شعار قسم ميدان

بعد أول حالة اعتداء في الميتافيرس.. هل يعد التحرش الرقمي جريمة توجب العقاب؟

قررت نينا باتل، المعالجة النفسية والباحثة، الدخول واستكشاف عوالم الميتافيرس الخاص بشركة "ميتا" (فيسبوك سابقا)، وبعد 60 ثانية من الانضمام، تعرَّضت للتحرش اللفظي والجنسي من 3-4 أفاتارات من الذكور. وبشكل رقمي اغتُصب الأفاتار الخاص بها جماعيا والتُقطت له صور، وأثناء محاولتها الابتعاد، صرخوا قائلين: "لا تتظاهري بأنك لم تحبي ذلك". تقول باتل إنها كانت تجربة مروعة، تجمدت كما لو أن الأمر حدث لها في الواقع. (1)

كانت التعليقات على منشور باتل عن الحادثة تحتوي على العديد من الآراء المتباينة، ابتداء من "لا تختاري أفاتار أنثى، الأمر بهذه البساطة" إلى "لا تكوني غبية، لم يكن ذلك حقيقيا"، تقول كذلك إنهم نعتوها بأنها "مثيرة للشفقة وتريد جذب الانتباه"، أو عقَّبوا بالقول: "من الواضح أنك لم تلعبي لعبة فورتنايت من قبل"، وكذلك "أنا آسف حقا أنه كان عليك تجربة هذا"، و"يجب أن يتوقف هذا".

لم تكن هذه الحالة الأولى للاعتداء في الميتافيرس، في ديسمبر/كانون الأول 2021، قالت واحدة من مختبري الإصدار التجريبي لشبكة "هورايزون وورلدز" (Horizon Worlds) للواقع الافتراضي إنها تعرضت للتحرش. وكتبت على صفحة هورايزون الرسمية على موقع فيسبوك: "لم يُتحرَّش بي الليلة الماضية فحسب، بل كان هناك أشخاص آخرون يدعمون هذا السلوك الذي جعلني أشعر بالعزلة على الساحة".

هل هذا حقيقي؟

Human avatars communicate

لا بد أن السؤال الأول الذي يدور في ذهنك في حالة كهذه هو: هل هذا حقيقي أم أنها مجرد مبالغة؟ هل استاءت هذه السيدة من محاولة افتراضية للتحرش بها لدرجة التعامل معها كأنها محاولة حقيقية؟ لا شك أن المطورين في هذه النطاقات يعملون على إيجاد طرق لتحسين تجربة التعامل مع الواقع الافتراضي، عادة ما يُتحدَّث عن فوائد مثل زيادة الاتصال البشري، والتعاطف المتزايد، والفرص الجديدة للتعليم على أنها تجليات إيجابية لإمكانيات الواقع الافتراضي. يولِّد محتوى الواقع الافتراضي درجات واسعة من التحفيز عبر انغماس أكبر عدد ممكن من الحواس مثل النظر، والمدخلات الصوتية للأذنين، والمحفزات اللمسية.

تؤدي المزايا الغامرة لهذه التجربة إلى إحساس بالثقة بين الذات وواجهة البرمجة حتى يشعر المستخدم وكأنه هو نفسه في بيئة أخرى، وربما يشعر أن جسده الافتراضي (الأفاتار) هو جسده المادي. بعبارة أخرى، فإن عقولنا عند بلوغ مستوى بعينه من الانغماس قد تعاني في تمييز الحدود بين التجارب الافتراضية الرقمية والواقعية، والأمر نفسه يحدث مع الجسد. بشكل ما، كانت استجابة الباحثة نينا الفسيولوجية والنفسية كما لو أن الاعتداء الجنسي حدث لها في الواقع.

يُطلق على هذه الظاهرة اسم تأثير بروتيوس، وهو مصطلح مُستمد من الميثولوجيا اليونانية. اشتهر بروتيوس، إله البحر اليوناني، بقدرته على تغيير شكله للتهرب من محاولات أسره. بالمثل، فإن "تأثير بروتيوس" (Proteus effect) هو ميل الأشخاص للتأثر بتمثيلاتهم الرقمية، مثل الأفاتار وشخصياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتغيير سلوكياتهم بما يتوافق مع سلوك ممثليهم الرقميين.

fortnight

في ألعاب الفيديو، من المرجَّح أن يتصرف الشخص الذي يُنشئ أفاتارا على هيئة محارب فايكنغ بجرأة أكبر داخل اللعبة، لكن المفاجأة أن الأبحاث تُشير إلى أن هذا التأثير يمتد أيضا إلى الحياة الحقيقية للاعب. وجدت إحدى الدراسات التي أُجريت في مختبر التفاعل البشري الافتراضي بجامعة ستانفورد أن اللاعبين الذين استخدموا أفاتار الأبطال الخارقين كانوا أكثر فائدة ونفعا بعد ذلك للمحيطين بهم! (2)

بشكل عام، تُبنى العوالم الافتراضية لتعكس العالم المادي. يمكنك حضور الحفلات الموسيقية وزيارة الكازينوهات ومقابلة صديق لتناول القهوة وحتى التسكع في صالة البنك الذي تتعامل معه، لكن عندما يتعلق الأمر بالتنظيم، لا يتم عكس قانون العالم الحقيقي في العالم الافتراضي، وبدلا من ذلك تخضع هذه المساحات الرقمية للتعليمات البرمجية وشروط اتفاقيات الخدمة.

بينما يكافح المنظمون لفهم الاختصاص القضائي الخاص بهم في الميتافيرس وكيف تنطبق القوانين الحالية على الأصول الرقمية، غالبا ما تُستبعَد القوانين المدنية والجنائية التي تنطبق على التفاعلات بين الأشخاص داخل هذه العوالم الافتراضية. وجد المركز الوطني لمصادر العنف الجنسي، وهو منظمة أميركية غير ربحية، أن 81% من النساء و43% من الرجال أبلغوا عن تعرضهم لنوع من العنف الجنسي أو الاعتداء في حياتهم، ماذا لو انتقلت هذه النسب إلى العالم الافتراضي؟ ماذا يحدث عندما تتعرض لاعتداء جنسي في عالم افتراضي مثل الميتافيرس؟ هل يُعَدُّ هذا انتهاكا لحرمة جسدك، حتى ولو كان جسدك هذا مجرد أفاتار؟

قضايا شائكة

قبل وجود الميتافيرس، كان هناك "مادز" (MUDs)، وهو عالم افتراضي أولي قائم على النصوص بدون رسومات، بحيث يتنقل المستخدمون عبر عدد من "الغرف" بأوامر نصية، ثم يتفاعلون مع الآخرين هناك.

كان "لامبادا-مو" (LambdaMOO) واحدا من أشهر أنواع المادز، الذي استند تصميمه إلى قصر في كاليفورنيا. ذات مساء، كان عدد من المستخدمين في "غرفة المعيشة" يتحدثون مع بعضهم بعضا. نشر مستخدم يُدعى "السيد بانغل" فجأة "دمية مشعوذة"، وهي أداة تُنتج نصا، مما يجعل المستخدمين يظهرون وكأنهم يؤدون أوامر مًن يمتلك الدمية. جعل السيد بانغل أحد المستخدمين يبدو وكأنه يقوم بأعمال جنسية وعنيفة تجاه اثنين آخرين. شعر هؤلاء المستخدمون بالرعب والانتهاك، وخلال الأيام التالية، كان هناك الكثير من الجدل حول كيفية الرد على ما حدث داخل العالم الافتراضي، وفي النهاية قام "ساحر" (الساحر هو بمقام المراقب أو الأدمن) بإقصاء السيد بانغل من مادز.

لامبادا-مو "LambdaMOO"
لامبادا-مو "LambdaMOO"

اتفق الجميع تقريبا على أن السيد بانغل قد فعل شيئا خاطئا. كيف يجب أن نفهم هذا الخطأ؟ قد يقول الشخص الذي يعتقد أن العوالم الافتراضية خيالية إن التجربة تشبه قراءة قصة قصيرة يُعتدَى فيها عليك. سيظل هذا انتهاكا خطيرا، لكنه يختلف في نوعه عن الاعتداء الحقيقي. ومع ذلك، لم يكن هذا هو ما فهمه معظم مجتمع مادز. (3)

هل كان اعتداء مستر بانغل بدرجة السوء والأذى نفسه الناجم عن الاعتداء الجنسي في العالم الواقعي؟ ربما لا. إذا كان المستخدمون في مادز يعلقون أهمية أقل على أجسادهم الافتراضية مقارنة بأجسادهم غير الافتراضية، فإن الضرر يكون أقل بالمقابل، لكن مع تطور علاقاتنا مع أجسادنا الافتراضية، تصبح المشكلة أكثر تعقيدا.

في عالم افتراضي أكثر تطورا وحيوية مع صورة رمزية جُسِّدت لسنوات، قد نتحد مع أجسادنا الافتراضية أكثر بكثير مما حدث في التسعينيات مع بيئة نصية قصيرة المدى. وقد جادلت الفيلسوفة الأسترالية جيسيكا ولفندال بأن هذا "الارتباط التجسدي" مهم من الناحية الأخلاقية. "نظرا لأن تجربة أجسادنا الافتراضية تزداد ثراء، فقد تصبح انتهاكات أجسادنا الافتراضية في مرحلة ما خطيرة مثل انتهاكات أجسادنا المادية". (4)

كل هذا يثير قضايا شائكة حول أخلاقيات العوالم الافتراضية على المدى القريب. كيف يجب أن يتصرف المستخدمون في عالم افتراضي؟ ما الفرق بين الصواب والخطأ في مثل هذه المساحة؟ وكيف تبدو العدالة في هذه المجتمعات؟ لنبدأ بالعوالم الافتراضية الموجودة بالفعل. ربما تكون أبسط حالة هي تلك المتعلقة بألعاب الفيديو ذات اللاعب الفردي. قد تعتقد أنه مع عدم مشاركة أي شخص آخر، فإن هذه الألعاب خالية من المخاوف الأخلاقية، لكن ذلك ببساطة غير صحيح.

مجتمع الفضيلة الافتراضي

في مقالته عام 2009 بعنوان "معضلة اللاعب"، لاحظ الفيلسوف مورجان لاك أنه بينما يعتقد معظم الناس أن القتل الافتراضي (قتل شخصيات في عالم الألعاب) مسموح به أخلاقيا، فإنهم يعتقدون أن الاعتداء الجنسي على الأطفال افتراضيا غير مسموح به. في ألعاب أتاري عام 1982، كان الهدف من لعبة "كاسترز ريفينج" (Custer’s Revenge) هو الاعتداء جنسيا على امرأة أميركية من السكان الأصليين، وكان الاعتقاد الشائع أن هذا الأمر مُستهجن من الناحية الأخلاقية. (5)

لعبة كاسترز ريفينج- Custer’s Revenge
لعبة كاسترز ريفينج- Custer’s Revenge

يخلق هذا التناقض معضلة فلسفية: فما الاختلاف الأخلاقي بين القتل الافتراضي والاعتداء الجنسي الافتراضي على الأطفال والاعتداء جنسيا على امرأة أميركية من السكان الأصليين؟ لا ينطوي أيٌّ من هذه الأفعال على إيذاء الآخرين مباشرة. إذا أدى الاعتداء الجنسي على الأطفال افتراضيا إلى الاعتداء الجنسي على الأطفال في الواقع، فسيكون ذلك أمرا خطيرا، ولكن الأدلة على الارتباط بين الأمرين ضعيفة للغاية.

تتفاقم هذه المعضلات، بمجرد الانتقال إلى بيئات ألعاب الفيديو متعددة المستخدمين مثل "فورتنايت" (Fortnite)، ثم إلى عوالم افتراضية اجتماعية بالكامل مثل "سكند لايف" (Second Life). تتضاعف المشكلات الأخلاقية، وبمجرد أن يرى المرء العوالم الافتراضية على أنها حقائق، فإن أخلاقيات العوالم الافتراضية تصبح أمرا جديا مثل الأخلاق عموما في الحياة الواقعية.

في العديد من عوالم الألعاب متعددة اللاعبين، يوجد "الغريفرز" (grievers)، وهم لاعبون سيئون النية يسعدون بمضايقة لاعبين آخرين، وسرقة ممتلكاتهم، وإيذائهم أو حتى قتلهم داخل عالم اللعبة. يُنظر إلى هذا السلوك على نطاق واسع على أنه خطأ من حيث إنه يتعارض مع استمتاع المستخدمين الآخرين باللعبة. ولكن هل سرقة ممتلكات شخص ما في لعبة أمر خاطئ مثل القيام بذلك في الحياة الواقعية؟ يتفق معظمنا على أن الأشياء المملوكة في لعبة ما هي أقل أهمية من الممتلكات في العالم الواقعي. ومع ذلك، في الألعاب طويلة المدى، يمكن أن تكون الممتلكات مهمة للمستخدم، ويمكن أن يكون الضرر كبيرا بالمقابل. على سبيل المثال، في عام 2012، أيَّدت المحكمة العليا الهولندية إدانة مراهقين بسرقة تميمة افتراضية من مراهق آخر في لعبة "رون سكيب" على الإنترنت، وأعلنت المحكمة أن للتميمة قيمة حقيقية من حيث الوقت والجهد المبذول في الحصول عليها. (6)

لعبة Second Life
لعبة Second Life

إذن، كيف يجب معاقبة الأفعال الخاطئة في العوالم الافتراضية؟ النفي (من اللعبة أو العالم الافتراضي) هو أحد الخيارات، لكنه قد لا يكون مؤثرا بالشكل الكافي. طُرد السيد بانغل من "لامبادا-مو"، ولكن بعد ذلك بفترة وجيزة عاد المستخدم نفسه متجددا باسم "دكتور جيست"، قد يكون للعقوبات الافتراضية والسجن الافتراضي أيضا بعض التأثير، لكن التأثيرات ستكون محدودة عندما يمكن للمستخدمين بسهولة إنشاء أجساد جديدة. قد تكون العقوبة غير الواقعية (من الغرامات إلى السجن) خيارا مطروحا، ولكن مع مستخدمين مجهولين قد يكون من الصعب القيام بذلك، ناهيك عن صعوبة العثور على عقوبات تتناسب مع الجريمة.

في النهاية، لا مناص من القول إن أنظمتنا الأخلاقية والقانونية سوف تحتاج إلى اللحاق بالركب. غالبا ما نتعامل مع العوالم الافتراضية على أنها بيئات ألعاب ترفيهية حيث لا تهم أفعالنا حقا. ولكن في العقود القادمة، ستنتقل العوالم الافتراضية إلى ما هو أبعد من الألعاب لتصبح جزءا من حياتنا اليومية. من المحتمل أن تكون السلوكيات في العوالم الافتراضية ذات مغزى مثل السلوكيات في العالم المادي. ستؤثر الجرائم مثل السرقة والاعتداء في العوالم الافتراضية على البشر الحقيقيين، وربما نسمع يوما أن أحدهم زُجَّ به في السجن لأشهر أو سنوات بسبب جريمة ارتكبها في الميتافيرس.

_____________________________________________

المصادر

  1. Reality or Fiction?
  2. Virtual Superheroes: Using Superpowers in Virtual Reality to Encourage Prosocial Behavior:
  3. A Rape in Cyberspace
  4. My avatar, my self: Virtual harm and attachment
  5. The gamer’s dilemma: An analysis of the arguments for the moral distinction between virtual murder and virtual paedophilia
  6. Teen steals virtual items, gets real punishment
المصدر : الجزيرة