاستحقاق. ومع هذه التساؤلات، شعرت بأنني سقطت في فخ فقدان الثقة بالنفس، وكان الشعور بالخجل أسبق في أمومتي من كل المشاعر الأخرى، ووجدتني أُسارع بتقديم مُبررات وأسباب وجيهة للجوء إلى المسكنات، منها أن الهرمون الذي أعطوني إياه لبدء المخاض جعل الانقباضات أسوأ، وكان ذلك في منتصف الليل حينما بلغ مني الإنهاك مبلغه.

في النهاية، توقفتُ عن تقديم المُبررات، ولكني لم أتوقف عن التفكير بهذه التساؤلات التي أخذت تحوم حول موضوع ولادتي، وبدأت أتساءل: لماذا يُضفي المجتمع على آلام المخاض مثل هذه الهالة من التقديس، ويتعامل معها بكل هذا التبجيل؟ إن مناقشة الأسئلة المُتعَلِّقة بألم الولادة، وما إذا كان من الضروري تخفيفه أم لا، تبدو في الحقيقة أمرا عبثيا، فإحدى المفارقات العجيبة أنني لم أُفكِّر أبدا في إزالة ضرس العقل دون تخدير، ولم يسألني أحد بالطبع عما إذا قررت مواجهة ألم الأسنان بدون مسكنات أم لا!

تاريخ التخدير

طبيب الولادة الأسكتلندي "جيمس يونغ سيمبسون" (مواقع التواصل الاجتماعي)

إذا ما أجرينا غوصا عميقا في تاريخ التخدير قبل الولادة، فسيتبدَّى أمامنا طيف واسع ومتنوِّع من آراء مؤيدة وأخرى مُعَارِضة. بدأت الحكاية عندما قرَّر طبيب الولادة الأسكتلندي جيمس يونغ سيمبسون عام 1847 استعمال الأثير والكلوروفورم لتخدير النساء قبل الولادة، لكنه واجه معارضة شديدة رغم شيوع استخدام التخدير حينها بدرجة كبيرة في العمليات الجراحية. يختلف المؤرخون حول مدى شيوع الاعتراضات الدينية على التخدير قبل الولادة، لكن بعض الآراء المُعارِضة كانت بلا شك مشوبة بالنغمات الأخلاقية، وكأن الألم أضحى القاعدة المُتفَق عليها لكي تستحق النساء لقب الأمومة، فكتب أحد الجراحين عام 1848 يقول: "إنك لا تُبَارك المرأة حقا بتحريرها من آلام المخاض، بل تنبع المُبَاركة الحقيقية من تضرعها إلى الله لمنحها التواضع والقوة لتحمُّل هذا الألم".

إعلان

مع كل الامتيازات الطبية الممكنة، لا تزال الولادة فعلا فرديا، وبغض النظر عن الأطباء والمسكنات، ينبغي للأم وحدها أن تخوض تجربة هذا الألم، وبعض الأطباء لم يروا بأسا في أن تخوض الأم تجربة الولادة دون مخدِّر، مثل الطبيب الأميركي تشارلز ميجز الذي قال ساخرا: "إن آلام المخاض لم تُمثِّل يوما للنساء عقبة كبيرة، وأكبر دليل على ذلك أنهن لم يرتدعن عن سبيلهن في إنجاب المزيد من الأطفال". لكن الدكتور ويليام كامان، مدير مستشفى بريغهام في بوسطن، والمشارك في تأليف كتاب "ولادة يسيرة: دليل المرأة لاختبار ألم أقل ومتعة أكبر أثناء الولادة"، يرى أن الأطباء في ذلك الوقت كان همهم الأول هو سلامة الأم والجنين، وأشد ما يخشونه هو تسرب المخدر إلى المخاض فيؤدي إلى إيذاء الطفل.

على الرغم من كل هذا، توقع سيمبسون أن يصبح التخدير هو القاعدة الأساسية التي سيفرضها المرضى بأنفسهم على الأطباء، غير أن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. صحيح أن سيمبسون كان محقا في أن التخفيف من حِدَّة الألم والسيطرة عليه سيغدو أكثر شيوعا، لكنه كان مُخطِئا حيال فكرة أن المرضى جميعهم سيتبنّون الرأي ذاته بشأن تلقي التخدير، فمثلا ظل الرأي النسوي السائد حول هذه الممارسة في حالة تغيُّر على مر السنين، فكان يرى أن تخفيف الآلام يُحرِّر النساء من قسوة الطبيعة، لكنه في الوقت ذاته يعزلهن عن جمالها. وعلى الرغم من أن التبعات السلبية للتخدير قبل عملية الولادة تلاشت بدرجة كبيرة منذ استخدامه لأول مرة، فإن رغبة بعض النساء في خوض غمار تجربة المخاض بكل وحشيته لم تتلاشَ تماما، ولعلها لن تتلاشى أبدا.

في البداية، بدا أن سيمبسون على صواب، فعلى الرغم من الاعتراضات التي أبداها الكثيرون إزاء التخدير، فإن بعض النساء من الطبقة الأرستقراطية في المجتمع الأميركي والبريطاني تلقين مسكِّنات للألم أثناء المخاض، منهن على سبيل المثال الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا السابقة (1819-1901). أدَّت هذه الخطوة التي اتخذتها النساء من الطبقة الراقية إلى إخماد المخاوف بشأن التخدير، فلم تعد مسألة التخدير مقتصرة عليهن فقط، بل امتدت لتشمل الكثير من النساء من الطبقات الأخرى.

إعلان

فقدان الإحساس بالألم دون فقدان الوعي

(شترستوك)

بحلول أوائل القرن العشرين، بدأت النسويات يضغطن على الأطباء لإعطاء النساء تخديرا موضعيا لبلوغ الحالة المعروفة باسم "نوم الشفق" (Twilight sleep)، وهي حالة من الاسترخاء تتميز بفقدان الإحساس بالألم دون فقدان الوعي، وتنجم عن حقن المورفين والسكوبولامين لمنع النساء من تذكُّر لحظات الولادة على الإطلاق. وعن هذا، كتبت الصحفيتان مارغريت تريسي وكونستانس ليوب: "إن توفير فرصة للنساء لتلقي التخدير قبل الولادة من شأنه أن يُخفِّف من عبء المعاناة المُلقَى على عاتق نصف البشرية، الذي لم يفهمه النصف الآخر منها".

لسوء الحظ، انطوت هذه الأساليب المُبكرة على مخاطر جسيمة، إذ تسبَّب التخدير أحيانا في استرخاء العضلات الملساء (التي لا يتحكم بها الإنسان)، ما أدى إلى نزيف بعض النساء بعد الولادة، فضلا عن المورفين الذي تسبَّب في اختناق بعض الأطفال عند استخدامه بجرعات كبيرة أو خلطه مع أدوية أخرى. وحتى إن كُتبتْ النجاة للأمهات والأطفال، فذلك لا يعني أن التخدير كان أفضل وسيلة لتحسين تجارب النساء في ذلك الوقت.

في أواخر القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، لم تُحقَن النساء بمسكِّنات للألم إلا بعد أن يتوسع عنق الرحم تماما، وكأن ألم الولادة يُمثِّل شرطا أساسيا لاكتساب شارة الأمومة. ومن جانبها، ترى المؤرخة الطبية جاكلين وولف، مؤلفة كتاب "نجِّني من الألم" (Deliver Me From Pain)، أن النظر إلى الأمومة بوصفها فطرة إنسانية محمية بصورة طبيعية من الصراعات والألم هو شيء لا معنى له، فقد سبق ومرَّت النساء بكل الأشياء الصعبة.

أضحى التخدير قبل الولادة أكثر شيوعا وأقل إثارة للجدل اليوم مما كان عليه في خمسينيات القرن التاسع عشر، لكنه يظل الملاذ الأخير للكثيرين وخيارا غير مرغوب فيه تماما من قِبَل أقلية. (شترستوك)

أدَّى المخدر الجزئي أو ما يُعرَف باسم "نوم الشفق" في بعض الأحيان إلى سقوط النساء في حالة من الهذيان الحاد، لدرجة أن المستشفيات قامت أحيانا بتقييدهن أو تعصيب أعينهن أثناء المخاض، كما فَقَدَ نوم الشفق شعبيته بعد وفاة إحدى أبرز المدافعات عنه أثناء ولادتها عام 1915، في حين ظل استخدام المسكنات الأخرى أمرا اعتياديا لا ينطوى على أي تبعات سلبية. وبحلول منتصف القرن، تَلقَّت النساء جرعات مُكثَّفة من المسكنات إلى أن فقدن الوعي أثناء الولادة. غير أن وولف ترى أن المُخدر بجرعات كبيرة لم يكن الهدف منه رفاهية الأمهات أو مراعاة سلامتهن النفسية والجسدية بقدر ما كان له علاقة بطفرة المواليد، الأزمة التي تفجَّرت نتيجة الارتفاع الحاد في عدد المواليد. ولإدارة هذه الأزمة، كان على الأطباء حقن الأمهات بأكبر قدر ممكن من المسكنات (لتسريع عملية الولادة).

إعلان

حظيت طريقة العلاج هذه بمعارضة شرسة في الخمسينيات، ونمت في تلك الفترة أساليب نفسية للتعامل مع الألم أثناء الولادة، وأشهر الأطباء الذين دافعوا عن الولادة الطبيعية وتبنّوا أساليب نفسية لمساعدة الأمهات على الولادة دون مسكنات كان غرانتلي ديك ريد، وفرديناند لاماز. في أثناء ذلك، اندفع جيل جديد من النسويات يطالبنْ بحق النساء في الولادة دون تدخلات من المجال الطبي الذكوري الذي يرون أنه استولى إلى حدٍّ كبير على ما هو حق للمرأة. في العقود التالية، تلاشى الجدل إلى حدٍّ ما، ويرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى تحسين طرق التخدير، وأهمها التخدير فوق الجافية الذي سمح للنساء بالبقاء مستيقظات أثناء عملية الولادة، ما أدى إلى تهدئة مخاوفهن، كما حظيتْ طريقة التخدير هذه بشعبية أكبر في الثمانينيات.

سمحت التحسينات الإضافية للنساء بالحصول على حقنة فوق الجافية دون إصابة أرجلهن بالشلل التام، ونتيجة لذلك، خفَّت حِدَّة التوتر والصراعات بين الآراء الطبية التي تدعم ولادة النساء بمسكنات، والآراء الأخرى التي تتبنَّى النموذج المثالي للأمومة حيث لا نهاية لما يمكن أن تُقدِّمه الأم لطفلها، وأوله ألم الولادة. فمثلا كان مستشارو الولادة (وهم المساعدون الذين يدعمون الأم خلال الحمل، والولادة، وما بعد الولادة) يغادرون بعد إعطاء الأم الحقنة المخدرة لتغيب عن الوعي، ولعل شعورهم بأنهم بلا جدوى في هذه المرحلة كان الإحساس المُسيطر عليهم، لكن تبدَّل الوضع الآن بعدما أصبحت الأم تتلقى تخديرا لكنها تظل في حالة واعية، وأصبح مستشارو الولادة يشعرون بأهميتهم في تقديم الدعم للأمهات.

أضحى التخدير قبل الولادة أكثر شيوعا وأقل إثارة للجدل اليوم مما كان عليه في خمسينيات القرن التاسع عشر، لكنه يظل الملاذ الأخير للكثيرين وخيارا غير مرغوب فيه تماما من قِبَل أقلية. تعتقد وولف أن تردُّد النساء في تخفيف الآلام نابع في الأساس من تاريخ التخدير الحافل بالمآسي، وعن هذا تقول: "الحقيقة أن الأمر كان شديد الخطورة من الناحية الطبية خلال تلك السنوات الماضية". وحتى التخدير فوق الجافية اليوم مرتبط بمقايضات، فقد يتسبَّب أحيانا في انخفاض ضغط الدم، وربما يؤدي ذلك إلى إصابة الجنين بضيق تنفس، لذا عادة ما تُزوَّد النساء اللاتي يحصلن على حقنة فوق الجافية بسوائل وريدية، ويُرَاقب ضغط دمهن باستمرار.

إعلان

هل يستمد البشر المعنى من المعاناة؟

التخدير فوق الجافية اليوم مرتبط بمقايضات، فقد يتسبَّب أحيانا في انخفاض ضغط الدم، وربما يؤدي ذلك إلى إصابة الجنين بضيق تنفس، لذا عادة ما تُزوَّد حينها الأمهات بسوائل وريدية. (شترستوك)

أثارت الأبحاث الحديثة بعض الشكوك حيال المخاوف طويلة الأمد من أن التخدير فوق الجافية قد يُزيد من احتمالية الولادة القيصرية، كما تُشير بعض الدراسات إلى أن التخدير فوق الجافية يُمكن أن يُبطِّئ المخاض في المرحلة الثانية من الولادة، فيزيد ذلك من صعوبة دفع الجنين إلى الخارج، فيضطر الأطباء في هذه الحالة إلى التدخل باستخدام جهاز شفط الجنين أو المِلْقط. ومن جانبها، ترى ديان ديتوماسو، الأستاذة المساعدة في كلية التمريض بجامعة رود آيلاند بالولايات المتحدة، أن بعض النساء حريصات -لأسباب مفهومة- على تجنُّب سلسلة التدخلات المحتملة هذه.

إحدى المفارقات العجيبة بالنسبة للخبراء هي وجود بعض النساء اللائي يرغبن دائما في خوض تجربة الولادة بدون مُخدر رغم انخفاض تبعاته السلبية. ولتفسير هذه الرغبة المحيّرة، رأى طبيب التخدير دونالد كاتون أن البشر منذ آمادٍ مضت تبنّوا آراء متناقضة حيال الألم، وسعوا بلا هوادة لتخليص أنفسهم من ذلك الألم، في الوقت الذي ظل يساورهم الشك بشأن التخلُّص منه.

يحكي كاتون أن إرنست همنغواي كتب ذات مرة إلى زميله الروائي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد يقول له: "لن تكون كتاباتك سائغة نفسيا ولن تشعر بجديتها إن لم يكن ما يُثقِل كاهلك مُؤلما كالجحيم". يستمد البشر المعنى من كل أنواع المعاناة، وكأن التماهي مع المعاناة لا الانفصال عنها هو شرط أساسي لنهتدي إلى مُستقَر، غير أن طبيعتنا البشرية تُحتِّم علينا تجنُّب الألم الجسدي الشديد متى استطعنا ذلك.

تُشير إحدى النظريات إلى أن ألم المخاض وظيفته الأساسية هي حث الأم على التوقُّف عن كل ما تفعله، والذهاب سريعا لطلب المساعدة، وكأن عملية الولادة تُمثِّل في بعض أوجهها صراعَ وجودٍ. (شترستوك)

من المهم أن ندرك جيدا أن ألم المخاض ليس نوعا عاديا من الألم، لأن الألم عادة ما يكون مؤشرا على حدوث خطأ ما، أو لتنبيهنا إلى وجود تهديد جسدي. لذا تقول لورا ويتبورن، إحدى أبرز المُحَاضِرات في جامعة لاتروب بأستراليا، التي تدرس آلام المخاض: "بمجرد أن تلمس يدك موقدا ساخنا، سرعان ما يُنبهك الألم لسحبها بعيدا، في حين يُعَدُّ المخاض عملية فسيولوجية طبيعية تظل تؤلم حتى عندما لا يحدث بجسدك شيء خاطئ". بيدَ أن الألم المُصاحِب لعملية الولادة يخدم غرضا تطوريا مختلفا تماما.

تُشير إحدى النظريات إلى أن ألم المخاض وظيفته الأساسية هي حث الأم على التوقُّف عن كل ما تفعله، والذهاب سريعا لطلب المساعدة، وكأن عملية الولادة تُمثِّل في بعض أوجهها صراعَ وجودٍ، وتداولا بين ذات وأخرى، ومرحلة اتصال وانفصال، واستعدادا تاما لوصول الطفل. ووفقا لبحث ويتبورن، فإن ألم الولادة هو في الأصل ألم مثمر، وتصوُّره بهذه الطريقة يمكن أن يساعد النساء على التعامل معه على نحو أفضل.

إعلان

في الحقيقة، لا تخوض جميع النساء تجربة الولادة بالطريقة المؤلمة ذاتها التي تُصوِّرها الأفلام أو تُظهِرها شاشات التلفاز، فقد كرَّست دراسات مختلفة جهودا للتحقيق في التصورات المُتعلِّقة بألم المخاض، وأوضحت أنه على الرغم من أن النساء يصفن الألم بأنه "حاد، ووعر، وعصيب"، فإن اللغة التي يستخدمنها لوصف الألم تختلف اختلافا كبيرا من أُم إلى أخرى، فقد أطلقت عليه إحدى النساء "ألم الموت"، بينما أطلقت عليه أخرى "الألم الأكثر عذوبة في الحياة"، في حين يبدو بالنسبة للبعض أشبه بأن ينكأ أحدهم جرحا مفتوحا.

تحتل الولادة مكانا غريبا في التجربة الإنسانية، مكانا تختلط فيه المأساة بالبحث عن معنى لهذه المأساة. (بيكسابي)

خلال الأسابيع القليلة التي تلت وضعي لطفلي، تملَّكني شعور وكأنني أركض في ماراثون بعد أن صدمني قطار مباشرة، فهذا الصراع الذي يحدث على المستوى البيولوجي لم يكن من السهل أن يختفي بعد الولادة. إن عملية الولادة وحدها أشبه بسباق ماراثون، والرحلة التي ستبدئينها بعد الولادة مع كائن يُفتَرض أنه جزء منكِ تُعَدُّ سباق مارثون آخر، ومن خلال تجربتي مع هذين السباقين، فهمت الحكمة من ذلك كله. صحيح أن تجربة الولادة تجربة صعبة، بل ومؤلمة، لكن ذلك ما يصقل التجربة ويجعلها مُجزية.

لعل هذا ما فشل سيمبسون في فهمه منذ سنوات عديدة حينما قال إن التخدير انتصار على الطبيعة، لكنه لم يُدرك أن الولادة بدونه كذلك أيضا. الولادة إذن تحتل مكانا غريبا في التجربة الإنسانية، مكانا تختلط فيه المأساة بالبحث عن معنى لهذه المأساة، بدءا من اتحاد الجنين مع الأم منذ أن كان بداخلها، مرورا بانفصاله عنها في عملية الولادة، وما يتلو ذلك من طوفان من الهواجس التي تسكنها بأنها غير صالحة للقيام بهذه المهمة. في النهاية، تتطلَّب لحظة ولادة الجنين أن تخوض الأم معركة مع الألم، وألم الأم شرط لا غنى عنه لكي يحصل الجنين على مجال لحياته القادمة.

إعلان

__________________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة

إعلان