بعد أكثر من 50 سنة.. هل كانت حمّى إعادة تدوير البلاستيك مجرد خدعة؟!
حسنا، إنها سلاحف المحيط الهادئ مرة أخرى، هل رأيتها من قبل؟ قنوات الوثائقيات تتحدث عنها كثيرا، تلك السلحفاة البريئة التي تعلق في كيس بلاستيك صغير فيتسبَّب في وفاتها، أو ربما ينقذها عالم شجاع، ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن إعادة تدوير البلاستيك، وكيف من الضروري أن تهتم وتبحث عن علامة إعادة التدوير في أي شيء ترتديه حتى تنقذ تلك السلحفاة المسكينة، ثم تشتري البلاستيك القابل للتحلل الحيوي، وربما تلتقط صورة مع حقيبتك البلاستيكية الحيوية! لكن إلى أي مدى كان كل هذا مفيدا؟ وهل حقا نحن في طريقنا إلى عالم خالٍ من البلاستيك؟ وإلى أي حدٍّ فعلا ساعدت عمليات إعادة التدوير تلك السلحفاة البريئة؟
اليوم، وبعد أكثر من 50 سنة على استخدام أول رمز لإعادة التدوير، تؤكد التقارير والبيانات الدولية ومن بينها بيانات منتدى الاقتصاد العالمي أنه بحلول عام 2050 سيتجاوز وزن البلاستيك في المسطحات المائية وزن الأسماك الموجودة فيها، فهناك أكثر من 8 ملايين طن من مخلفات البلاستيك تقتحم المحيطات سنويا، أي ما يعادل إفراغ حمولة بلاستيك من شاحنة قمامة كل دقيقة في البحر (1)، يعني ذلك قتل الكائنات البحرية جماعيا، وهو عكس ما كان يتوقع حدوثه مع كل ما يُذاع ويُشاع حول إعادة تدوير البلاستيك، الخلاصة هي أن العالم -ببساطة- مستمر في تحرُّكه تجاه كارثة بيئية سببها البلاستيك.
البلاستيك القابل للتحلل الحيوي
يعتقد البعض أن استخدام المنتجات المصنَّعة من البلاستيك القابل للتحلل الحيوي (Biodegradable) كالأكياس المخصصة لاستخدام واحد هو أقل ضررا من البلاستيك التقليدي أو العادي، وهو ما يدفعهم إلى الإكثار من استخدام هذه المنتجات، بل إن هناك خرافة شائعة أنه إذا تم إلقاء أي من هذه الأدوات في الغابة أو المحيط فإن الكائنات الدقيقة ستُحلِّلها إلى مواد خام ستتحوَّل فيما بعد ربما إلى كائنات حية أخرى، خاصة إذا كانت مصنوعة من مواد مشتقة من النباتات، لكن الحقيقة أنها أكثر خطرا من البلاستيك العادي. (2)
علميا، تُعرف المواد بأنها قابلة للتحلل الحيوي إذا تحوَّل أكثر من 90% منها إلى ثاني أكسيد الكربون خلال 180 يوما من تعرُّضها لدرجات حرارة تزيد على 50 درجة مئوية، أي إنها مواد مُصمَّمة لإطلاق ثاني أكسيد الكربون في نهاية دورة حياتها، أما في غياب الأكسجين مثلا في حالة دفن هذه المواد في أماكن دفن النفايات، فإن تحلُّلها سيُنتج غاز الميثان المسؤول عن رفع درجة حرارة الكوكب بمعدل 34-86 مرة مقارنة بثاني أكسيد الكربون، وفي حال أُلقيت في البحار أو المحيطات فإنها ستتحوَّل إلى قطع صغيرة تخنق الكائنات البحرية وتقلتها قبل أن تتحلل حيويا. (3)
لذا فإن استخدام هذا النوع من البلاستيك لا يُقدِّم حلا لكارثة تلوث البلاستيك القائمة، بل يزيدها سوءا، خاصة في وجود بيانات تؤكِّد أن 60% من البلاستيك المنتج في العالم يُدفَن أو يُجمَع في أماكن المخلفات، يُستثنى من ذلك نوع من البلاستيك المصنَّع من مادة حيوية تُستخدم النباتات في تصنيعه، ويُعَدُّ أقل خطرا من البلاستيك العادي كونه لا يُسبِّب انبعاثا جديدا لثاني أكسيد الكربون عند تحلُّله، إضافة إلى مادة أخرى أعلنت عن استخدامها شركتا "بيبسي" و"كوكا كولا"، وهي نوع من البلاستيك المُطوَّر غير قابل للتحلل، لكن هذا النموذج لم يتحوَّل بعد إلى نموذج يمكن استخدامه في الأسواق. (4)
إعادة تدوير البلاستيك
في إحدى المقالات الأكاديمية التي نشرتها المجلة العلمية الشهيرة "نيتشر ريفيوز ماتيريال" (Nature Reviews Materials) (5)، أوضحت المجلة أن خطر البلاستيك يكمن في كل مراحل حياة البلاستيك، بدءا من استخراج الموارد، وتكرير المواد الكيميائية، وحتى الحرق وإعادة التدوير، ففي كل مرحلة تُضخ غازات دفينة منبعثة ناتجة خلال المرحلة، وأنه في حال ازدياد الحاجة إلى المواد والمنتجات المصنَّعة من البلاستيك، فيُتوقَّع أن تزيد الحاجة إلى النفط عالميا، ما يعني تقويض جهود الابتعاد عن استخدام الوقود الحفري في قطاعات الطاقة والنقل والمواصلات، بسبب الاعتماد عليه في تصنيع البلاستيك.
بحسب المجلة، استمرار مُضي العالم في هذا الاتجاه يعني زيادة الحاجة إلى إعادة التدوير وإدارة المخلفات الحالية لتصنيع البلاستيك، لكن هذا لا يحدث، فنسبة البلاستيك الذي يُعاد تدويره لا تتجاوز 9% من مخلفات البلاستيك حول العالم، ليس هذا فحسب، بل إن كل مرحلة في عملية إعادة التدوير تستهلك جزءا من مصادر الطاقة، وتؤثر على جودة البلاستيك وتُسبِّب خسارة مواد أخرى خلال التدوير.
أوضحت الدراسة أيضا الحاجة إلى تحسين طرق إدارة مخلفات البلاستيك، فعدم استقرار المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع البلاستيك يُحوِّلها إلى ملوثات سامة مقاومة للتحلل في عوامل البيئة الطبيعية، وقد يتحوَّل المنتج البلاستيكي إلى قطع صغيرة تؤثر على حياة الكائنات الحية الأخرى.
في حديث مع الإذاعة الوطنية العامة الأميركية (National Public Radio)، صرَّحت مديرة إحدى الشركات المختصة في إعادة التدوير والتخلص من النفايات أنها ترى في إعادة تدوير البلاستيك خيانة لثقة المجتمع، فكل البلاستيك المدفون في أماكن دفن النفايات لن يُعاد تدويره لصنع بلاستيك جديد، فتكلفة إعادة تدوير المخلفات أعلى من تكلفة دفنها، وحتى في وجود جهود إعادة التدوير فإن معظم البلاستيك المتراكم في أماكن النفايات حاليا لن يُعاد تدويره حتى في وجود تقنيات وأدوات إعادة تدوير جديدة، لكن البعض ما زال يُسوِّق لإعادة التدوير ويقنع الجمهور بنجاحها. (6)
أمر آخر يعوق إعادة التدوير هو استخدام مئات المواد المختلفة في تصنيع البلاستيك، بعضها يتفاعل خلال التصنيع مُنتجا مواد يصعب جدا إعادة تدويرها، وبالتالي يكون الحرق هو الحل للتخلُّص من هذه المخلفات، إضافة إلى وجود البلاستيك مرتبطا بمواد أخرى غير بلاستيكية كالمعادن ومواد الغراء في بعض المنتجات، وهذا يُصعِّب فصل البلاستيك عنها لإدخاله مرحلة إعادة التدوير، ولا يوجد حل لذلك إلا مراعاة هذه النقطة عند تصنيع بلاستيك جديد، بينما تظل عائقا للتعامل مع البلاستيك الموجود حاليا. (7)
أمر آخر هو أن البلاستيك يختلف عن المواد الأخرى في عدم القدرة على إعادة تدويره لأكثر من مرة، على عكس ما يحدث في المعادن التي يُعاد تدويرها عبر صهرها وإعادة تشكيلها واستخدامها استخداما متكررا، وهذا يستحيل تطبيقه مع البلاستيك، حتى المنتج البلاستيكي نفسه لا يُعاد تدويره لمنتج مشابه، مثلا إعادة تدوير رف بلاستيك إلى رف بلاستيكي جديد، بل يُحوَّل إلى منتجات أخرى مثل سجاد أو نوع لباس معين، إضافة إلى ذلك تُنتج إعادة التدوير بلاستيك ذا جودة سيئة، مما يتطلب إضافة أنواع أخرى من البلاستيك لتحسين المنتج الجديد، وكذلك هناك مجموعة من المعايير التي لا تسمح باستخدام كل أنواع البلاستيك المُعاد تدويره في منتجات معينة مثل علب الطعام. (8)
جائحة كورونا
فاقمت جائحة كورونا الوضع السيئ لتلوث البلاستيك حول العالم من عدة جوانب (9)، لعل أبرزها زيادة إنتاج معدات السلامة الشخصية كالقفازات والكمامات، حتى وصلت التقديرات العالمية لاستخدام هذه الأدوات إلى 129 بليون كمامة و65 بليون قفاز شهريا، حاول أن تتخيل لصق كل هذه القفازات والكمامات إلى جانب بعضها، سنحصل على غطاء يُخفي تحته دولة سويسرا بأكملها، بل إن الكثير منها سيصل إلى المسطحات المائية، وستكون قناديل البحر الضحية الأولى بالمناسبة، تليها السلاحف، كما أنها ستؤثر على الأسماك والطيور والحيوانات.
كما ساهمت الجائحة في انهيار أسواق النفط عالميا، مما يعني انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي إلى أدنى مستوياتها، وكون هذه المواد تُستخدم في تصنيع منتجات البلاستيك، فهذا يعني أنها ستكون خيارا أوفر بكثير من المواد البديلة الأخرى مثل الأعشاب البحرية ومادة السيلولوز، التي يمكن استخدامها في تغليف وتعبئة البضائع، وهذه نقطة مهمة جدا للمؤسسات والشركات التي تسعى لكسب المنافسة التجارية داخل الأسواق العالمية.
سبَّبت الجائحة أيضا أزمة اقتصادية عالمية أثَّرت على سلوكيات المستهلكين، فأصبح المستهلك يُفضِّل شراء المنتجات الأقل ثمنا على تلك التي تُصنَّف صديقة للبيئة، معظم المنتجات الأقل ثمنا هي منتجات غذائية مغلفة بالبلاستيك، وقد أشارت البيانات إلى أن مخلفات البلاستيك زادت عام 2020 بمعدل 30% عن العام الذي يسبقه.
وأخيرا، أضافت جائحة كورونا عبئا ماديا ضخما على القطاعات الصحية وغيرها، مما تَسبَّب في إعادة توجيه أموال الدعم الحكومي والعالمي نحو الأنظمة الصحية وجهود البحث والتطوير العلمي لمواجهة الكارثة الناتجة عنها، وأدى ذلك إلى اقتطاع جزء من التمويل المقدَّم لأنظمة إعادة التدوير حول العالم، حتى إن بعض السلطات الحكومية أوقفت برامج إعادة التدوير إيقافا جزئيا أو كاملا، بسبب الأزمات المالية، كما حدث في عدة بلديات أميركية. (10)
حلول صعبة
نتيجة لكل ذلك، يرى باحثون أكاديميون اليوم من خلال مراجعتهم للدراسات العلمية والتقنيات الحديثة (11) أن التفكير في عالم خالٍ من البلاستيك هو أشبه بالبحث عن عالم مثالي، أي إنه أمر غير قابل للتطبيق عمليا، مفضلين أن تُركَّز الجهود على إدارة ومعالجة مخلفات البلاستيك، وتفادي استخدام الحرق والدفن واستبدال ذلك بعمليات إعادة تدوير يُعالج فيها البلاستيك كيميائيا لإنتاج مواد كيميائية أخرى أو لإنتاج الطاقة، أو الاتجاه إلى طحنه وتحويله إلى حبيبات متناهية الصغر لتصنيع منتجات جديدة، لكن حتى هذه الطرق تتطلَّب توفير بنية تحتية وتمويل حكومي مناسب، أي إن العملية تتأثر بالظروف الاقتصادية المجتمعية للدول.
باحثون آخرون يؤكدون أن التحرُّك السريع ينبغي أن يبدأ برفع نسبة البلاستيك المُعاد تدويره من 9% إلى 80% خلال وقت قصير، ثم إلى 100% من أجل تقليص مخلفات البلاستيك إلى أقل مستوى، وعدم إضافة المزيد إلى البلاستيك المتراكم حاليا، مع إمكانية استخدام الدفن والحرق باعتبارهما حلولا مؤقتة إلى جانب إعادة التدوير. ومع صعوبة إيقاف عمليات تصنيع البلاستيك، يجب رفع نسبة البلاستيك المشتق من مصادر حيوية كالنباتات من 1% إلى 10% على المدى القصير، ثم متابعة زيادة هذه النسبة تدريجيا لتصل إلى 100%، إضافة إلى ضرورة تشريع قوانين تحظر استخدام أنواع البلاستيك الأكثر خطرا على البيئة على المدى البعيد. (12)
حسنا، في النهاية، يظهر -إن تأملنا الأمر بدرجة من الصبر- أن البلاستيك ليس مشكلة واحدة محددة لها حل واحد محدد اسمه "إعادة التدوير"، ولكنه مشكلة هيكلية، بل وجودية، فالعالم كله يتبع منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية تقف على الضد تماما من هذه السلحفاة البريئة، من تلك الناحية تكون دعوات وسائل التواصل الاجتماعي التي تريد إنقاذ السلحفاة ليست إلا محاولة للتنصُّل من الذنب وكأننا نتهامس قائلين: "ها أنا ذا أفعل كل شيء في يدي أيتها السلحفاة، هه.. هل أنتِ سعيدة الآن؟!".
—————————————————————————————————————-
المصادر:
- The New Plastics Economy: Rethinking the future of plastic
- Wait, Plastic Can Be Good for the Environment
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- Plastics give and plastics take
- How Big Oil Misled The Public Into Believing Plastic Would Be Recycled
- Plastics: are they part of the zero-waste agenda or the toxic-waste agenda
- These Three Plastic Recycling Myths Will Blow Your Mind
- COVID-19 Has Worsened the Ocean Plastic Pollution Problem
- COVID-19 is laying waste to many US recycling programs
- Recent Advancements in Plastic Packaging Recycling: A Mini-Review
- Plastics: are they part of the zero-waste agenda or the toxic-waste agenda