من غزة إلى كييف.. لأن علاقة الأطفال بالحرب أعمق مما قد تظن

ظهيرة يوم 24 يوليو/تموز عام 2014، جنوب خان يونس في قطاع غزة، وفي إحدى جولات الاعتداءات التي ابتدأها جيش الاحتلال على القطاع ذلك الشهر، استهدفت إحدى طائراته بيتا احتمت داخله قرابة عشر عائلات، الرماد يحجب الرؤية، وصوت صرخات الأشخاص يزلزل أركان المكان وهم ينادون بعضهم ليتأكدوا من نجاتهم، قبل أن يهرع الجميع حاملين أطفالهم هربا من الضربة القاضية، يمتزج البكاء بنداءات الاستغاثة مع صوت سيارات الإسعاف. رصدت الكاميرات وجوه الأطفال وهي مشدوهة فاغرة أفواهها، ولكن في حين نجح بعضهم في الصراخ أو البكاء، ظلَّ البعض الآخر صامتا إلى الأبد.
وعلى النقيض من إصابات الجسد التي يراها الجميع، تتخفى إصابات أخرى لا يكاد أحد يبصرها، فليس لها لون الدم، ولا تُنقذها الضمادات أو الجبائر البيضاء. وكما هو الحال في الإصابات الحسية، يظل الأطفال أيضا هم الأكثر هشاشة وعُرضة لهذه الإصابات النفسية الخفية، فما يشهدونه خلال الحروب أو يشاهدونه أو يقرؤونه عنها يفوق قدرتهم على الفهم، أو التحمل، أو المقاومة، أو حتى الشفاء.
تصمت أفواههم فتتحدث أيديهم
يبدأ الأطفال منذ ولادتهم استكشاف محيطهم، ومع نموهم يستعينون بأدوات الرسم لنثر خربشاتهم ورسومهم على الورق أو الجدران أو حيثما سنحت لهم الفرصة، وشيئا فشيئا تحمل هذه الرسومات بعضا من أفكارهم وتُمكِّنهم من التعبير عن مشاعرهم وعواطفهم. إنهم يرسمون ليُعبِّروا عن مخاوفهم أو حبهم أو سعادتهم، ويستخدمون الرسم لغةً لوصف مشاعرهم التي يصعب عليهم وصفها بالكلام، كما تساعدهم الرسومات في تصوير بيئاتهم المحيطة، والعلاقة بين الأشياء والأشخاص من حولهم، وكذلك في ترجمة وتوضيح المعلومات التي يتعرَّضون لها والتجارب التي يخوضونها، وحتى التعبير عن ردة فعلهم تجاه ما يحدث حولهم وآرائهم فيه، واحتياجاتهم أيضا (1).
تُمثِّل الحرب تحديدا، بما يصحبها من آثار سلبية ومشاهد مؤلمة، تجربة يصعب على الأطفال الحديث عنها، لذا يلجؤون إلى الرسم ملاذا أخيرا للتعبير عما عايشوه خلال هذه التجربة، وأثرها عليهم، وما سبَّبته لهم من أذى نفسي، إضافة إلى تعبيرهم عن رأيهم في الحدث نفسه، وهذا ما يدفع الباحثين والمختصين إلى دراسة وتحليل رسومات الأطفال الناجين من الحروب لفهم كل ذلك، ولمساعدتهم على تخفيف آثار الحرب النفسية، وتحديد الوسائل الأمثل لعلاجهم ودعمهم (2).
في هذا السياق، حاول مجموعة من الباحثين في مؤسسات أكاديمية مختلفة مثل: جامعة بهتشه شهير (Bahcesehir University) في تركيا، وجامعة نيويورك (New York University)، والمعهد النرويجي للصحة العامة (Norwegian Institute of Public Health)، وجامعة الأردن (University of Jordan)، جمع وتحليل رسومات أطفال تعرَّضوا للحروب في مناطق مختلفة في العالم العربي، نستعرضها في مجموعتين رئيسيتين.
في المجموعة الأولى، توجَّه مجموعة من الباحثين نحو مخيم "الإصلاحية" جنوب شرقي تركيا، بالقُرب من مدينة "غازي عنتاب"، حيث أكثر من نصف سكان المخيم هم من الأطفال الذين تراوحت أعمارهم بين 9-18 عاما ممَّن فرّوا وعائلاتهم من سوريا واستقروا في المخيم، حاول الباحثون سؤال الأطفال عن الحرب، وهناك حاول بعضهم التحدث بلغتهم (الرسم) لوصف ما عايشوه ، هنا تعرض المجموعة بعض أحاديثهم (3).






تُظهِر بعض الرسومات في هذه المجموعة ارتباطا بالحرب من خلال رموز مثل الطائرات، أو لون الدماء، أو الأجساد المُلقاة على الأرض، لكنَّ الصورتين الأولى والثانية تختلفان ويصعب فهمهما، وقد أشار الباحثون الذين جمعوا هذه الرسومات إلى أن فيهما إشارات إلى شعور الطفلين اللذين رسما الصور بالاعتداء، ويظهر ذلك من خلال ظهور الأسنان، وحذف الأيدي (الصورة الأولى)، وتظليل الوجه والجسد (الصورة الثانية).
في النهاية، قُسِّمت الرسومات التي شارك بها الأطفال في هذه المجموعة إلى رسومات تُظهِر أدوات الحرب كالأسلحة والجنود والقنابل، ورسومات تُظهِر رموز الحرب كالأعلام، ورسومات تُظهِر أنشطة الحرب كإطلاق النار، ورسومات تُصوِّر نتائج الحرب كالموت أو الإصابة، ورسومات توضِّح المشاعر كبكاء الناس، وقد نُشرت هذه الرسومات وتحليلها في بحث تحت عنوان "دراسة الأطفال السوريين اللاجئين في تركيا"، وقد استُخدمت في تحليل تأثير الحرب على الأطفال الذين شملتهم الدراسة، وأوضحت إصابة أكثر من نصفهم بأعراض اكتئاب حرجة، وأعراض الصدمة، وإصابة كل طفل منهم باثنتين أو أكثر من المشكلات النفسية.
أما المجموعة الثانية فتستعرض ما جمعه باحثون من رسومات أطفال تتراوح أعمارهم بين 4-12 عاما في أحد مخيم للاجئين ضمَّ عائلات فَرَّت من العراق إلى الأردن، نُشرت هذه الرسومات وتحليلاتها المرفقة أسفل الصور في بحث أكاديمي تحت عنوان "الأطفال يعبرون: الحرب والسلام في رسومات أطفال عراقيين لاجئين في الأردن"؟ عائلات هؤلاء الأطفال فَرَّت من العراق بعد سيطرة "تنظيم الدولة" على مدينة "بخديدا"، لذا يُلاحَظ في بعض هذه الرسومات ملامح لهذا التنظيم، مثل شعار "لا إله إلا الله"، وعلم التنظيم، ورسم جداري يدعو لقتال المسيحيين (كما في الصورة الأولى)، وكنائس محترقة أو مدمَّرة كما في الصور الأولى والرابعة، ولاحظ الباحثون أن رسومات الأطفال عن الحرب انقسمت إلى عدة أقسام، كالتعبير عن نشاط الحرب (القتل والتفجير)، أو الصراع بين مجموعات (الجيش العراقي والتنظيم)، أو الموت الذي تُسبِّبه الحرب، أو المشاعر السلبية التي تنتج عنها، وهذا مقارب لما أشار إليه الباحثون في المجموعة الأولى (4).


تحليل المشهد: ينقسم المشاركون في الحرب إلى فريقين في كل جانب، مع توضيح علم كل فريق؛ العلم العراقي وعلم داعش.
الطفل يوضح: "لقد رسمت دبابة لمقاتلي داعش تفجر منزلنا".

تحليل الرسم بمساعدة والدة الطفلة: تُعبِّر الطفلة عن امرأة ملقاة على الأرض بجانب أطفالها، جميعهم قتلى والدماء تغطيهم.

تحليل المشهد: إطلاق نار على منزل وكنيسة، قتل أطفال أبرياء، سيارات مفخخة، سماء سوداء، حزن، مقاتلو تنظيم الدولة.

كيف نُعرِّف أطفالنا بالحرب؟
ربما تخطر ببالك الآن الكثير من الأسئلة حول رسوم الأطفال وكيف يمكنك فهم لغة طفلك أو حمايته مما يجري حوله أو بعيدا عنه، خاصة مع استمرار تعرض الأطفال لصور الحرب ومشاهدها، سواء عبر معايشتها فعليا أو عن بعد. لذا حاولنا في "ميدان" الحصول على إجابات لأهم هذه الأسئلة من مصادرها الموثوقة والمتخصِّصة، وناقشناها مع الدكتور حسن ناصر، استشاري الطب النفسي، وكان أول ما ابتدأنا به أسئلتنا في هذا السياق حول الكيفية التي يمكننا أن نُعرِّف أطفالنا من خلالها بالحرب.
يرى ناصر أنه من المستحيل عزل الأطفال عن أحداث الحرب حولهم أو في العالم، سواء كانوا ممَّن يختبرونها أو يعرفون عنها من المدرسة أو الإنترنت، خاصة مع سهولة وصولهم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو احتمالية اكتشافهم ما يحدث من خلال أصدقائهم أو أساتذتهم، لذا سألناه حول كيفية شرح أحداث الحرب للأطفال والطريقة الأمثل التعامل معهم في هذه الحالة، فقدَّم هذه النصائح بوصفها إرشادات مفيدة تساعد الأهل في مناقشة ما يحدث مع أطفالهم.
أولا، على الأهل تجنُّب الكذب أو إخفاء المعلومات الأساسية حول الحرب، حتى يتمكَّن الأطفال من الوثوق بأهلهم ولضمان استمرار هذه الثقة. في هذا السياق، على الكبار إظهار الانفتاح والاهتمام بمناقشة الموضوع مع الطفل، وعدم تجاهل أو تجنُّب الحديث عن هذه الموضوعات معه. ويعتمد ما ينبغي إبلاغه للطفل على عمره، وما قد يعرفه بالفعل عن الصراع، ومقدار القلق الذي يشعر به تجاهه.
ابدأ بالخطوة الأولى، وهي استكشاف ما يعرفه الطفل بالفعل عن الموضوع، ومن أين حصل على معلوماته، وما إذا كانت المصادر التي يتابعها موثوقة أم لا، مثلا إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر، فمن الضروري توضيح أن الأشياء التي تُنشر عبر الإنترنت ليست صحيحة دائما.
إلى جانب ذلك، على الكبار تعديل إجاباتهم عن أسئلة الطفل عن الحرب بناء على عمر الطفل، وقد يكون من المفيد استخدام أمثلة من حياة الطفل اليومية، مثلا: قصة قرأها الطفل، أو لعبة فيديو شاهدها، أو لعبة تتضمَّن شخصين في نزاع، أو ببساطة حيوانان أليفان شاهدهما يتشاجران، هذه الأمثلة تعطي الطفل فكرة عن طبيعة الصراع وتحافظ على شعوره بالأمان، لأن ما قرأه أو شاهده لم يؤثر على حياته.
يجب كذلك تشجيع الطفل على مشاركة مشاعره حول الوضع، خاصة إذا كان قد شاهد صورا أو مقاطع فيديو للحرب، وإذا كان قلقا فعلى الكبار تقدير هذه المشاعر والتحقق منها والاعتراف بأن الوضع مُربك. العبارات التي تُظهِر التفهم والتعاطف مع الأطفال مفيدة جدا لتطبيع مشاعرهم، مثلا يمكنك القول: "قد يكون من المخيف أن نسمع عن الحرب، من الطبيعي أن يشعر المرء بالقلق في مثل هذه الظروف، فأي شخص سيكون خائفا بعد رؤية هذه الصور، لكننا سنتجاوز ذلك معا".
من الضروري جدا أن نعمل على طمأنة الطفل بأنه في أمان، وتعزيز شعور الأمان لديه عبر وضع خطط تعزيز الشعور بالحياة الطبيعية مثل: "غدا بعد المدرسة سنذهب إلى زيادة جدتك، وفي عطلة نهاية الأسبوع سنذهب إلى مطعمك المفضل"، وبالنسبة للأطفال الذين يعيشون في منطقة الحرب، فإنهم يحتاجون إلى مزيد من الطمأنينة بأن الكبار سيكونون دائما إلى جانبهم. لذلك فإن التواصل المستمر، وتفقُّد مشاعرهم يوميا، وعمل تمارين التنفس العميق، هي خطوات يُوصى بها بشدة لضبط عواطف الأطفال.
في النهاية، أوضح ناصر أن الأطفال يستخدمون طرقا مختلفة للتعبير عن مشاعرهم حول الحرب، وردات فعلهم لما يحدث فيها، وأن هذه الطرق تنقسم إلى نوعين، النوع الأول يُعرَف بالطرق البنَّاءة أو المفيدة للطفل، مثل الكتابة والرسم، فهي تساعده على التحدُّث عن الحدث أو وصفه، لذا فهي وسيلة آمنة له ليُعبِّر عن المواقف والذكريات المؤلمة التي يحملها، وإضافة إلى الكتابة والرسم، يمكن للتحدُّث أن يساعد الطفل في التواصل مع مَن حوله، وهنا سيختلف نوع وأسلوب التحدُّث مع الطفل بناء على عمره والأسلوب المُتَّبع عند التواصل معه، ولمساعدة الطفل على التحدُّث عن مشاعره، يمكن رواية قصة له حول حدث صعب، ثم سؤاله عن القصة وأحداثها، مثل سؤاله عما يعتقد أنها ستكون نهاية القصة، أو كيف تشعر الشخصيات في القصة، أو ما الذي سيفعله إن كان إحدى هذه الشخصيات.
أما عن النوع الآخر فهو الطرق السلبية، مثل أن تُظهِر سلوكيات الطفل شعوره بالضيق، أو أن تظهر عليه بعض السلوكيات كالتبول اللا إرادي، أو مص الإبهام، أو رفض الذهاب إلى المدرسة، أو التشبُّث بالوالدين أو أحدهما أو بمُقدِّم الرعاية، أو فرط النشاط وإثارة المشكلات في المدرسة أو في المجتمع، كذلك قد يُفضِّل الطفل البقاء بمفرده ويصبح أقل اهتماما بالأنشطة التي اعتاد الاستمتاع بها، أو أن يتعرَّض لاضطرابات النوم وفقدان التركيز، أو يُعبِّر كثيرا عن شكاوى جسدية متكررة كالصداع وألم البطن دون سبب واضح.
حسنا، يشهد طفل من بين كل 6 أطفال حول العالم الحروب والنزاعات المسلحة، في عام 2019 فقط وصل عدد الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحروب إلى 426 مليون طفل، أما بالنسبة لمنطقتنا العربية والشرق الأوسط، فإن اثنين من كل 5 أطفال يعيشون في مناطق الحروب، وهو ما يعني أن تعلُّم مداواة الأطفال الذين يعيشون هذه الأحداث المأساوية لم يعد مجرد رفاهية، ولعنا لا نبالغ إذا قلنا أنه سيكون عاملا فارقا في تحديد مستقبل العديد من البلدان.
—————————————————————–