شعار قسم ميدان

لغة العظماء.. كيف تعيد لحظات الصمت بناء عقلك من جديد؟

في عام 1952، فاجأ الموسيقي "جون كيج" جمهوره بمقطوعة أطلق عليها "4’33″، جلس عازف البيانو الأميركي أمام لوحة المفاتيح وفتح النوتة الموسيقية، وبدا كأنه سيبدأ العزف الآن، ثبّت إحدى يديه لكنه أغلق بالأخرى لوحة المفاتيح ليستمع جمهوره فقط إلى الصمت، لم تكن القطعة سوى 4 دقائق و33 ثانية من الصمت، في دعوة اعتقد النقاد أن الهدف منها هو إيقاف الموسيقى بعض الوقت والاستماع إلى صوت الصمت فيما حولنا وإدراك ما يحدث في محيطنا بشكل أعمق.

في ثقافات كثيرة يرتبط بعض الصخب بالبهجة؛ الموسيقى والحديث والضحك، الصوت بشكل عام يعني في الغالب لدى كثيرين أننا نستمتع بالحياة، لكن الصمت في المقابل لم يحظَ بنصيبه المستحق من الأضواء. في دراساتهم التي أُجريت في الأصل لكشف أثر الصوت؛ الضوضاء أحيانا بما تُحدثه من أضرار في أجسامنا، أو الموسيقى بما تُحدثه من سحر، اكتشف فريق من العلماء بالصدفة تأثيرا مفاجئا للصمت في الدماغ؛ ما دعاهم إلى التوسع في بحث أثره، والوقوف على حقيقة ما يحدث داخل عقولنا في هذه اللحظات الساكنة، التي ستثبت أنها أثمن مما نتوقع على ما يبدو(1).

ما يفعله الصمت بالدماغ

في عام 2013 نشرت مجلة "فرونتيرز إن هيومان نيوروساينس (Frontiers in Human Neuroscience)" دراسة ركزت على المهام الافتراضية التي يقوم بها الدماغ حين لا تشتته الضوضاء أو المهام، وهي معالجة المعلومات، والتفكير في الأمور بشكل أكثر عمقا(2).

يعدُّ الصمت هو المساحة الذهنية التي يتم فيها تنشيط الوضع الافتراضي في دماغنا، في هذا النظام نفكر في أنفسنا ونحدد هويتنا، عندما نشارك في نشاط ما يتوقف عمل هذا الوضع الافتراضي، وكأننا نبقى خارج أنفسنا إلى أن نعود من جديد في لحظات صمت أخرى إلى داخل ذواتنا، وهذا ما يجعل للحظات الصمت قيمتها الكبيرة، ولهذا يقول الكاتب الأميركي "هيرمان ملفيل": "كل الأشياء والمشاعر العميقة للأشياء يسبقها ويحضرها الصمت"(3).

كشفت دراسة نشرتها مجلة "هارت (Heart)" أن دقيقتين من الصمت يمكن أن تُحقّقا استرخاء أكثر من الاستماع إلى الموسيقى الهادئة.

في أوقات الصمت، يعيد الدماغ ضبط نفسه، ويلملم العقل شتات الطاقة التي استهلكها في مهام غير واعية تعمل دائما في الخلفية، نعم تلك الهمهمات الداخلية التي تدور في دماغنا حين نردد أغنية سمعناها للتو، أو نردد حديثا من مكالمة أجريناها قبل قليل، هي فرصة الدماغ لإجراء ما يمكن اعتباره "أرشفة" لما تراكم لديه من معلومات(4).

في هذا السياق، أشارت دراسة أُجريت بكلية طب جورجيا بالولايات المتحدة إلى كون الدماغ يعمل خلال فترات الصمت على تشفير المعلومات، وأن الخلايا العصبية تعمل بشكل متواصل وإن بدت هادئة تماما مثلما يبدو سطح المحيط ساكنا بينما تتحرك مياهه باستمرار(5)، وتؤكد الدراسة التي نشرتها مجلة "بي إن إيه إس (PNAS)" أن هذا النشاط واضح من نسبة الأكسجين التي يستخدمها الدماغ، ومن خلال تصوير نشاط الخلايا العصبية باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي، الذي يُظهر انخراط الدماغ في عمل دؤوب(6).

بشكل مشابه، كشفت دراسة نشرتها مجلة "هارت (Heart)" أن دقيقتين من الصمت يمكن أن تُحقّقا استرخاء أكثر من الاستماع إلى الموسيقى الهادئة، وهو ما يظهر عند قياس ضغط الدم والدورة الدموية في الدماغ(7). لكن هذا ليس هو الدور الوحيد للصمت، وعلى ما يبدو فإن الدور الأكبر أنه يعيد إصلاح الضرر الناجم عن تعرضنا للضوضاء حين نضطر أن نعير انتباهنا لمدخلات متعددة ترهق أدمغتنا وتشتت انتباهنا(8).

ما تفسده الضوضاء.. يصلحه بعض الصمت

في عام 2011 قامت منظمة الصحة العالمية بقياس العبء الصحي الذي تدفعه أوروبا بسبب الضوضاء، لتجد أن نحو 340 مليونا من سكان أوروبا الغربية يفقدون مليون سنة من الحياة الصحية كل عام بسبب الصخب، وذكرت المنظمة أن السبب الجذري لوفاة 3000 أوروبي بأمراض القلب يعود إلى شدة الضوضاء.

في الضوضاء، ترتفع مستويات الكورتيزول ومستويات السكر في الدم، كما يرتفع ضغط الدم، وعلى المدى الطويل نعاني من الإجهاد المزمن، ونصبح أكثر عرضة لمخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، وتتأثر جودة النوم، وتزيد معدلات الاكتئاب واضطرابات القلق، وتتأثر سلبا قدرات الأطفال على التعلم.

لكننا لسنا هنا بصدد الحديث عن هذا التأثير السلبي اليوم إلا لنخبرك أن كل هذا التوتر وفقدان التركيز والقوة المعرفية الذي تسببه لنا الضوضاء، يمكن علاجه، فقط بفترات من الصمت، إذ تساعد هذه الهدنة العقلية على تخفيف التوتر وتجديد مواردنا المعرفية، لقد عرف القدماء هذا مبكرا؛ الصمت يشفينا، ويأخذنا بعمق إلى أنفسنا، ويوازن بين الجسد والعقل، فنصح الحكماء بقضاء بعض الوقت في صمت، واليوم تؤكد الدراسات أنه يعيد بالفعل بناء ما فقدناه خلال التعرض للضوضاء المفرطة(9).

في دراسة نشرتها مجلة "برين ستركتشر آند فنكشن (Brain Structure and Function)" عام 2013، أُجريت تجربة على الفئران لاختبار تأثير أنواع مختلفة من الضوضاء، وبينما كان العلماء يرصدون تأثيرها، لاحظوا تأثيرا للصمت أيضا في أدمغة الفئران، أدى التعرض للصمت إلى توليد أعداد متزايدة بشكل ملحوظ من الخلايا العصبية، بحيث تأكد الباحثون من أن غياب المدخلات السمعية ينشط الخلايا بشكل قد لا يفعله تعددها.

ارتبط منح الفئران في التجربة ساعتين من الصمت يوميا بتطوير خلايا جديدة في منطقة الحُصين المرتبطة بالذاكرة والعاطفة والتعلم. أشارت النتائج أيضا إلى أن الصمت قد يمثل علاجا مساعدا لحالات مثل الاكتئاب ومرض الزهايمر التي ترتبط بانخفاض معدلات تجديد الخلايا العصبية في منطقة الحُصين(10).

وفق نظرية "استعادة الانتباه (The Attention Restoration Theory)"، فعندما تكون في بيئة ذات مستويات أقل في المدخلات الحسية، يقوم الدماغ باستعادة بعض قدراته المعرفية. في عالم رقمي لا يتوقف فيه دماغنا عن استقبال المدخلات وتحاصرنا من كل جانب كميات هائلة من المعلومات، تكون قشرة الفص الجبهي -وهي الجزء المسؤول عن اتخاذ القرارات وحل المشكلات- في ضغط مستمر، لكن أدمغتنا تتمكن من الاسترخاء والتحرر من التركيز المستمر عندما نقضي بعض الوقت بمفردنا(11).

كيف تستحضر الصمت؟

في مثل بيئاتنا الصاخبة، عليك أن تتحلى بالمرونة لاقتناص أوقات الصمت المتفرقة، مثل لحظات الصباح الباكر على سبيل المثال. خلال اليوم، حاول التقليل من مصادر الضوضاء التي يمكنك التحكم فيها، لا داعي إلى أن يعمل التلفزيون في الخلفية مثلا، وإن كنت تقطن في حي مليء بالضوضاء فيمكنك استخدام النوافذ محكمة الإغلاق أحيانا للحد منها، وليكن اختيار أماكن هادئة ضمن أولوياتك عند التخطيط لقضاء العطلة.

يمكن القول إن دقائق الصمت البسيطة تلك مفتاح الشفاء الذي نحتاج إليه في مواجهة التأثيرات السلبية لأسلوب حياتنا العصري، لكن تذكر أن مساحات الصمت يسهل اختراقها تماما مثلما يسهل كسر الزجاج، لذا عليك أن تنتبه إلى أنه في كل اللحظات التي تمتلك فيها خيار خرق الصمت وإضافة صوت جديد إلى البيئة أن هذا الصوت ما لم يكن ضروريا فإن حفاظك على الصمت ربما يكون هدية لنفسك أو لشخص ما لينعم بلحظات ثمينة من السلام الداخلي(12).

_____________________________________________________________

المصادر:

  1. Una cura de silencio
  2. Cardiovascular, cerebrovascular, and respiratory changes induced by different types of music in musicians and non‐musicians: the importance of silence
  3. Science Says Silence Is Much More Important To Our Brains Than We Think
  4. El silencio es una medicina para el cerebro
  5. Silence is golden when it comes to how our brains work
  6. A default mode of brain function
  7. Cardiovascular, cerebrovascular, and respiratory changes induced by different types of music in musicians and non‐musicians: the importance of silence
  8. El silencio es una medicina para el cerebro
  9. THE RESTORATIVE BENEFITS OF NATURE: TOWARD AN INTEGRATIVE FRAMEWORK
  10. Is silence golden? Effects of auditory stimuli and their absence on adult hippocampal neurogenesis
  11. THE RESTORATIVE BENEFITS OF NATURE: TOWARD AN INTEGRATIVE FRAMEWORK
  12. Los efectos del silencio en el cerebro
المصدر : الجزيرة