هل حقا تمتلك النساء حاسة سادسة لا يمتلكها الرجال؟

مجموعة من السيدات يلتقين في مقهى مُطِل على شاطئ جزيرة لبثت طويلا في قائمة أحلامهن، تمر النسمات باردة لطيفة، وصوت البحر في الخلفية يبعث على السكينة، يتأملن المكان قليلا، ثم تبدأ إحداهن: "لطالما أحسست أن هذا الحلم سيتحقق، وها نحن هنا أخيرا"، ثم تتحول هذه الجملة إلى بداية لاستعراض قدراتهن في الحدس، وعدد المرات التي مَكَّنهن الحدس فيها من الوصول إلى أهدافهن، واتخاذ القرارات الموفَّقة، أو حتى حماية عائلاتهن.

حسنا، من الصعب تعريف هذا الذي نُطلق عليه "الحدس"، إنه صوت لا تعرف صاحبه، وضوء تراه ولا تستطيع تحديد مكانه، يختلف البشر في تسميته أو وصفه، فهو عند الأدباء حديث القلب أو حدسه، وعند غيرهم قوى خارقة، وعند آخرين سمة تنفرد بها النساء، أما في صالات السينما فهو أداة المحقق لكشف الجريمة في مسلسلات مثل "The Mentalist"، وهو قوة الأم لحماية طفلها، ودعم الأصدقاء قبل طلبهم، لكن إذا توجَّهنا إلى ركن العلم فالأمر قد يكون أكثر إثارة للانتباه.

ما الحدس على أية حال؟

يبدو أن الأمر ليس سهلا، فحتى اليوم ليس هناك تعريف واحد للحدس، لكن فئة معتبرة من الباحثين تتفق على ربط الحدس بالخبرة (2)، على أساس أنه يعتمد على اكتساب معرفة ما خلال حياة الشخص ودون ملاحظته لذلك، وهنا يحدث ما يُعبِّر العلماء عنه بـ "المعرفة بشيء بدون معرفة سبب المعرفة". وعموما، هناك عدة جوانب مشتركة في معظم تعريفات الحدس، مثل أنه أفكار تلقائية وعفوية، أو شعور لا يمكن التحكم فيه، ولا حتى استثارته أو إهماله وقتما يشاء الشخص (1)، وأنه نوع من المعرفة الغامضة التي تساعد في اتخاذ القرارات خاصة في الأوضاع الضبابية. (3)

لكن هل يمكن حقا الاعتماد على الحدس لاتخاذ القرار؟ تمر بنا الكثير من المواقف التي نجد فيها أنفسنا أو شخصا في محيطنا يتخذ قرارا بناء على حدسه، سواء كان قرارا سهلا كتجربة مطعم جديد، أو قرارا صعبا مثل الاستثمار أو الزواج، لكن عندما يتم الحديث عن الاعتماد على الحدس في اتخاذ القرار، فإن أهم نقطة تُرصَد علميا هي تأثير هذا الفعل على عملية اتخاذ القرار ونتائجها، لطالما ساد الاعتقاد لفترة طويلة من الزمن أن الإنسان يجب أن يكون عقلانيا تماما في اتخاذ قراراته لضمان الحصول على نتائج إيجابية لهذه القرارات، فكيف يعتمد الآن على شيء آخر؟

إعلان

لكن العالِم السياسي "هربرت سيمون" كان له رأي آخر، فأكَّد أن البشر لا يمكن أن يكونوا عقلانيين تماما (4). عرَّف "سيمون" وصفه هذا للبشر بالعقلانية المحدودة أو المقيدة، فقد اعتبر أن البشر وإن كانوا عقلانيين، فإنهم سيمرون بفترة يواجهون فيها صعوبة حصر كل الاحتمالات المترتبة على أي حدث، ناهيك بوجود بعض التحيزات التي تؤثر على متخذ القرار، ومحدودية إدراك متخذ القرار لكل ما يحيط ويتصل بالقرار الذي يجب أن يتخذه، وتعقيد ظروف بعض الأحداث المرتبطة بالقرار، وكان هذا ما توصَّل إليه "هربرت" خلال عمل بحثي حاز بسببه جائزة نوبل في الاقتصاد.

في هذا السياق أيضا يرى العالِمان "دانيال كانيمان" و"عاموس تفيرسكي" أن اتخاذ القرار بين البشر يتأثر بتغيرات معرفية، سواء كانت استدلالية، كما يحدث في الحدس، أو تحيزية، فالبشر يختلفون في تقييمهم للمخاطر والمكاسب المترتبة على قراراتهم، وعرَّفا ذلك بـ"النظرية الاحتمالية"، وحاز "دانيال" عليها جائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد (5). فإذا كان اتخاذ القرار لا يمكن أن يكون عقلانيا بالكلية، فهل الحدس يمكن أن يكون سببا في اتخاذ بعض القرارات؟

كأنه وحي.. لكنه خبرة!

هناك اعتقاد بأن الحدس شائع بين الأشخاص الذين اكتسبوا خبرة كافية في مجال ما تجعلهم يشعرون بعدم الحاجة إلى الحصول على رأي الآخرين (6)، وترى "كونسن لوك"، الأستاذة المساعدة بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أن هناك عوامل يمكن أن تضمن تفادي القرارات الخاطئة عند استخدام الحدس (7)، أولها أن يكون القرار معتمدا على الخبرة المتراكمة التي بناء عليها يتولَّد الحدس، مثلا عندما يقرر متسلق جبال أن يسلك طريقا جديدا، فإنه يكون قد مر بالكثير من محاولات تسلُّق الجبل، واكتسب خبرة متراكمة على مدار وقت طويل، هذه الخبرة الآن ستكون سببا في حدسه بأن الطريق الجديدة آمنة أم لا، لكن إن قرَّر أستاذ جامعي متخصص في التمويل اتخاذ قرار استثماري بناء على حدسه، فهو يخاطر بماله إن لم تكن لديه معرفة تخصصية بالاستثمار المالي، فالحدس وحده هنا غير كافٍ.

إعلان

ترى "كونسن" أن الخبرة التي حصل عليها متسلق الجبال وجعلت من حدسه سببا لنجاحه، وما يماثلها لدى الأشخاص الآخرين، هي الخبرة التي تطلَّبت سنوات طويلة، ربما عشر سنوات أو أكثر، لتتطوَّر خلالها قدرة الشخص على بناء قرارات حدسية دقيقة وصحيحة، ليس طول الفترة فقط هو ما يلزم، بل طول الفترة الممتلئ بالتكرار والحصول على تقييم الأداء والمرجعية، مثال آخر يمكن طرحه هنا، موظف أمن في مصنع أدوية، يقضي يومه في فحص محيط الشركة، والتأكد من سلامة المعدات، ومواءمة كل الأجهزة والأدوات والأشخاص مع قواعد وقوانين السلامة، سيتعلم بمرور الوقت كيف يكتشف الأنماط التي يمكن أن تُشير إلى خلل ما، وسيتعلم كيف يميز البيانات المهمة عن غير المهمة، ونتيجة لذلك ستتطور قدرته على الاستجابة لأي حدث طارئ بسرعة وبدقة وببداهة، أي بناء على حدسه.

أما العنصر الثاني -خلاف الوقت- بحسب "كونسن" فهو نوع القرار، فمثلا إذا واجه الشخص مشكلة غير واضحة، لا توجد قواعد عامة لحلها، ولا حتى لتوضيح كيفية اتخاذ القرار بشأنها، كاتخاذ فنان قرار عمل معرض لأعماله متوقعا نجاحه، فهنا يمكن الاعتماد على الحدس، لكن القرارات التي لا تستفيد من الحدس هي تلك التي تتوفر قواعد ومعايير موضوعية وبيانات واضحة يمكن تحليلها وتقييمها للتعامل معها، كما في حالة التشخيص الطبي.

وقد لوحظ في هذا الجانب أن لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي يمكنها اتخاذ قرارات أكثر دقة من الطبيب المتمرس لقدرتها على حساب احتمالية وجود مرض ما بناء على المعلومات المتوفرة، كالأعراض وعمر المريض وجنسه وغير ذلك، فالدماغ البشري لا يستطيع التعامل مع كمٍّ كبير من المعلومات والبيانات في وقت واحد، لذا سيعتمد على الاستدلال، وسيكون من الصعب جدا تطوير خبرة عميقة كافية للاعتماد على الحدس وتحقيق نتائج دقيقة دائما وباستمرار.

إعلان

لكن هناك قرارات لا يستطيع الحاسوب قياس نجاحها، مثل اختيار سيارة لشخص ما، فهذا النوع من القرارات يتأثر بالمشاعر والنظر إلى المنتج، فالشخص سيختار بناء على انجذابه للسيارة وسِماتها، وهذا شيء لا يستطيع الحاسوب تقييمه، أما إن كان القرار يعتمد على أرقام فقط وبعيدا عن العاطفة والمشاعر، فالمنهج التحليلي كما يفعل الحاسوب أو العقلانيون سيكون أنجح في اتخاذ القرار من الحدس.

أخيرا تُشير "كونسن" إلى عامل الوقت، فهناك نوع من القرارات التي لا يتوفر له الوقت اللازم لجمع البيانات وتحليلها، وهنا يكون استخدام الحدس هو الحل الأمثل، وقد يكون بفعالية القرار المنطقي أو العقلاني نفسها، لكن عامل عدم توفر الوقت وحده ليس مبررا لاستخدام الحدس، فبقدر ما قد يُنجي الحدس من ضرر ما، يمكن أن يبعد الشخص عن المسار الصحيح.

الحاسة السادسة.. النساء أم الرجال؟

يشيع الحديث عن الحدس كثيرا حين يتعلق الأمر بالنساء، فقد تشرَّبت المجتمعات العربية وغيرها هذا التنميط بصورة قوية دفعت العلماء إلى البحث وراءه، ومن بينهم مجموعة من الباحثين من معهد ماكس بلانك للتنمية البشرية في ألمانيا وجامعة غرناطة الإسبانية (8)، الذين تقصوا فكرة وجود التنميط حول الحدس بين الجنسين، وكانت دراستهم البحثية بحسب رأيهم هي الأولى من نوعها حين ذاك للإجابة عن الأسئلة حول هذه الفكرة.

أشرك الباحثون في دراستهم أكثر من ألفَيْ شخص من دولتَيْ ألمانيا وإسبانيا، وكانت النتائج في كلتا الدولتين أن نسبة كبيرة من المشاركين يحكمون على النساء بأنهن يمتلكن حدسا أفضل من الرجال في الجوانب الشخصية كاختيار الشريك المناسب، وفهم نِيَّات النساء، وفهم نِيَّات الرجال، وهذه الفكرة موجودة لدى النساء والرجال عن النساء، أما في الجوانب العملية كالقيادة، واختيار شريك العمل، واتخاذ القرارات السياسية، والتصرف في المواقف الخطيرة، والاكتشافات العلمية، والاستثمار في الأصول، فلم يكن هناك دليل قوي على ترجيح حدس النساء على حدس الرجال.

وبينما أشارت دراسات مثل دراسة غيليان سنة 1982 ودراسة غراي سنة 1992 إلى أن النساء أكثر احتمالية لاستخدام الحدس في اتخاذ القرار، أوضح بحث علمي حديث صدر عن قسم علم النفس بجامعة "وست فيرجينيا" أن العكس هو ما يحدث، وأن الذكور هم أكثر استخداما للحدس في اتخاذ القرار، لكنها أوضحت أن هذه النتائج قد تكون بسبب محاولة الإناث المشاركات في البحث نفي التنميط المشاع حول اعتمادهن على الحدس، فقدَّمن إجابات غير دقيقة (9).

إعلان

يبدو إذن أن وسم المرأة بالحدس هو تنميط منتشر بقوة، ويجعلنا هذا نتساءل حول كيفية نشأة هذه الفكرة، وفي هذا السياق ترى "ليز إليوت"، أستاذة علم الأعصاب بجامعة "روزاليند فرانكلين للطب والعلوم" الأميركية (10)، أن هناك الكثير من الأبحاث التي تُميِّز بين الجنسين "دماغيا"، كالتي تعتقد أن حجم رأس الأنثى أكبر من حجم رأس الذكر، أو أن تشريح دماغ الأنثى يختلف عن دماغ الرجل، وغير ذلك، وهي أبحاث بحسب رأيها، مليئة بالتحيز ضد المرأة، والتحليل الخاطئ، والقيم الإحصائية الضعيفة، أي تفتقد إلى الدليل العلمي القوي الذي يرجح صحة هذه النتائج، تُضيف "ليز" إلى هذه الأبحاث بعض المنشورات العلمية التي تضع النساء عموما في منزلة دُنيا أو أقل من الرجال، وتعزو ذلك إلى أسباب بيولوجية، وتوضح أنه بالتوازي مع كل هذه الإصدارات العلمية نشأت الأفكار التي تنادي بتكاملية الجنسين، وتفترض بناء على تلك الأسباب البيولوجية المشار إليها أن عقل المرأة مُصمَّم للعاطفة والحدس، وعقل الرجل مثالي للمنطق والعمل.

تُضيف "ليز" أن هناك عاملا آخر مهما في نشأة وانتشار تنميط المرأة بالحدس وهو العامل الثقافي، فمنذ الصغر يتشرَّب الأطفال كل ما يُشاع حولهم من أفكار ومعتقدات كتلك الخاصة بسمات كل جنس، وتُورِد مثال ربط اللون الزهري بالإناث واللون الأزرق بالذكور، وهو أمر يحدث عند تحديد جنس المولود، أي قبل ولادته وليس باختياره، الأمر كذلك بالنسبة للحدس، لكن ما نعرفه الآن على وجه اليقين أن المرأة لا تمتلك تلك الحاسة المتميزة عن الرجل، التي سمَّاها البعض أحيانا "الحاسة السادسة".

__________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة

إعلان